في البدء يُولد الحلم ثم يولد الإنسان.

آه…

ثمة إجهاضات سعيدة، ألا ليتها قد حدثت.

(مشهد 1) عام 2013 صيف حار – في الشارع

مات أبي قبل امتحانات نهاية العام بأسبوع، لا أعلم كيف خضتها، لكن الآن أنتظر ودفعتي نتيجة الثانوية العامة.

أيها الرفاق والزملاء والأصدقاء: ثمة أيام ونستريح، فبعد أن نُعتنا بدفعة «وحي» نظراً لسؤال جمع الكلمة نفسها في امتحان اللغة العربية، وبعد أن دخلنا ثانويتنا تلك قبل الثورة، وحلّت الثورة، وها نحن بعد ثورة أخرى، وبعد أن مُنينا بامتحانات متقلبة، ها نحن ننتظر الحصاد.

أيها الأعزاء شركاء القسم الأدبي، يا منْ تحلمون بكليات السياسة والإعلام، يا منْ سهرتم ليالي في خوف، في حزن، يا من استنشقتم غاز المظاهرات طوعاً أو رغماً وأنتم ذاهبون لدروسكم، تهيئوا للفرحة، وتهيبوها.

تقاطع أول

أتت النتائج مخيبة، تنسيق عالٍ، ودرجات كأن أناساً غيرنا ذاكرت وامتحنت، لي أصدقاء حال امتحان علم النفس -المادة الأدبية للقسم العلمي- دون دخولهم كليات الطب والهندسة.

ونحن كقسم أدبي، فأقليتنا ذهب للسياسة والإعلام، أّما نحن فذهبنا إلى كلية الألسن.

حسناً، للاسم وقع لطيف، لعل أيامنا هناك تكون كذلك، فالحلم لم يمُت بعد.

كنّا في نهاية ذلك الصيف الحار، الذي صار حزيناً، ننتظر دخولنا أقسام لغات تعد بمستقبل جيد، كاللغات الألمانية والإيطالية والإسبانية.

(مشهد 2) مظاهرة أمام الجامعة

أقف أمام الكلية وجمع من دفعة لم تبدأ دراستها بعد، نتظاهر اعتراضاً على التنسيق الداخلي.

فقد حدث وأن اعترض مستوفو شرط المجموع الكلي للقبول في ألسن ولم يستوفوا شرط مجموع اللغات عدم قبولهم في الكلية.

كان لألسن شرطان للالتحاق، وهما مجموع كلي، ومجموع لغات 90%، واعترضوا لأنه كيف أن مجموع أحدهم يتجاوز الـ90% لا يدخل كلية لغات لأن مجموع درجاته في اللغات غير كافٍ؟!

وأذعنت التعليم العالي بالموافقة، إذ كانت أياماً مضطربة.

تمت إعادة التنسيق الداخلي مجدداً، لاستيعاب العدد الزائد، فصار القبول في قسم اللغة الإيطالية بالعلامة الكاملة للغة الثانية، والإسبانية من 49.5 من 50 درجة، وأقسام اللغات السامية والفارسية والتشيكية التي لم يكن لها حد أدنى للقبول صار لها سعراً، وأخذت من مجموع لغات 44 درجة في اللغة الإنجليزية. نعم فالتضخم بدأ لدينا من ألسن.

أسفرت نتيجة المظاهرة عن تعديل بسيط وهو قبول قسم الإيطالية من 49.5 وإسباني من 49 بأسبقية المجموع الكلي، مثلاً: طالب مجموعه 92% ودرجته 49 سيدخل القسم وطالب مجموعه 91.1 ودرجته 49 لن يدخل.

وتأخرت نتيجة التنسيق حتى مع بدء الدراسة، إذ كانت دفعة أولى ألسن عين شمس 2013 هي الدفعة الوحيدة التي تأجلت لها الدراسة من بين كل طلبة مصر من أطفالها حتى شبابها.

تقاطع ثانٍ

عندما ظهرت النتيجة، حدث ما توقعته وأُلقِيَ بي في قسم اللغات السامية (العبرية)، حينها تذكرت درجتي في اللغة الفرنسية 49 من 50، وكيف أنني لو لم أكن جوملت -صدفة- في نصف درجة كان جموعي الآن 49.5 ولم أكن التحقت بألسن من الأساس حتى قبل تعديل التنسيق، أو أن علامة صح أو خطأ طائشة رسمتها في نفس الامتحان، فرسمت ذلك المصير الحزين.

(مشهد 3) في الجامعة – داخل الكلية

 المبنى باللون الرمادي الكالح، تغطيه طبقة صفراء باهتة من التراب، يبدو مهيباً، ربما مُقبضاً، لكنه مختلف عمّا حوله، دلفت إليه، سألت طالباً أين قسم عبري؟

ضحك وقال لي إن له سنوات هنا لا يعرف أين القسم.

اعتمدت على نفسي وصعدت المبنى، طرقات متداخلة ومتقاطعة طولاً وعرضاً، تنشَّق إلى جانبين، أيضاً طولاً وعرضاً، أشبه بكومودينو ضخم أدراجه صغيرة الحجم، لا يمكن لها احتواء فردة شراب، في أحدها وجدت دفعتي جالسة، متراصة فوق بعضها، يجلسون في غرفة أصغر من فصل في مدرسة، البعض يفترش الأرض، البعض الآخر ذهب للإتيان بكراسي، كأنه تنجيد عروسة في قرية.

(مشهد 4) جراج الجامعة – طلاب تحت الأرض

كانت ساحة الكلية لها سلالم، تفضي إلى وسعاية لركن السيارات، في هذه الوسعاية كانت هناك أبواب واسعة، تحوي قاعات كبيرة تفضي بعضها إلى بعض، في كل قاعة عدة مقاعد رديئة تتقدمها سبورة لونها أبيض باهت.

