منذ ثلاث سنوات اشترت تركيا منظومة الـإس 400 الدفاعية من روسيا، مرّ الأمر بسلام حينها لكن لم يكن أحد يعلم أن الولايات المتحدة تتربص بتركيا طوال تلك السنوات. في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2020 وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عقوبات على تركيا بموجب قانون كاتسا.

كاتسا أو قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة عن طريق العقوبات قانون قديم لكن قائمة ضحاياه دائمًا متجددة، وتحت مظلة هذا القانون الفيدرالي تستطيع الولايات المتحدة فرض كل ما تريد من عقوبات اقتصادية وعسكرية على أي دولة تراها الإدارة الأمريكية تتخذ مسارًا يهدد الولايات المتحدة، ولا يشترط أن يكون التهديد مباشرًا كتلويح بالحرب أو بضرب منشآت عسكرية أمريكية، بل يكفي أن تكون الدولة موضع العقوبة قوةً صاعدة تهدد بمزاحمة الهيمنة الأمريكية.

هدف القانون، وهدف العقوبات، هو فرض حصار اقتصادي على الدول بمنع حلفاء الولايات المتحدة من التحالف مع تلك الدول. وأول الدول التي طالها ذلك القانون، ومن أجلها صيغ، هى روسيا عقب تدخلها العسكري في أوكرانيا. القانون الذي شارك في صياغته نواب من الحزب الديموقراطي والجمهوري عام 2017 يُعد من الأحداث القليلة التي شهدت توافق الحزبين تحت إدارة ترامب.

أصبح القانون ساريًا عام 2018 وتحوّلت القرارات الرئاسية بفرض العقوبات إلى قانون، ما يعني أن العقوبات تصبح سارية المفعول بمجرد توقيعها، ولا تتغير بتغيّر اسم الرئيس ولا باختلاف توجهات الإدارة الأمريكية.

جميع الاختيارات مُرة

كاستا يجبر الرئيس الأمريكي على اختيار 5 عقوبات، كحد أدنى، من أصل 12 عقوبة يحددها القانون، ويجب أن يختار الرئيس تلك العقوبات الخمس في غضون 30 يومًا، كحد أقصى، بمجرد إعلان أن دولةً ما قد باتت تحت مرمى نيران قانون كاستا، وأصبحت الإدارة الأمريكية تعتبرها عدوًا إستراتيجيًا.

تبدأ العقوبات بمجرد حرمان الدولة المقصودة من مساعدة بنك الائتمان الأمريكي، ثم حرمانها من سلع وصادرات الولايات المتحدة، ثم حرمان الدولة المعنية من الحصول على أي قرض من أي مؤسسة مالية أمريكية.

بعد الثلاث عقوبات السابقة تتسع العقوبات فتشمل السعي الأمريكي لمنع حصول الدولة المستهدفة على أي قرض من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي.

الاختيارات الأربعة السابقة كان دور الولايات المتحدة فيها سلبيًا، مجرد منع مساعدتها وحث الآخرين على عدم المساعدة، لكن بدايةً من البند الخامس يبدأ فرض العقوبات، عقوبات على أي مؤسسة تعمل مع الدولة المستهدفة وفي نفس الوقت تساهم فيها الولايات المتحدة أو تعمل تلك المؤسسة وسيطًا باسم الولايات المتحدة مع دول العالم. ثم البند السادس القاضي بمعاقبة أي جهة تشتري سلعًا أو خدمات أمريكية وتبيعها للدولة المستهدفة.

الاختيار السابع هو معاقبة أي معاملة مالية تتم مع الدولة موضع العقوبة في منطقة تخضع للولاية القضائية الأمريكية. وثامنًا تتم معاقبة كل من يقوم بتحويل بنكي لأي بنك يتعامل مع الدولة المقصودة، وتاسعًا منع ومعاقبة كل من يتصرف في ممتلكات تابعة لتلك الدولة، وعاشرًا منع تلك الدولة من الحصول على أي أموال تستحقها من امتلاك حق الملكية الفكرية لأي منتج يستخدمه الأمريكيون.

تصل العقوبات إلى ذروتها في آخر بندين وهما الخاصيّن برفض منح تأشيرات لموظفي الشركات ذات الصلة بالدولة المستهدفة أو حتى بالشخص الموجهة ضد العقوبات، ثم عقوبات مباشرة على المسئولين التنفذيين في الكيانات المستهدفة أو التي تتعامل مع الدول قيد العقوبة.

