في سكون الليل، حينما تُغني أم كلثوم، فكل شيء يُصغي، أنت، زوجتك، الطريق، مقوّد السيارة والإطارات، حتى النجوم في سماء الرب وذرات هاتفك. بعد مقطوعة موسيقية تستحق التأمل، تسألك زوجتك عن القمر الذي يهرب أمام السيارة، عن النجوم الصغيرة حوله ومدارتها. حسنًا، كتاب الفيزياء الكلاسيكية ينقذ رقبتك.

الفيزياء الكلاسيكية -بدايةً بقوانين نيوتن ثم النظرية النسبية- يُمكنها أن تُجيب على أسئلة زوجتك المزعجة[1]، تستطيع الفيزياء الكلاسيكية وصف حركة النجوم والكواكب بدقة والأجسام العملاقة في السماء، حتى كُرة الجولف ولكنها تنهار عند أصغر شيء في الكون، الذرة![2]

لكن ما هي الذرة؟

إنها أصغر شيء في الكون، الشيء الذي لا يُمكن تجزئته أو إدراكه بالحواس. لنعرف كم هي صغيرة، إذا تراصت نصف مليون ذرة إلى جانب بعضها بعضًا، هذا الجمع يستطيع الاختفاء خلف شعرة![3]

حينما تُغادر أرواحنا، تتفرق ذراتنا وتنتقل للعثور على استخدامات جديدة في مكان آخر، كجزء من ورقة أو كائن بشري آخر أو قطرة ندى، والذرات نفسها –على أي حال- تستمر عمليًا إلى الأبد، ولا أحد يعرف بالفعل كم يمكن أن تحيى الذرة، وبحسب مارتن ريس، تحيى على الأرجح 10^35 أعوام، وهو رقم كبير جدًا.[4]

ثاني أقدم محاولة لوصف الذرة من الداخل كانت لطومسون، أخبرنا أنها عبارة عن كُرة مُصمتة مشحونة بشحنة موجبة، تتوزع بانتظام داخلها إلكترونات سالبة الشحنة، والذرة مُتعادلة كهربائيًا، حيث عدد الشحنات الموجبة والسالبة متساوٍ.

ثم راذرفورد والذي وُصف بأنه كان سيئًا في الرياضيات، وأثناء المُحاضرات كان يتوه في المُعادلات بحيث يتوقف في المُنتصف، ولكن قال عن نفسه في محل للخياطة بكمبريدج: «كل يوم يكبر مقاس خصري وعقلي».[5]

عارض راذرفورد نموذج طومسون، فحينما وجّه حزمة من أشعة ألفا على صفيحة معدنية رقيقة، أغلب الأشعة اخترقت الصفيحة، والباقي ارتد وانحرف، وبذلك تكون أغلبية الذرة فراغ شقّته الأشعة، أما نواة الذرة فتحتوي على جُسيم البروتون proton ذي الشحنة الموجبة، وحينما ترتطم به الأشعة فإنها ترتد. ثم أتى شادويك وأضاف إلى الذرة جسيمًا آخر لا شحنة له (مُتعادل الشحنة) وهو النيترون «neutron»، فكان نموذج راذرفورد أن الذرة تُشبه المجموعة الشمسية، نواة بداخلها بروتونات ونيترونات ويدور حولها إلكترونات، ثم اقترح نيلز بور أن الإلكترونات تدور في مدارات دائرية حول النواة، لكل منها طاقة مُعينة[6]، وحينما يقفز الإلكترون من مدار مُرتفع إلى مدار منخفض فإنه يفقد فوتون من الطاقة، وعندما يمتص الإلكترون فوتون فإنه يقفز إلى مدار أعلى في الطاقة.[7]