هناك قرّروا أن ندرس، تحت الأرض، وقيل لي لاحقاً إنه عند بدء أول محاضرة هناك، قالت لهم دكتورة ما كل هذا العدد الضخم؟ إن خريجي عبري لا يجدون عملاً بعد التخرج.

هكذا قررت أن تُرحِّب بنا.

تقاطع ثالث

جميعنا لا يعرف منْ أتى به إلى هنا، صديق كان يدرس الألمانية في الثانوية، رفضت الكلية التحاقه بالقسم لأن دراسته لها كانت كلغة ثانية في المدرسة الثانوية، وهي تشترط أن تكون كلغة أولى، بعد ذلك بعام أُلغي هذا الشرط.

وصديق آخر حوّل إلى ألسن المنيا لدراسة اللغة الألمانية أيضاً، بعد أيام أعادوه لألسن عين شمس، وفشلت حيلته.

حتى صديقنا الذي اختار القسم طوعاً، بعدما كان في العام السابق في قسم اللغة التشيكية، وقرّر تغيير القسم، فاقترح عليه البعض أن يذهب إلى قسم اللغات السامية لأن عدده قليل.

صديقنا هذا أحب زميلتنا وتزوجها وأنجب منها ولداً، وحتى الآن لا يزال عالقاً في ألسن.

نخضع لذلك، ونحن جالسون على مقاعد متهالكة، نستمع إلى شرح المعيدة.

كالبلهاء كنا، لا نفهم شيئاً، وهي لا تستطيع الشرح.

(مشهد 5) ليلاً – على مقهى في ميدان التحرير

أجلس مع صديقين، نحتسي الشاي بالنعناع، نختلس لحظات سعيدة من براثن الكلية، نشكو خيبة أملنا لبعضنا، فصديق صُدِم من حجم القسم، وانتابه الاكتئاب، وكيف كانت الثورة دافعاً له للمذاكرة، والآخر كاتب قصة قصيرة، يُدخِّن أكثر من التحدث، كان قد دخل في مشادة مع دكتور كبير، أودت به إلى إعادة السنة. أمّا أنا، فقصصت عليهم حلم الصبا في الالتحاق بكلية الإعلام وموت أبي، ومحاولاتي العديدة الفاشلة في التحويل من ألسن.

لم يسعفنا الهرب، لم ينجينا الخضوع.

(مشهد 6) مقهى جوار الجامعة

لقد مرت الأربع سنوات، أجلس مع أصدقاء الكلية، أرانا وقد تحولنا من طلبة متفوقين إلى حفنة من «الصيّع» يجلسون على المقهى، ولا يحضرون أي محاضرة.

أنظر للأصدقاء مبتسماً وأتساءل:

كيف وصلنا إلى العام النهائي معاً؟

فلاش باك

مأساة المعيدة في بداية الدراسة تحولت إلى مآسٍ.

 كانت أغلب المحاضرات أشبه بمقرأة، يعطينا الأساتذة ورقاً نترجمه ونُحضِّره، ثم يأتي كل منهم المحاضرة التالية يقرؤه معنا، وبعد منتصف الترم يُطلب منّا أبحاث بمراجع نادرة، كل بحث عليه درجتين فقط، كنت أعد البحث وأتركه للأصدقاء يناقشونه، بينما أنا في الخارج أبحث لهم عن ورق للمراجعة.

حتى مادة الاستماع أهم المواد، كانت تأتي ساعة في الأسبوع لفصل وحيد في السنة، وقواعد اللغة معلوماتنا توقفت عنها عند هاء التعريف وواو العطف، فعلى مدار عامين كنا ندرس علم اللغة باللغة العربية، وقواعد العبرية نعرفها لِمَاماً، حتى جاء العام الرابع ودرسناها، كنّا قد فقدنا الأمل في تعلم اللغة، الحق أننا فقدناه بعد أول أسابيع الدراسة، لقد حلمنا واجتهدنا في المرحلة الثانوية، فلماذا حدث لنا ما حدث؟

إذا ضاع الحلم، ضاع كل شيء وانتهى.

تقاطع رابع

كنّا إذ انتهينا من امتحان أو مرحلة صعبة، نذهب لتناول الكبدة بالردة احتفالاً بانتصارنا الخائب، وقرب الخلاص من ألسن.

(مشهد 7) على مقهى في العباسية

أجلس مع زميلة دراسة، صديقة بعدها، بالصدفة رأينا زميلة كانت معنا في القسم، بعد السلام والسؤال عن الأحوال، تسألها صديقتي ماذا تعملين الآن؟ ردت بصوتٍ خافت، ونظرة حزينة تنظر إلى بعيد: «كول سنتر».

تقاطع أخير مرير

الآن يعمل كل منّا عملاً بعيداً عن تخصصنا، صرنا من المُهمَّشين التائهين بعدما كنا يوماً ما مراهقين متفوقين ولنا أحلام.

 ونتساءل لماذا خضنا كل تلك الرحلة ونحن كنّا سنعمل نفس وظائفنا الحالية بربع ما تعلمنا وخضنا؟!

فعملي -مثلاً- كصنايعي للسبح لم يكن ليحتاج كل ذلك.

لم تتبقَ لنا سوى بضع ذكريات، بضع أصدقاء، واسم المؤهل -زعماً- العالي في البطاقة الشخصية، ربما يُنجي من كمائن شرطة مباغتة ومتحفزة، أو يعطي وجاهة ما عند تخليصنا لورقة في مكان حكومي أو شركة اتصالات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.