عام 1804 أُعيد تنظيم الأراضي الأوكرانية لتكون مقاطعات روسية. حُظرت اللغة الأوكرانية وأصبحت الروسية هي اللغة الرسمية، واعتبرت الإمبراطورية الروسية أوكرانيا جزءًا أصيلًا منها. لكن النزعة الانفصالية لم تخفت. حاولت الإمبراطورية الروسية إخضاع الانفصاليين بالقوة والثقافة، فطوَّر الروس مفهوم الأمة الروسية القائمة على ثلاثة أعمدة، الروس العِظام، وهو شعب روسيا الحالية، والروس الصغار، وهم الأوكرانيون، والروس البيض، وهم أبناء بيلاروسيا.

أتت الثورة البلشفية فتفتت الأمة الروسية، واستقلت أوكرانيا من جديد عام 1918. لكنه كان استقلالًا قصيرًا، فسرعان ما استعاد البلاشفة السيطرة عليها، لكنهم منحوا أوكرانيا استقلالًا شكليًّا ضمن الاتحاد السوفيتي، واعتبروها ثاني أهم دولة فيه بعد روسيا. لكن بالطبع لم يكف جوزيف ستالين عن محاولات إخضاع أوكرانيا، فجرَّب معهم «هولودومور» (الإخضاع بالتجويع) وهي إجراءات عقابية قام بها ستالين في عامي 1932 و1933، جعلت أوكرانيا تشهد واحدة من أكبر مجاعات التاريخ.

عام 1954 قام نيكيتا خروشوف، الزعيم السوفيتي، بإهداء أوكرانيا شبه جزيرة القرم كبادرة لتعزيز الوحدة بين الروس والأوكران. لكن المفاجئ أنه في نفس العام كان السوفيت قد قضوا بقسوة على تمرد مسلح قام به قوميون أوكرانيون أطلقوا على أنفسهم الجيش الثوري الأوكراني.

تفكَّكَ الاتحاد السوفيتي، فأجرى الشعب الأوكراني تصويتًا للبقاء ضمن الاتحاد الروسي، روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا، أو الاستقلال كأمة أوكرانية، 90% من الشعب اختار الاستقلال. رغم استقلالها ظلت العلاقات مع روسيا موضوعًا للجدل في أوكرانيا إلى عام ٢٠٠٤ عندما كان فيكتور يانكوفيتش، المقرَّب من روسيا، على وشك تولي الرئاسة بعد فوزه بالانتخابات، لولا أن انتفاضة مدنية عرفت بـ «الثورة البرتقالية» التي أدت إلى إعادة الانتخابات، ما أدى إلى فوز فيكتور يوشتشنكو، القريب من الغرب والمعادي للتقارب مع روسيا. بدأ الرئيس الجديد في اتخاذ خطوات جادة في التحالف مع الاتحاد الأوروبي والناتو.

انتخابات حرَّة توجِّه الدفة لروسيا

6 سنوات من الود مع أوروبا والناتو انتهت بانتخابات عام 2010. أعادت الانتخابات يانكوفيتش إلى الرئاسة، وبدأ الرجل في قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ووقع اتفاقية مع روسيا يسمح لها باستخدام شبه جزيرة القرم كقاعدة لأسطول البحر الأسود الروسي في مقابل الغاز الروسي منخفض السعر. لكن يانكوفيتش حاول إمساك العصا من المنتصف، فلم ينصهر بالكامل مع روسيا، ورفض عرضًا روسيًّا بدمج شركات الطاقة في البلدين، ولم ينضم للاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا. وفي نفس الوقت سمح للغرب بالتواجد في أوكرانيا لتحديث بنيتها التحتية، وأعلن أن التكامل مع أوروبا هو أولوية في السياسة الخارجية الأوكرانية.

وسعى للوصول لاتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، وللحصول على قرض من صندوق النقد الدولي. القرض أتى ومعه اشتراطاته التقشفية. تدخل بوتين في تلك النقطة وعرض على الرجل قرضًا بنفس قيمة صندوق النقد الدولي لكن دون التقشف، لم تقدم أوروبا ما يدعم الرجل، فوافق على عرض بوتين. لأن بوتين في نفس التوقيت كان يهدد بقطع العلاقات التجارية مع أوكرانيا، فلم يكن أمام يانكوفيتش سوى مجافاة الاتحاد الأووربي والقبول بالولاء لبوتين.

 تأرجح الرئاسة بين الرجلين يكشف عن الصراع الداخلي الأوكراني بين فريقين عريضين، الفريق الأول يميل لأوروبا ويريد الانضمام لحلف الناتو، وذلك الفريق يتركز بشكل أساسي في غرب البلاد. أما الفريق الثاني فيريد مزيدًا من التقارب مع روسيا والانضمام لها، وذلك الفريق مركزه الأساسي في شرق البلاد التي يتحدث أهلها بالفعل اللغة الروسية كلغتهم الأولى.

