لو استعد أحدنا لزيارة أي بلد أجنبي، فإنه حتمًا سيطالع المواقع السياحية ليتعرف على أهم وأجمل المناطق ويحرص على زيارتها ضمن برنامج رحلته. بالطبع الأمر يتحدد بناء على انحيازاتك كمسافر، أحدنا يعشق حياة الصخب، الموسيقى، التسوق وآخر مولع بالتعرف على ثقافات الغير، الأدب، السينما، وثالث يفضل تأمل مناظر جميلة على مقعد خشبي يطل على مياه نهر ساحر.

لو كان لي التخمين ماذا فضّل «بوفون» عندما سمحت له الفرصة للعبور من «موناكو» باتجاه «كارديف» مطلع يونيو/تموز في عام 2017 لملاقاة عملاق مدريد، فسأقول إنه يحب رؤية خليج «كارديف» من مقعد خشبي، ليس لأنه لا يفضل الصخب أو لا يحب الانفتاح على الغير، علي العكس فإن مسيرته حافلة بكليهما لكن الوقت قد حان لجلسة هادئة، تمر أثناءها الحياة كفصول رواية على ذاكرة المرء، فما بالك لو كانت تلك الحياة شديدة الثراء كحياة أفضل حارس مرمى بتاريخ اللعبة؟


قانون الخمسة

كنت في الثانية عشرة عندما أدرت ظهري لك! نسيت الماضي، وحلمت بالمستقبل
جيجي بوفون، من نص رسالة نشرها عبر فيس بوك.

يشاع أن الإنسان هو متوسط مجموعة الخمسة أفراد الذي يقضي بجانبهم الوقت الأوفر، هذه النظرية تبدو بحالة «بوفون» شديدة الرمزية، فالطفل الذي ولِد عام 78 نشأ ليجد أن أبواه أبطال لرياضة «رمي القرص»، بل إن أمه تحمل الرقم القياسي محليًا، أختاه لاعبتا لمنتخب إيطاليا للكرة الطائرة، وأخيرًا شقيق جدّه سبقه لحراسة المرمى، ولكن لصالح «ميلان»، ليست مجرد عائلة رياضية؛ بل عائلة لا تمارس الرياضة سوى باليد!

لذلك كان غريبًا ألا يختار مركز حراسة المرمى عند تفضيله لكرة القدم على كل الرياضات التي مارسها، فقد بدأ كلاعب وسط ملعب بمدرسة «كانليتو» لتعليم الكرة وشارك بمباراته الفعلية الأولى بعامة العاشر بهذا المركز، قبل أن يتحول كل شيء بحلول عام 90.

كانت إيطاليا تستضيف المونديال، وبدا أن كل طفل قد اختار نجم طفولته المفضل، البعض اختار «مارادونا»، آخرون مع «سكيلاتشي»، وربما أيضًا «فولر»، لكن بوفون حلق بعيدًا خارج السرب.

يعترف «جيجي» نفسه أنه مازال مشجعًا للمنتخب الكاميروني، كما يتذكر بكاءه عند إقصائهم على يد الإنجليز بربع النهائي، قد تظن أن «روجيه ميلا» كان بطل طفولة «بوفون»، لكنه كان حارسهم «توماس نكونو»!

جان لويجي بوفون مع توماس نكونو حارس مرمى منتخب الكاميرون في مونديال إيطاليا عام 1990، المصدر : www.twitter.com
جان لويجي بوفون مع توماس نكونو حارس مرمى منتخب الكاميرون في مونديال إيطاليا عام 1990، المصدر : www.twitter.com

الملفت أن قانون الأفراد الخمسة لم يفرض علي «بوفون» قرارات بعينها، بل أكسبه قيم الرياضة وأجواء المنافسة، ومنحه حرية صناعة تجربته الخاصة، صحيح أن ظروفا أخرى كالتفات المدربين السريع لقدراته كحارس كان لها عامل، لكن يبقى قراره الذاتي هو سيد كل العوامل.

بعامه الـ12 أدار «جيجي» ظهره للمرمى ووجه للملعب وقبل شهر كتب على صفحته اعتزازًا بقراره الذي دام لأكثر من 25 عامًا!