لكن ما هو الفوتون أو الكمّ؟

في عام 1905، قدم ألبرت أينشتاين إلى مجلة الفيزياء الألمانية سلسلة من خمسة أبحاث (كان بينها ثلاثة هم الأعظم في تاريخ الفيزياء)، اقترح آينشتاين في أحدهم أن الضوء يتكون من حزم صغيرة مُتقطعة تُسمى كوانتً أو فوتونات، وحصل على جائزة نوبل لأجل ذلك. فيما بعد ترشح آينشتاين للجائزة عدّة مرات ولم يقتنصها، لأن لجنة الجائزة تلكأت في فهم النظرية النسبية، في ذاك الوقت كان هناك نُقاد لها والأدلة عليها كانت ضئيلة.[8]

لم يكن آينشتاين أول من طرح كلمة الكم quantum، وجمعها كوانتا quanta، والتي تعني أصغر كمّية من الطاقة يمكن تبادلها بين الجسيمات. قبل آينشتاين بخمس سنوات، اقترح ماكس بلانك أن الطاقة ليست مستمرة كما اعتقد نيوتن، ولكنها عبارة عن حزم صغيرة مُتقطعة سمى كل وحدة منها الكمّ، كشف بلانك عن نظرية جديدة «نظرية الكم».[9]

نظرية الكم أو ميكانيكا الكم، العلم الذي يدرس سلوك الجسيمات الدقيقة كـالبروتونات والنيترونات والإلكترونات والكوكات، أي الجُسيمات دون الذرية (الأصغر من الذرة).

تكمن أهمية نظرية الكم في أن الواقع كمومي وليس كلاسيكيًا، إنها هامة لفهم الواقع.[10]

مبدأ الرّيبة (اللا يقين)

في عام 1927، كتب الألماني هايزنبرج رسالة قصيرة إلى أستاذه نيلز بور، يُخبره أن تطورًا مُثيرًا في انتظار عودته.

افترض هايزنبرج أن إلكترونًا يُحلق في الفضاء، يقوم مُلاحظ بتسليط ضوء عليه، فيرتد ضوء، بقياس هذا الضوء المُتناثر (تردده واتجاهه) يستطيع المُلاحظ استنتاج موضع وكمية حركة الإلكترون لحظة اصطدام الضوء به. وهنا اكتشف شيئًا ما مُثيرًا حقًا، وبذلك يكون والد هايزنبرج مُخطئًا حينما اتهم ابنه بأنه يُبدد مواهبه الفكرية في أمور تافهة.

وجد هايزنبرج أنه كلما اجتهد المُلاحظ في الحصول على معلومات عن موضع الإلكترون، قلت احتمالية المعرفة بكمية الحركة، والعكس صحيح أيضًا. ليس هناك نتائج مُحددة، بل مجموعة من الاحتمالات المُمكنة. وحسب وصفه، سيكون دائمًا هناك عوز لنتائج دقيقة.[11]

بمعنى ثانٍ، إذا أردنا معرفة موضع الإلكترون بدقة متناهية، فإننا سنفقد كل الدقة في قياس كمية الحركة، والعكس صحيح.[12]

لا نستطيع معرفة مكان وجود جسيم دون ذري في الفضاء، فقط معرفة مكانه ضمن احتمالات معينة -تنبؤات إحصائية- ويتم توزيع هذا الاحتمال عبر الفضاء في شكل موجة. أوضح هايزنبرج أن ذلك لا يرجع إلى خطأ في عملية القياس أو تقصير من ناحية أدوات القياس، وإنما يرجع إلى طبيعة المادة نفسها.

في ذات العام نُوقش الأمر في مؤتمر «سولفاى الخامس» ببروكسيل، «ميكانيكا الكم ومبدأ اللا يقين»، وكان هُناك صراع بيّن بين الحرس القديم والجديد، كان نيلز بور مُحايدًا، وطلب آينشتاين إعفاءه من إلقاء كلمة، وقال إنه يُفضل الجلوس والاستماع فقط، وخلال مُحاضرات المؤتمر غالبًا ما كان يلجأ إلى الصمت، وقال إنه لم يدرس ميكانيكا الكمّ لدرجة الثقة فيما يقول.