لكن في عام 2014 شهدت أوكرانيا ثورةً ضد يانكوفيتش، ثورة أوروميدان، ومثلها مثل ثورة البرتقال، كانت داعمة للتقارب مع الغرب والبعد عن روسيا. لكن استخدمت قوات الأمن أسلحتها وأسقط القناصة وحدهم قرابة 100 متظاهر. استمرت الأحداث في التصاعد، ورغم أن مظاهرات ميدان الاستقلال، أو ميدان الكرامة، لم تكن تمثل غالبية الأوكرانيين إلا أن رد الفعل العنيف من قوات الشرطة والدعم الغربي للمتطاهرين أدى إلى أن يفر يانكوفيتش من العاصمة ويتجه إلى شرق البلاد، إلى روسيا، للنجاة بحياته. في تلك التظاهرات كانت الغلبة لليمين المتطرف، وكان المتظاهرون يحملون أسلحتهم البدائية أو الكلاشينكوف.

حكومة لا يعترف بها شعبها

زعماء المعارضة تولوا الحكم خلفًا للرئيس الفار، وأول قرارهم كان اعتقاله ومحاكمته بتهم قتل المتظاهرين السلميين.  لكن المفاجأة أن قادة اليمين المتطرف لم يكونوا أبرياء من تلك التهمة، فالتحقيقات قد كشفت أنهم من بين من رتب لإطلاق النار على المتظاهرين. فلم يكونوا يرغبون في الحل السلمي الذي أوشك يانكوفيتش وزعماء المعارضة على الموافقة عليه بإجراء انتخابات جديدة وتقليص صلاحيات الرئيس.

بعد تجريد يانكوفيتش من منصب الرئاسة بتصويت البرلمان لم تجد السلطة الجديدة إجماعًا دوليًّا حولها، فروسيا اعتبرت السلطة الجديدة انقلابًا على الشرعية، وتمردًا مسلحًا لا يجب الاعتراف به. بينما الغرب والولايات المتحدة الأمريكية أظهروا دعمًا قويًّا لا شكوك فيه للسلطة الجديدة. وامتد الأمر حتى وصل إلى فلاديمير زيلنكسي، الرئيس الأوكراني الحالي، الراغب في الانضمام للناتو، ومجافاة روسيا.

الانقسام حول السلطة الجديدة لم يكن دوليًّا فحسب، بل محليًّا كذلك. الأقاليم الشرقية ذات الهوى الروسي أعلنت عدم اعترافها بالسلطة المركزية. من تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس. لم تكتفِ تلك الأقاليم بالإعلان الكلامي عن عدم الولاء للحكومة المركزية بل استخدموا السلاح لتوضيح موقفهم أكثر. فاشتد القتال بين قوات الأقاليم، القوات الانفصالية، وبين القوات النظامية الأوكرانية. وأعلنت القرم انفصالها التام عن أوكرانيا وتأسيس جمهورية القرم المستقلة.

وبمجرد إعلانها تأسيس نفسها وجه حاكم القرم رسالة رسميةً إلى بوتين يطلب فيها الانضمام لروسيا. فدخلت القوات الروسية شبه الجزيرة وأعلنت ضمها رسميًّا إليها. أثار التدخل الروسي في القرم عاصفة من الانتقادات والعقوبات الغربية على موسكو، لكن لم تثنِ تلك العقوبات جهود بوتين في دعم الأقاليم الانفصالية الأخرى، ولم تخرجه كذلك من القرم. لكن بعد مداولات طويلة توصل الجميع إلى اتفاق مينسك. وبرز اسم الاتفاق مرة أخرى إلى الواجهة في الأزمة الحالية لأن بوتين يراه المخرج من الوضع المحتقن.

بوتين يريد مينسك

اتفاقيات مينسك الأولى، عاصمة روسيا البيضاء التي استضافت المفاوضات، تمت بين القوات الانفصالية وبين الحكومة المركزية الأوكرانية. تنص الاتفاقات على تبادل الأسرى، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية لمناطق الصراع، وتقوم القوات الانفصالية بسحب الأسلحة الثقيلة من مواجهة القوات الحكومية. 5 أشهر و14 ألف قتيل كانوا كافين لإعلان أن تلك الاتفاقيات واهية، ولا بد من تصحيح الأوضاع.

مينسك الثانية وقعت عليها ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا، وأقرها مجلس الأمن. نصت الاتفاقية على الوقف الفوري لإطلاق النار، وتبادل الأسرى. والأهم هو تعهد الحكومة الأوكرانية بالتخلي عن اللامركزية في الحكم، واعتماد النظام الفيدرالي بدلًا من الحكومة الواحدة، وإجراء انتخابات عامة جديدة. وأن تعفو الحكومة الأوكرانية عن كافة الانفصاليين أو من ينضم إليهم.