بارما، تلك الأيام

ما إن وطئت قدمي أرض الملعب للمرة الأولى إلا وشعرت بالألفة تجاه الكالتشيو
جان لويجي بوفون.

كانت ولاية «كابيلو» الأولى مع ميلان أقوى ما تكون، فبحلول 95 كان قد فاز بالإسكوديتو الثالث على التوالي، أضاف لجعبته تشامبيونزليج بجانب سوبر أوروبي وآخر محلي، كما ضمت تشكيلته «روبيرتو باجيو، باولو دي كانيو» لجانب الفائز بالكرة الذهبية «جورج ويا».

وبحلول العام نفسه، كان قد مر على انضمام «بوفون» لـ«بارما» قرابة الثلاث سنوات، اكتسب خلالها ثقة الجميع بمن فيهم «نفيو سكالا» مدرب الفريق الأول.

الألفة التي يتحدث عنها جاءت بظروف مرعبة، فبعد إصابة حارس «بارما» الأول «بوتشي» قبل مبارة ميلان، فضّل «سكالا» الدفع بصاحب الـ17 ربيعًا، اختبار قاس ويزعزع إيمان أي شاب بقدرته، لكن «بوفون» استثنائي من يومه الأول!

بعد نجاحه بالتصدي لثلاثة انفرادات محققة وتأمين نقطة صعبة لفريقه، ذهب حارس ميلان «روسي» لتحيته، الأمر الذي كرره «بوفون» مع «دوناروما، ولوكاتيلي» وأي موهبة صغيرة تواجهه؛ وكأنه أدرك يومها الأثر العميق لدعم الصغار. أما بعيدًا عن الأنظار، كان «أنشيلوتي»،الذي سيصبح مدربه العام القادم، يراقب بإعجاب تصدياته ويقرر أنه يستحق أكثر من مجرد حارس بديل.

الحارس الإيطالي جان لويجي بوفون.


الظهور الأول لسوبرمان

كان يرتدي رقم 12، لكن رقم 1 مطبوع على جلد ظهره
كنافارو يتحدى زميله ببارما.

المواسم الأولى للإخطبوط مع «بارما» محل إعجاب واسع، حتي إن «كاسياس» الذي حرس عرين الملكي بسن 17 عاما يرى أن تجربة «جيجي» أكثر ثراء، ذلك لمدى قدرة الأخير على صناعة الفارق ومواجهة أبرز نجوم اللعبة بأيام كان الكالشيو هو جنة كرة القدم.

بالطبع الإسباني قصد نجاح «بوفون» بتحدي الظاهرة «رونالدو» بأعلى فتراته مع «الإنتر» بموسم 98، وتألقه بنهائي الكأس الأوروبي أمام «مارسيليا» بالعام التالي إلى جانب فوزه بالكأس الإيطالية.

«بوفون» خرج فائزًا على كل المستويات من تجربة «بارما»، بموسم 97 تحديدًا بدأ يكتسب شعبية تغزو إيطاليا بين الأطفال بعد ارتدائه لتشيرت «سوبرمان» واستقبال 17 هدفا بـ27 مباراة، لكن الشيء الوحيد الذي يبدو «سوبرمان» حزينًا بسببه هو عدم قدرة «بارما» على المواصلة وانهيار المشروع الواعد، وتلقيه آخر الضربات برحيل «كريسبو».


اكتئاب بوفون

الأخطبوط لم يتخل عن «بارما» إلا عندما تخلت الإدارة نفسها عن النادي، بل وحتى عند رحيله كان يدرس العرض الأفضل ليس له فقط ولكن للنادي أيضًا، نصحّه والده باختيار «اليوفنتوس» عام 2001 بدلًا من «روما وبرشلونة»!