ترامب يلقي القنبلة في حضن بايدن

النواب الأمريكيون طالبوا بفرض العقوبات على تركيا منذ الأيام الأولى لحصول تركيا على الصفقة الروسية، لكن ترامب أراد الحفاظ على علاقات جيدة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لذا قرر تأجيل فرض العقوبات حتى أيامه الأخيرة في الحكم، ليكون على خليفته، جو بايدن، التعامل مع تركيا الغاضبة.

رغم أن تأثير كاستا معروف لما أوقعه على الدول التي طالها سابقًا مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا، لكن تأثيره المتوقع على تركيا ليس واضحًا حتى الآن، بسبب عدم إعلان الإدارة الأمريكية عن حزمة العقوبات بالتفصيل، لكن ما تتناقله الصحافة الأجنبية حتى الآن بأن العقوبات تستهدف صناعة الدفاع العسكري التركية وعلى رأسها إسماعيل دمير، أكبر مسئول في الصناعات الدفاعية التركية.

كما أن المتوقع أن تكون العقوبات مخففة لأقصى درجة يسمح بها قانون كاستا حتى لا تضطر الولايات المتحدة لإغضاب تركيا، حليفتها في حلف الناتو، ولأجل الحفاظ على أكبر قدر ممكن من العلاقات الدبلوماسية بين القوتيّن. لكن المؤكد أن العقوبات سوف تؤثر على استقرار الليرة التركية، لأنها سوف تؤثر بالتأكيد على ثقة المستثمرين في مستقبل تركيا السياسي، خاصة وأن تركيا، مثل باقي دول العالم، تعاني من آثار جائحة كورونا الاقتصادية.

ولم يتأخر تأثر الليرة كثيرًا، فبمجرد إعلان نية توقيع العقوبات انخفضت قيمتها بنسبة 1.7%، ليُضاف إلى 25% كاملة فقدتهم الليرة التركية من قيمتها منذ بدايات عام 2020 وأزماته المتتابعة.

علاقة المستبد بالمغرور

وزاد من تعقد الأمر تعاطي أردوغان مع النوايا الأمريكية، فقد بادر إلى وصف القرار الأمريكي بعدم الاحترام لدولة عضوة في حلف الناتو، وأشار أردوغان أنه حتى قادة الاتحاد الأوروبي الذين أرادوا توقيع عقوبات على تركيا بسبب نزاعها المستمر على الغاز في البحر الأبيض المتوسط لم يفعلوا شيئًا بسبب حكمتهم، على حسب وصف أردوغان.

لكن خروج ترامب من المشهد ودخول بايدن قد يحمل الكثير من التغييرات غير السعيدة لتركيا، على رأس تلك التغييرات أن ترامب كان حائلًا بين أعضاء الكونجرس الغاضبين من أردوغان وسياسات تركيا التوسعيّة، لكنّ بايدن ينوي فتح المجال لمزيد من العقوبات ضد تركيا، والسماح لأصوات النواب الساخطين على تركيا.

ومنذ الأيام الأولى لحملة بايدن وتركيا لا تتوقع أن تأتي رئاسته بخيرٍ لها، فقد صرّح نيكولاس بيرنز، أحد أقرب مستشاري السياسة الخارجية لبايدن، بأن بايدن ينوي مزيدًا من التقارب بين بلاده واليونان وبين بلاده وقبرص، ما يعني الإبحار بعيدًا عن تركيا.

أما بايدن نفسه فقد وصف أردوغان صراحةً بالمستبد، ودعا بصورة واضحة إلى دعم كل خصوم تركيا للحدّ من تصرفات أردوغان. وأضاف بايدن أنه على الولايات المتحدة أن تنتهج نهجًا مختلفًا تمامًا مع أردوغان، وأن توضح له الإدارة الأمريكية بشكل مفهوم أنها تدعم المعارضة ضده.

تصريحات شديدة اللهجة قابلها رد عنيف على لسان إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئاسة التركية، قال إن تحليل بايدن لتركيا فيه غطرسة وجهل ونفاق، وأضاف في تغريدة أخرى أنّه قد ولى الزمن الذي كانت تتلقى فيه تركيا أوامر من الخارج، وأردف موجهًا كلامه لبايدن، إذا كنت تعتقد أنك تستطيع فعل ذلك، فجرّب، وستدفع الثمن.

تصريحات الطرفين لا تبشر بأن العلاقات الأمريكية التركية سوف تكون في أفضل صورها تحت حكم بايدن، لكن الأيام القليلة القادمة هي التي تحمل الخبر اليقين.