ربما بهذه الاتفاقيات يكون بوتين قد أشبع رغبته فيما يريده من أوكرانيا، ووافقت أوكرانيا على ما يريده بوتين. لكن من جديد عادت أوكرانيا لتسبب نزاعًا بين الغرب وروسيا، هذه المرة لم تكن أوكرانيا ذاتها مطلب بوتين، بل يريد الرجل من الغرب أن يترك أوكرانيا، لا يضمها بوتين إليه، ولا تنضم أوكرانيا لحلف الناتو. فبوتين يريد أن تتخلى أوكرانيا عن كل مظاهر الرغبة في الانضمام للحلف.

كما قدَّم مطالب محددة للإدارة الأمريكية تشمل رغبة بوتين في الحصول على ضمانات قانونية مكتوبة تقدِّمها الإدارة الأمريكية وتلتزم فيها بأن أوكرانيا لن تنضم، حاليًّا أو في المستقبل، لحلف الناتو. كذلك يريد بوتين من الحلف أن يسحب كافة أسلحته الهجومية من شرق أوروبا، كبولندا والمجر. بوتين يبرر موقفه بأن الناتو وعد منذ عقود أن الحلف لن يتسع ليشمل أي دول من شرق أوروبا لكنه بالفعل ضم بولندا والمجر، والآن يوشك الحلف أن يحتوي أوكرانيا، ما يراه بوتين يمثل تهديدًا مباشرًا لروسيا لا يمكن التهاون معه. خصوصًا مع دولة بحجم أوكرانيا، ثاني أكبر دولة بعد روسيا من حيث المساحة.

الهروب نحو الهاوية

أما الإدارة الأمريكية فتريد أمرين من الأزمة الحالية، أولهما أن تترك موسكو أوكرانيا دون التدخل في شئونها، ثانيهما أن تسحب روسيا قواتها المحتشدة حاليًّا على حدود أوكرانيا. وهما أمران تتعهد موسكو نظريًّا بالوفاء بهما بمجرد الاستجابة لمطالبها. لكن الجانب الغربي يرفض القبول بأيهما. ولعلَّ ما حدث عام 2014 والدعم الغربي للتظاهرات يفسر أن ما يريده الغرب حقًّا هو عزل روسيا عبر دمج الدول المحيطة بها، ورفاقها السابقين في الاتحاد السوفتيتي، في التحالفات الأوروبية.

ويستمر الحشد الإعلامي لقرب الغزو الروسي لأوكرانيا. الأمر الذي أزعج الرئيس الأوكراني نفسه، فقال في خطابه إن هناك مبالغة غربية فيما يتعلق بالنوايا الروسية لغزو أوكرانيا، وإن أوكرانيا هي من تدفع ثمن تلك المبالغات.

الرئيس الأوكراني قال ملمحًا إن هناك بعض القادة قد يستفيدون سياسيًّا من الأمر، لكنه يضر أوكرانيا في نهاية المطاف. قد يكون زيلنكسي يُلمح إلى الموقف الملفت لبايدن وحديثه المستمر حول الغزو المرتقب، لدرجة تحديد موعد له، بينما يقترب بايدن من انتخابات التجديد النصفية في الكونجرس الأمريكي وهو يعاني من أسوأ تدنٍ في شعبيته. كذلك رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي تلاحقه دعاوى قضائية بسبب انتهاك قانون الحظر وإقامة حفلات خاصة في ظل الوباء. كما يعاني ماكرون، الرئيس الفرنسي، من تدهور شعبيته وهو على بعد أقل من 60 يومًا من انتخابات الرئاسة.

لكن يبدو أن القادة الألمان خارج التلميح الأوكراني باستغلال الأزمة، فقد رفضت ألمانيا تزويد أوكرانيا بأي أسلحة، عكس ما فعلت الولايات المتحدة وبريطانيا. وأكدت وزارة الدفاع الألمانية أن برلين تستبعد مد أوكرانيا بأي أسلحة في هذا الصراع. كما أكدَّ أولاف شولتس، المستشار الألماني، أن بلاده ملتزمة بسياسة عدم مد مناطق الصراع بأي أسلحة فتاكة. واكتفت ألمانيا بإعلان مد أوكرانيا بمستشفى ميداني كامل التجهيزات بقيمة 6 ملايين دولار. قرار برلين يمكن تفسيره بمعرفة أن روسيا تمد برلين بخطوط طاقة هائلة الحجم، ما يعطي موسكو نفوذًا اقتصاديًّا على برلين.

ومهما يكن ما ستنتهي إليه الأزمة الراهنة، أو الأزمات التي تليها، فإن أوكرانيا سوف تظل دولةً على حافة الهاوية، كما هو اسمها، فأوكرانيا تعني حرفيًّا على الحافة. وقدرها أن تعيش بين موسكو التي  تستخدم الحشود العسكرية لتهديدها والقروض الميسَّرة لترغبيها، وبين الولايات المتحدة والغرب الذي يستخدم أسلحة أشد تطورًا بإثارة القلاقل، والتحكم في مجريات الأحداث عبر الدعم المادي والسياسي كي تئول الرئاسة لمن يهواه الغربيون.