في العام 2007، خرجت التقارير الاقتصادية المتفائلة لتتحدث عن رقم قياسي غير مسبوق في مستوى الثروة الكبيرة التي حققتها قلة من الرأسماليين. خرج مؤيدو نظرية التنمية للتحدث عن عصر جديد ستدخله البشرية، سينشأ بعدها عالم سعيد بلا فقر. إلا أن الصدمة جاءت في العام التالي مباشرةً، بعد أن بدأت إرهاصاتها في العام ذاته (2007)، وتعرض النظام الاقتصادي العالمي لأزمة مالية حادة في 2008، تضاءلت معها أغلب أصوات المبشرين بالعصر السعيد.

نتج عن تلك الأزمة انخفاض في مستوى الثروة، وإعلان عدد كبير من البنوك إفلاسها، واهتزاز ثقة اعتماد النظام الاقتصادي العالمي على مركزية الدور القيادي للولايات المتحدة الأمريكية، بجانب ارتفاع معدلات التضخم والكساد والبطالة، واختلال ميزان المدفوعات، لتصل إلى درجات قياسية، وفقدان الاقتصاديين القدرة على التوقع من هول الحدث في اقتصاد الأرقام. بل دفعت بعضهم لإعادة النظر في آليات النظام الرأسمالي، الذي يتعرض باستمرار لهزات عنيفة، جعلت من قضية عدم استقراره الأصل لا الاستثناء.

تأثرت احتمالات النمو المرتفع المستمر للثروة خلال السنوات الأولى من القرن الحالي بشكل مفاجئ بالأزمة المالية العالمية في فترة عامي 2007-2008. وانتعشت بعض الاقتصادات بشكل جيد، وعلى الأخص الولايات المتحدة، لكن الثقة في المستقبل قد تآكلت، وهناك شعور متزايد بأن الانتعاش الاقتصادي ضحل، ولم يصل إلى جميع طبقات المجتمع.

الأدلة من قاعدة بيانات الثروة العالمية تدعم هذا الرأي. وباستخدام أسعار صرف الدولار الأمريكي الحالية، نمت الثروة لكل شخص بالغ بوتيرة أبطأ خلال السنوات التسع الماضية، في حين أن الثروة المتوسطة لم ترتفع على الإطلاق في أجزاء كثيرة من العالم، مما عزز المخاوف من أننا لن نعود قريبًا إلى النمو القوي الشامل الذي شهدته بداية القرن الحالي. لاسيما وأن وتيرة النمو أضحت مخيبة للآمال، بمعدل 4.5% سنويًا، أي أقل من نصف معدل ما قبل الأزمة البالغ 9.5%، رغم أن صندوق النقد الدولي، يبشر بعودة النمو لمستويات جيدة، لاسيما وأنه تجاوز مرحلة النمو المتواضع.


اتجاهات الثروة ومناطق تركزها (بالأرقام)

نظرية الاعتماد المتبادل، لم تكن تُجلي فقط لفكرة التعاون الاقتصادي العالمي في عالم ما بعد الحرب العالمية، بل كانت صورتها المقابلة في تحمل الجميع لخسائر مشروع التحديث وآليات الرأسمالية، رغم أن البلدان ذات أعلى متوسط ثروة توجد في الغرب، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث الولايات المتحدة تقود الترتيب العالمي بفارق كبير.

فمتوسط الثروة فيها حاليًا أربعة أضعاف المستوى في أوروبا، وتسعة أضعاف المستوى في الصين، وما يقرب من 50 ضعف المستوى في الهند، وأكثر من 100 ضعف المستوى في أفريقيا، وتقدر الثروة في الولايات المتحدة اليوم بنحو 93.6 تريليون دولار، أي ما يعادل 33% من إجمالي الثروة العالمية. و تساهم الولايات المتحدة بأكبر عدد من أعضاء مجموعة الثروة العالمية الأولى التي تشكل نسبة 1% من سكان العالم، وتستحوذ حاليًا على 43% من المليونيرات في العالم. وإجمالًا، تمثل مناطق الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والمحيط الهادئ -باستثناء الصين والهند- نطاق تركز الثروة حيث حصدت نسبة 84% من الثروة العالمية منتصف عام 2017.

