بتكليف من الخليفة العباسي الواثق بالله، رأس الرحالة سلام الترجمان رحلة إلى سور الصين الشمالي ليتفقده ويقف على سلامته، بعدما رأى الخليفة في المنام أن السد الذي بناه الإسكندر ذو القرنين، بين ديار المسلمين وديار يأجوج ومأجوج، مفتوح، فانتابه ذعر وقلق، وأمر بإرسال هذه البعثة.

ورغم تشكيك عدد من المصادر في هذه الرحلة، فإن مصادر أخرى تؤكد قيامها، في حين يتحفظ البعض على ما روي بشأنها.

وقصة يأجوج ومأجوج ورد ذكرها في القرآن الكريم مرتين، ففي سورة الكهف الآية 94 جاء قول الله تعالى « قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»، وجاء أيضًا قوله تعالى في الآية 96 من سورة الأنبياء «حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ».

رؤيا منامية

ويذكر الدكتور حسين محمد فهيم في كتابه «أدب الرحلات»، أن الرحلة رواها ونقلها المؤرخ والجغرافي أبو القاسم بن عبيدالله المعروف بابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» على لسان سلام الترجمان، وكذلك عن التقارير التي رفعها هذا الرحالة للخليفة.

وبحسب فهيم، ذكر ابن خرداذبة أن سبب الرحلة هو أن الخليفة العباسي الواثق بالله (227 – 232هـ/ 842 – 847م) رأى في المنام أن السد الذي بناه الإسكندر ذو القرنين (والذي يقع بين ديار المسلمين وديار يأجوج ومأجوج) مفتوح، فأرعبه هذا المنام، وأمر بتسيير رحلة لتفقد هذا السد.

واستشار الواثق وزراءه والمقربين في من يقوم بهذه الرحلة، فقيل له إن أحدًا لا يصلح لها سوى سلام الترجمان، بخاصة أنه كان يتكلم ثلاثين لسانًا.

ويروي فهيم، أن الواثق دعا الترجمان، وقال له: «أريد أن تخرج إلى السد حتى تعاينه، وتجيئني بخبره»، وضم إليه خمسين رجلًا، ووصله بمال وبرزق يكفي مدة سنة، وأمر أن يهيئ للرجال اللبابيد (المعاطف) والأديم (الجلد) للوقاية من البرد والمطر، وكذلك تجهيزهم بالفراء والركب الخشب، وأعطاهم مئتي بغل لحمل الزاد والعلف.

مسار الرحلة ومشاهدات سلام الترجمان

سار الترجمان من مدينة سر من رأى بعدما أعطاه الخليفة كتابًا إلى حاكم أرمينيا إسحاق بن إسماعيل ليقضي حوائجهم ويسهل مهمتهم، فعنى هذا الحاكم بالرحالة ورجاله، وزودهم بكتاب توصية إلى حاكم إقليم السرير (مملكة واسعة كانت قرب بلاد الخزر)، وكتب لهم هذا الحاكم إلى أمير إقليم اللان، ويدعى فيلانشاه، الذي كتب بدوره لهم إلى ملك الخزر في إقليم بحر قزوين، بحسب ما روى الدكتور زكي محمد حسن في كتابه «الرحالة المسلمون في العصور الوسطى».

ووجه حاكم الخزر مع أفراد البعثة خمسة من الأدلاء، وسار الجميع ستة وعشرين يومًا، فوصلوا إلى أرض رائحتها كريهة، وكانوا قد حملوا معهم بناء على توصية الأدلاء خلّا لتخفيف هذه الرائحة.

وسار الركب في تلك الأرض عشرة أيام، ثم وصلوا إلى إقليم فيه مدن خراب، ساروا فيها سبعة وعشرين يومًا، وقال الأدلاء لهم، إن شعب يأجوج ومأجوج هو الذي خرب تلك المدن.

ووصلت البعثة إلى جبل فيه السور المنشود، وعلى مقربة منه حصون تسكنها أمة مسلمة تتكلم العربية والفارسية، ولكنها لم تسمع بخليفة المسلمين قط.

ويروي حسن، أن الركب تقدم إلى جبل لا نبات فيه، يقطعه واد عرضه مائة وخمسون ذراعًا، وفي الوادي باب ضخم جدًا من الحديد والنحاس، عليه قفل طوله سبعة أذرع وارتفاعه خمسة، وفوق الباب بناء متين يرتفع على رأس الجبل.

وبحسب ما نقل حسن عن ابن خرداذبة، فإن رئيس تلك الحصون كان يركب في كل جمعة ومعه عشرة فرسان، مع كل منهم مرزبة من حديد، فيجيئون إلى الباب ويضربون القفل ضربات كثيرة، ليسمع من يسكنون خلفه، فيعلموا أن للباب حَفَظة، وليتأكد الرئيس وأعوانه الفرسان من أن أولئك السكان لم يحدثوا في الباب حدثًا.

تأكيد هيمنة الخلافة

ويرى ثامر نعمان مصطاف في دراسته «رحلة سلام الترجمان إلى سد يأجوج ومأجوج، دراسة تاريخية»، أن المنام الذي رآه الخليفة لم يكن الباعث الحقيقي لهذه الرحلة، وأنه ربما اتخذ هذا الحلم ذريعة لسبب آخر هو رغبته في تأكيد هيمنته على تلك الأقطار التي مر بها سلام الترجمان، وهذا ما تأكد بالفعل، إذ أبدى الملوك والأمراء اهتمامًا بكتب الخليفة التي تتضمن ضرورة تسهيل مهمة الرحالة ومن معه.