أقرّ بور أن جلّ ما تستطيع الدالة الموجية وصفه هو احتمال أن يكون الجُسيم في موضع أو في آخر، قال آينشتاين: «هذا جيد، لكن في مرحلة ما يتوجب أن يصبح الاحتمال يقينًا»، وإلى الآن لم يصر الاحتمال يقينًا!

فيما بعد سيرفض العَالِم الأشهر في التاريخ نظرية الكمّ، بل وظل يضطهدها لآخر نفس.

الآن، لا تستطيع الفيزياء قياس الحاضر بدقة قاطعة، فهل تستطيع التنبؤ بالمُستقبل؟

بداية الجنون: تجربة الشق المزدوج

تخيل أن مدفعًا رشاشًا في يدك، وبينك وبين الهَدف حائط فولاذي به شقان، الآن قم بإطلاق بضع مئات من الرصاصات تجاه الهدف، ثم اذهب لترى النمط المرسوم على الهدف، ستجد «نمطًا عاديًا»، خطان ضيقان عموديان حيثما مرت الرصاصات من الشقين.

جيد، نعلم أن الرصاصات عبارة عن جُسيمات صغيرة، أكبر من حبات الرمل، وهذا ينطبق على جميع المواد التي لها طبيعة الجُسيمات particles، الإلكترونات مثلًا؟

خذ الحائط الفولاذي واغمره في بُحيرة بحيث يكون الشقان فوق الماء مُباشرة، الآن ارمِ صخرة كبيرة أمام الحائط بمسافة كافية، هل ترى؟ موجه تنطلق من مصدر الصدمة وترتطم بالجدار الفولاذي، تمر الموجة من الشقين. اركض سريعًا وكن خلف الجدار، ستجد موجتين مُتداخلتين، كل موجة تأتي من شق في الحائط، أي أن كل شق أصبح مصدر موجة Wave Source، ويحدث «نمط التداخل Interference Pattern».

جيد، نعلم أن الماء عبارة عن موجات Waves، وهذا ينطبق على المواد التي لها طبيعة موجية، مثل الضوء.

حتى الآن يبدو كل شيء منطقيًا، لكن انتظر.

الآن لنطبق التجربة على الإلكترونات، مع استبدال المدفع الرشاش بـ قاذف إلكترونات Electron Beam Gun، ونستبدل الهَدف بـ شاشة للتسجيل، يظهر عليها أثر الإلكترونات حينما تصطدم بها. نعلم جميعًا أن الإلكترونات عبارة عن جُسيمات صغيرة، لذا تتوقع أن تُسجل الشاشة خطين ضيقين عموديين، المفاجأة أن الإلكترونات تُسجل نمطًا مثل الضوء أو الماء، تتصرف كموجة!

وكي يقع نمط التداخل لابد أن الإلكترون الأول مرّ من الشقين معًا في آنٍ واحد (مثل موجات الماء)، ويتداخل مع ذاته، ثم الإلكترون الثاني يتصرف بذات الطريقة، ثم الثالث…. وهكذا حتى يحدث نمط التداخل.

كيف يمر الإلكترون الواحد من الشقين معًا؟ كيف يتواجد الإلكترون في مكانين في وقتٍ واحد؟ أو ما يُعرف بـ التراكب Superposition ، أي وجود الجسيمات الصغيرة في عدّة أماكن وحالات بشكل مُتزامن، لا يعرف الفيزيائيون إجابة مُرضية حتى اليوم.[13]

الآن لنُضف إلى تجربة الشق المزدوج أجهزة استشعار لرصد هذا السلوك الغريب للإلكترونات، فيقع الأعجب: حينما تعلم الإلكترونات أنه يتم رصدها تتصرف كُجسيمات، أي أن عملية الرصد تؤثر في طبيعة الإلكترونات، أي الحاضر تغير!

إذن عملية الرصد أو الوعي تؤثر في الحاضر أو الواقع، هل هناك واقع حينما لا نرصده؟ هل هناك واقع بدون الوعي؟ هل نيلز بور مُحق حينما قال: «القمر غير موجود حينما لا ننظر إليه (نرصده)»؟ لكن ألبرت آينشتاين يُعارض ذلك قائلاً: «إن مجرد عدم قياس شيء ما لا يعني أنه ليس هناك».