كما لم تغب ملكيات ودكتاتوريات الشرق الأوسط من الحضور بطبيعة الحال، ورغم أنها من المناطق الأعلى فقرًا من حيث النسبة الأقل في الدخول والأعلى في حجم تمثيل الفقراء، فإنه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت إجمالي الثروات نموًا بواقع 2.2 تريليون دولار، أي بنسبة 156% منذ عام 2000، وهو ما يفوق المعدل العالمي البالغ 140%. وخلال السنوات الخمس المقبلة، من المتوقع أن تشهد الثروات العائلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموا بنسبة 52%.


مساوئ الألفية الجديدة

جاء في تقرير «كريدي سويس» العام الماضي 2016، إشارات مهمة، حول أبرز مساوئ تركز الثروة الفاحش في يد قلة قليلة من البشر، وتمثلت في تزايد أسعار السكن، نتيجة تزايد استثمار العقارات، وزيادة حدة التفاوت في الأجور لمستويات حادة، وهو ما أدى لفقدان الشباب والعمال، القدرة على تراكم رأس المال أو حتى الادخار، نتيجة غلاء الحياة، وعدم القدرة على تغطية المتطلبات الضرورية، وهو ما قد يؤدي لفترات مقبلة من عدم الاستقرار السياسي، نتيجة شعور قطاعات واسعة من المجتمعات بالفقر، وغياب العدالة. لاسيما مع زيادة عدد الفقراء في الدول الغنية، وهو أمر لم يكن ليحدث قديمًا بتلك المعدلات مذ دخلت أوروبا عصر الثورة الصناعية.

والجدير بالذكر، أن مشروع التحديث يتعامل مع قضية غياب المساواة الاقتصادية، باعتبارها من الآثار الجانبية الهامشية في مشروع النمو الاقتصادي، وعليه، لا يبالي كثيرًا بتلك القضية، فالأهم هو تحقيق معدلات نمو إيجابية مرتفعة، ومتزايدة القوة، تُحدث تسارع في عملية التنمية، وتجنب فترات التباطؤ التي تمثل حالة من العرقلة، التي ينبغي تجاوزها، بعيدًا عن الحجم الحقيقي، الذي يُقدم من أجل معادلة التنمية والتحديث، وهي عملية بسيطة يمكن طرحها حسابيًا، بإدخال عامل الطبيعة، والموارد والأضرار البيئية، داخل معادلة التنمية، ناهيك عن طبقة العمال وعدالة أجورها.


الخلافات السياسية ومستقبل التعاون الاقتصادي

أظهرت قمة العشرين الأخيرة تعرض التعاون العالمي في المنظومة الاقتصادية لتحديات كبيرة، متمثلةً في عدد من المستجدات، جاء في مقدمتها انسحاب أمريكا/ترامب من اتفاقية المناخ، فضلًا عن تسهيلات انتقال التجارة، ووضع معوقات أمام عولمة التجارة، التي تبنت الدفاع عنها لعقود.

علاوة على ذلك، من المتوقع أن تكون الصين الأولى اقتصاديًا في المرحلة المقبلة، وبالتحديد 2019، حينها من المفترض انتقال مقر صندوق النقد الدولي إلى بكين، وحصولها على امتياز حق الفيتو فيما يخص القرارات المالية والاقتصادية الخاصة بالعالم، لاسيما وأنها كثيرًا ما اعترضت على ما أسمته هيمنة وعدم عدالة الدول الكبرى، وغياب المساواة في التوزيع العادل، الذي يسمح للدول النامية بالحياة الكريمة، فضلًا عن انتهاك سيادتها السياسية والتجارية، فهل يمكن أن يشهد العالم، مرحلة جديدة يكون مركز ثقلها في الشرق وليس الغرب؟

تشير أرقام الثروة وحجمها الضخم جدا، ومحدودية أفرادها الذين لا يشكلون سوى 1% من سكان العالم، فضلًا عن الأضرار البيئية الحادة، إلى ضرورة البحث عن مخرج ضروري للإنسانية، إذا كان هناك سعي حقيقي نحو تحقيق استقرار سياسي واجتماعي. فكيف يمكن تقبل أوضاع الفقر، في الوقت الذي يتمتع فيه أقلية بحياة تتجاوز الرغد، وتتخطى الرفاهية بمراحل، في الوقت الذي يعاني فيه 20% من السكان، من الفقر المدقع، حيث لا يملك الشخص منهم أكثر من 248 دولارًا، كما يتركز ثلاثة أرباعهم في الدول النامية.