الملحوظ هو تفاعل «بوفون» صاحب الـ23 عامًا حينها مع هذه المتغيرات الجديدة، فابتداء «اليوفي» الذي ينافس على كل البطولات يختلف تمامًا عن «بارما»، اضف لذلك مغامرة البيانكونيري بدفع 50 مليونا لتعويض «فان ديرسار»، وهي أعلى قيمة مالية لحارس مرمى بتاريخ اللعبة حتى الآن، كل هذه العوامل قد تربك حسابات أي موهبة وتحاوطها بدوامات الشكوك، لكن الرقم واحد يعرف دائمًا مقدار نفسه.

الاختبار القاسي الأول له بـ«تورينو» مر بنجاح مستحق بعيون مدربه الجديد «مارشيلو ليبي»، بعد فوزه بالإسكودتيو لعامين كان له أن يواجه اختبارًا مباغتًا آخر بالدقيقة 16 من نهائي تشامبيونزليج 2003 أمام «إنزاجي»!

عرضية متقنة من «سيدورف»، «إنزاجي» يهرب من دفاع «اليوفي»، يضرب برأسية من داخل اليردات الـ6، لكن ثانية واحدة هي كل ما يحتاج «جيجي» ليقلب الطاولة تمامًا، فبدلًا من أن يحتفل مهاجم الميلان هوى على الأرض مصدومًا بما حدث وقام الأخطبوط ليبث الحماس من جديد بزملائه.

لكن ضربات الجزاء حملت واقعًا مغايرًا، فبعد أن تصدى لركلات «سيدورف، كالاتزا»، كان له أن يواجه «نيستا» بالركلة الرابعة محاولًا إعادة الاتزان بعد سوء تنفيذ غريب لركلات اليوفي. هذه المرة كانت الكرة في صف زميل «إنزاجي» ومرت بالقرب من قفاز الأخطبوط.

لا جديد عندما يجيد بوفون، لكن عندما يخطئ يصير ذلك هو الخبر
مارشيلو ليبي.

قد يكون بسبب خسارة الشامبيونزليج، أو عدم نجاح دولي ملحوظ، أو لأسباب أخرى، لكن الأكيد أن «جيجي» دخل بنوبة اكتئاب وإحباط حادة بين عامي 2003 و2004!

يعترف بمذكراته أنه كان يظن أن الطبيب النفسي محض نصّاب لا يجب أن يلجأ له أحد، حتى وصل الأمر لدرجة مزرية منها عدم الرغبة بالنزول للتدريبات أو الذعر أثناء المباريات والتساؤل حول حقيقة إمكانياته.

كان في أشد احتياج للثقة، لأن يتوقف قليلًا ليواصل فيما بعد مواجهة التحديات، لكنه يقول إنه حتى ذلك لم يكن متاحا بسبب وتيرة المباريات، فكان عليه أن يتجاوز محنته فيما يحرس مرماه.


أنا معكم، أنا معكم

كانت أنباء الكالتشوبولي قد وصلت بالتأكيد لمعسكر «الأتزوري»، سبب مشتت كاف لكل لاعبي «اليوفي» عن مواصلة الزحف نحو نهائي برلين، لكن المفاجأة كانت تألق لاعبي البيانكونيري بالأدوار الإقصائية، فبعد نجاح «جيجي» بالتصدي لقنبلة «بودولسكي»، كان «ديل بيرو» يرسم لوحة فنية فريدة بمرمى «ليمان»، أما «كنافارو» فكان بطريقه للفوز بالكرة الذهبية، لكن بقي السؤال عن قدرتهم على التماسك أمام فرنسا!

بوفون لا يسقط
ماسمليانو أليجري.

كانت المباراة النهائية تدخل الدقيقة 103 حين ارتقى «زيدان» بكل سلاسة داخل منطقة الجزاء وأطلق قذيفة رأسية كان مكانها ليكون الشباك لو أن حارسًا غير «بوفون» موجودًا.

ربما تذكر الأخطبوط عند تلك اللحظة رأسية «إنزاجي»، وخشي أن يتكرر التاريخ مرة أخرى خصوصًا عند اللجوء لضربات الجزاء، لكن اللاعب الكبير لا يخضع أبدًا لشبح الذكريات السيئة.