لنقم بخِداع الإلكترونات، لنرى مدى تأثير الراصد على سلوكها، نترك الإلكترونات تمر عبر الشق المزدوج بدون رصد، نعلم الآن أنها تتصرف كموجة، وقبل أن تصل الإلكترونات الشاشة نقوم برصدها، نجد أن الإلكترونات حينما علمت بعملية الرصد تصرفت كجُسيمات، عادت وخرجت من المصدر كجُسيمات، أي أن الماضي تغير!

الشيء الغريب أن الإلكترون يمر من الشقين معًا في آن واحد، وحينما يعلم أنه يتم رصده فإنه يرجع في الزمن ويمر من شق واحد فقط. (هناك أيضًا تجربة ممحاة الكم Quantum Eraser Experiment والتي تمت في جامعة ماريلاند في عام 1999).

أراك الآن تفتح فمك، الآن عملية الرصد تُغير الحاضر والماضي!

هل هناك ماضٍ حقًا، أم أن الماضي يحدث في تزامن مع الحاضر والمُستقبل، كل في سياقه؟ لهذا تغيير الماضي جائز، لأنه يحدث الآن وباستمرار.

يقول جون ويلر: «يمكن خلق أو تغيير الماضي السحيق بطريقة ملاحظتنا له الآن». حسب هذا الكلام، حتى الانفجار العظيم نفسه من المحتمل جدًا أننا نحن الذي تسببنا فيه عن طريق ملاحظتنا لبداية نشأة الكون.

هنا يُلاحظ فاينمان أن التكامل Complementarity هو لغز نظرية الكم الأهم، حيث لا يُمكن تمييز الجُسيم من الموجة، إنهما واحد ونفس الشيء، ومن الحماقة التفرقة بينهما أو مُحاولة تصور أن شيئًا ما جُسيم فقط أو موجة فقط، إن الجسيم أو الموجة أو أي شيء موجود حينما نقوم باستدعائه. ابحث عن جُسيم وستجد جُسيمًا. بدلاً من ذلك، ابحث عن موجة وستجد موجة.

شجّع أبناءك على خوض المُغامرة الشيقة وفتح صندوق نظرية الكم، أعظم نظريات القرن العشرين، هناك قصص لم يتم روايتها بعد، واكتشافات لم نصل إليها بعد، تنتظر أبناءك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. باديس يادري، الواقع والزمن والفيزياء الأساسية، جامعة عنابة، الجزائر، 2018. ص ص 15-16.
  2. بي. ماتيوز، مُقدمة في ميكانيكا الكم، ترجمة: أسامة زيد، القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع. ص 37.
  3. بيل برايسون، موجز تاريخ كل شيء تقريباً، ترجمة: أسامة محمد إسبر، الرياض، مكتبة الكبيعان، 2007. ص 167.
  4. المرجع السابق. ص 168.
  5. المرجع السابق. ص 172.
  6. نجم بن مسفر، بين فيزياء الأدب وأدب الفيزياء، الرياض، دار عالم الكتب، 2013. ص 47.
  7. بيل برايسون، موجز تاريخ كل شيء تقريباً، مرجع سبق ذكره. ص 152.
  8. ديفيد لندلي، مبدأ الريبة أينشتاين هايزنبرج، ترجمة: نجيب الحصادي، أبو ظبي، كلمة، 2009. ص 148-187.
  9. بيل برايسون، موجز تاريخ كل شيء تقريباً، مرجع سبق ذكره. ص 151.
  10. باديس يادري، الواقع والزمن والفيزياء الأساسية، مرجع سبق ذكره. ص 25.
  11. ديفيد لندلي، مبدأ الريبة أينشتاين هايزنبرج، مرجع سبق ذكره. ص ص 198-199.
  12. باديس يادري، الواقع والزمن والفيزياء الأساسية، مرجع سبق ذكره. ص 25.
  13. المرجع السابق. ص ص 30-31.