من جانبه، أ كد أمين عام مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة «الأونكتاد»، السيد موخيسا كيتويي، أن «الديون المتزايدة بالإضافة إلى الطلب العالمي الضعيف قد أدت إلى إعاقة توسع الاقتصاد العالمي. كما شدد على أهمية وضع مصلحة الناس قبل الأرباح ويدعو إلى عملية تجديد في القرن الحادي والعشرين لإتاحة صفقة عالمية جديدة».

أن يكون الثري والمستمثر محورا لحركة الحكومات والشعوب والموارد، فهو البؤس الذي لا يفوقه بؤس، فما كان يتم شراؤه قديمًا بالسلاح، يأتي الآن بالدولار، وإذا لم يستطع الدولار، فالحكومات جاهزة لتهيئة السياق المناسب والصحي للاستثمار.

من ناحية أخرى، هناك حركة «بوين فيفير» -وهي كلمة إسبانية تعني العيشة الطيبة- التي لا يعرفها «إدواردو جوديناث» أبرز منظريها تعريفًا جامعًا. وهذا لسببين: أولاً هي تجربة تخص منطقة جغرافية معينة من أمريكا اللاتينية، ومن منطلقاتها أنه لا يمكن تعميم فكرة/تجربة واحدة تصلح للعالم كله، بما أنها فكرة مضادة للعولمة، وإذا أراد أحد تبني التجربة فيجب أن يبدأ بناءها من داخل النطاق المحلي الذي يختلف كثيرًا عن منطقة جبال الأنديز، حيث وُلدت الفكرة.

ثانيًا: هي حركة قيد التشكّل والنمو، ولم تستقر بعد على برنامج موحد واضح، وإن كانت في جوهرها تسعى لتبيّن حدود الحداثة والعولمة، بهدف تجاوزها والخروج تمامًا منها، و«بوين فيفير» تعني العيش في سياق اجتماعي وإيكولوجي في الوقت نفسه، أى إلحاق العامل البيئي، بمعادلة الأرباح والخسائر في معادلة النمو الاقتصادي.[8] لذا فهي حركة تحاول تجاوز إرث الرأسمالية، المهمل للعوامل الطبيعية والاجتماعية، التي تهدرها منظومة الأرباح، وتراكم الثروات.


التغير المناخي كنقطة انطلاق

من سخرية القدر، أن تتعامل حكومات الدول الكبرى، بجدية وحزم مع قضية التغير المناخي، وأزمة الاحتباس الحراري، الناتجة من انبعاثات الكربون، في الوقت الذي تسعى فيه كل الدول لتوسيع حجم اقتصادها، بهدف تحقيق معدلات نمو أعلى.

يمكن أن تمثل قضية التغير المناخي نقطة انطلاق حقيقية، لتجاوز ميراث كبير من أزمات الرأسمالية، وذلك إذا توافرت الإرادة القوية لدى الساسة وصناع القرار، حيث لابد أن يتم التراجع عن قضية الأرباح، لصالح حماية النظام الإيكولوجي، وحينها لابد أن تكون قضية تقليل ساعات العمل، مع توفير منظومة أجور عادلة أولى قضايا هذا الإصلاح. وحينها لن يتم حماية الطبيعة فقط، بل سيعود الإنسان، من اغترابه، ليحيا حياةً هادئة أو على الأقل أقل شقاءً.

ختاما، جاء هذا التقرير على هامش مناقشة تقرير «كريدي سويس» حول توزيع الثروة العالمية لعام 2017 ومناقشة الإشكاليات التي تدور حول سؤال التنمية، وأبرز تحولاتها منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة في 2008، وبعض محاولات الخروج من هيمنة التصورات الغربية، على تساؤلات الاقتصاد، ومستقبله في ضوء الأزمات السياسية المتفاقمة.

فسؤال التنمية ومع الأسف يفتقر إلى حالة الجدل الصحي، التي لابد منها بُغية الخروج بنموذج عربي يمكّن من الاستفادة من خبرات السابقين، دون التكاسل عن تقديم نموذج خاص، يمكّنه من تحقيق قدر من الاستقلالية النسبية، في زمن الاعتماد المتبادل، شديد التداخل.