على كلٍ، عاين سلام السد، وأخرج من خفه سكينًا وحك بها موضع شق في السور، فأخرج منه مقدار نصف درهم، ووضعه في منديل ليريه للخليفة الواثق، ثم سأل الناس هناك إذا ما رأوا من يأجوج ومأجوج أحدًا، فذكروا أنهم رأوا ذات مرة عددًا منهم فوق السور، فعصفت بهم ريح سوداء ألقتهم إلى جانبهم، وكان مقدار الرجل في رأي العين شبرًا ونصف الشبر.

ويروي مصطاف، أن سلام لما أتم مهمته، أرشده الأدلاء إلى ناحية خراسان مارًا بعدة مدن، لكن الرحلة كلفته حياة عدد كبير من رجاله، إلى أن رجع مع ما تبقى من صحبته إلى سر من رأى، واستغرقت تلك الرحلة ثمانية عشر شهرًا.

تشكيك في صحة المشاهدات

غير أن هناك مؤرخين وباحثين شككوا في الرحلة، أو ما روي عنها، فيذكر نوفل محمد نوري في دراسته «الأسطورة والحكاية الشعبية وأثرها في ثقافة الرحالة المسلمين»، أن أحدًا من الرحالة أو الجغرافيين لم يثبت صحة نقولات ابن خرداذبة في ما نقله عما سمعه أو شاهده سلام، سوى اعتماده على حكايات شعبية لأهل تلك الأماكن، وقد نقل رواية سلام عن ابن خرداذبة عدد من المؤرخين المسلمين، منهم عبدالرحمن بن علي بن الجوزي، وياقوت الحموي، وعمر بن منصور بن الوردي، ومحمد بن عبدالمنعم الحميري.

وبحسب نوري، نقل ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» القصة دون تعليق وهو يتحدث عن رحلة الإسكندر الأكبر، إذ استعان بنصوص وردت في الأحاديث الشريفة عن علامات ظهور يأجوج ومأجوج، ثم ربطها بخبر مشاهدات وسماع سلام الترجمان.

وبدا ياقوت الحموي، وهو ينقل رحلة سلام عن ابن خرداذبة، وكأنه غير مصدق للقصة، فذكر في كتابه «معجم البلدان» بعد حديثه عن السد وقصة سلام «قد كتبت من خبر السد ما وجدته في الكتب، ولست أقطع بصحة ما أوردته لاختلاف الروايات فيه، والله أعلم بصحته»، بحسب ما نقل نوري.

أما ابن بطوطة فأنكر في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار» أن أحدًا قد رأى السد، أو أنه سمع من أحد قد رآه، وقال «ولم أر بتلك البلاد من رأى السد، ولا من رأى من رآه».

ويذكر نوري «لو عدنا إلى سيرة ابن خرداذبة الذي روى الرحلة، وطغى عليها أسلوب التشويق وتهويل المواقف، لوجدنا أنه كان يعمل نديمًا للخليفة المعتمد بالله، وغالبًا ما يكون جانبًا من عمل النديم للخلفاء هو في البحث عن النوادر من الأخبار العجيبة والغريبة كي يقصها على الخليفة، التي يكون فيها عنصري التشويق والإثارة واضحًا من أجل إسعاده أو التخفيف عنه، غير مكترث كثيرًا بصحة نقولاته».

وبحسب نوري، لم يكن ابن خرداذبة متخصصًا في الرحلات، ولم يكن رحالة أيضًا، فضلًا عن أن من ترجم له يصفونه بـ«أنه كثير التخلط، قليل التحصيل»، بحسب ما ذكر صلاح الدين بن أيبك الصفدي في كتابه «الوافي بالوفيات»، ومن ثم لا يمكن الاعتداد برواية ابن خرداذبة.

اختلاف المستشرقين حول الرحلة

يذكر المستشرق الروسي إغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي في كتابه «تاريخ الأدب الجغرافي العربي»، ونقله إلى العربية صلاح الدين عثمان هاشم، أن الدوائر العلمية الغربية اختلفت حول هذه الرحلة، فالمستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر اعتبرها مجرد أسطورة وقال إنها بمثابة «تضليل»، وهو موقف تبناه أيضًا المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي، الذي رأى أنها «حكاية خرافية تتناثر فيها بضعة أسماء جغرافية».

وفي المقابل رأى المؤرخ الهولندي ميخائيل يوحنا دي خويه، أن الرحلة واقعة تاريخية لا شك فيها، وأنها جدير باهتمام العلماء، وأيده في ذلك المؤرخ الروسي أليكسندر فاسيليف، الذي رأى أنه من الممكن القول إن سلامًا «قد نقل إلى الخليفة الروايات المحلية التي سمعها في الأماكن التي زارها».

ويرى كراتشكوفسكي، أن هذا الرأي الأخير لا يخلو من وجاهة، رغم أن وصف الرحلة لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية، بل مصنفًا أدبيًا يحفل بعناصر نقلية وانطباعات شخصية صيغت في قالب أدبي.

وبحسب كراتشكوفسكي، حاول البعض أن يعتبر رحلة سلام أسطورة خيالية وكفى، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن مصادر الأساطير الجغرافية في الأدب العربي وُجدت في ميادين أخرى غير هذا، أي بعيد عن رحلات الرحالة، فهي ترتبط بالأقاصيص والحكايات البحرية عن بلدان الشرق كالهند، وأرخبيل الملايو، أو بلدان الغرب، بخاصة سواحل افريقيا الشرقية، وقد بدأت هذه الأقاصيص تزدهر في القرن التاسع في مواني الخلافة كالبصرة وسيراف، وعلى وجه خاص في العاصمة بغداد، وفي الغالب وصلتنا هذه الأساطير بأقلام شخصيات أخرى كانت أحيانًا من معاصريهم، أو من ممثلي الأجيال التالية لهم، وليس عن طريق الرحالة.