من عنان السماء لواقع صادم يعصف ببطل تورينو، الهبوط للدرجة الثانية دفع بعض اللاعبين لحسم خياراتهم سريعًا، «كنافارو، إيمرسون» إلى مدريد، «تورام، زامبروتا» إلى كتالونيا، «باتريك فييرا» لأزرق ميلانو.

لكن بالوقت نفسه كان 6 لاعبين آخرين قد حسموا أيضًا خياراتهم بالبقاء رغم إغراءات الانتقال، في مقدمة تلك الإغراءات ما انهال على «جيجي» من عروض للانضمام لـ«أرسنال، مان يونايتد، برشلونة، الإنتر»، لكنه من جديد اختار السيدة العجوز بمزيج من العاطفة الفطرية التي ترفض التخلي عمن هتفوا لأجله بجانب ذكاء وقدرة عالية على قراءة الأحداث؛ رهان صعب.

لكن الأخطبوط فاز برهانه، بل إنه اكتسح من خالفه، فيما لم يقدم أي من الراحلين مستويات ملفتة بل سارع «إيمرسون» بطلب العودة، كان «جيجي» يخوض مباريات الدرجة الثانية بكل جديّة ليعود سوبرمان من جديد بطلًا متوجًا بالقلوب!


سطوة بوفون

الحارس الإيطالي جان لويجي بوفون.
الحارس الإيطالي جان لويجي بوفون.

لا تحتاج أن تراجع تصريحات كل نجوم اللعبة، من «إبراهيموفيتش، ميسي، بيرلو، بونوتشي»، أو ملاحظة أن كل الحراس الحاليين بمن فيهم «نوير، تشيك» ينظرون له كقدوتهم، أو حتى مديح كل مدربيه لقدرته الفنية والقيادية، أنت تحتاج فقط لمراقبة أفعاله داخل الملعب بتفاعله مع الزميل، الخصم، كل جماهير الأندية، لتتأكد أننا أمام شخصية فريدة قادرة على أن تكون رمزًا تاريخيًا لليوفي وكسب ود واحترام كل الخصوم.

«بوفون» لم يحتج أبدًا لأن يطلق تصريحًا ناريًا، يدخل بصدام أو يشتبك مع أي لاعب ليفرض حضوره الطاغي، لم يحتج أن يذكرنا كل بضعة شهور بإنجازاته السابقة لينال تجديدا لعام آخر؛ هذا ببساطة لأنه رجل منخرط تمامًا باللحظة.

يرفض «بوفون» أن يعيش دور المسن المرتبط بالذاكرة الجمعية للجمهور محاولًا كسب ودّهم، لكنه بدلًا من ذلك حاضر بكل المواعيد الهامة، بل وقائد لفريقه، ليس لأنه أكبر الحرّاس لكنه أفضلهم.

يفسر لك ذلك احتفاله عند تسجيل «ديبالا» بشباك البلوجرانا تمامًا كحارس بالخامسة والعشرين وكذلك بكاؤه بحرقة ثم اعتذاره عقب إقصاء إيطاليا من اليورو الفائت، لا يعامل أي من لاعبيه كصغار لم يعيشوا مجدا سابقا، بل زملاء يسعى معهم لبناء مجد جديد.

الجميل أيضًا بعالم كرة القدم هو قدرتها على أكل السنوات، هناك جيل كامل من اللاعبين شاهدوه كأطفال بمونديال 2006 واليوم يزاملونه أو ينافسونه، وما تصريحه بشأن الموهوب «مبابي» سوى لإدراكه لهذا الجانب الساحر من عالم الكرة.

«جيجي» لم يحتاج أبدًا لنهائي كارديف حتى تكتمل أسطورته، فقد فاز وخسر ومر بتجارب كافية جعلته مدركًا أن متعة الحياة تكمن في الرحلة أكثر من مجرد الوصول للهدف، وربما لو فاز بذات الأذنين عام 2003 لما استمرت مسيرته بذلك القدر المشتعل من الشغف والمواصلة!

المراجع
  1. سيرة بوفون من موقعه الرسمي
  2. مقتطفات من مذكرات بوفون- مقال الجارديان
  3. مقال الديلي ميل بعد 22 عام من مسيرة بوفون