تزامن الاحتلال الفرنسي للجزائر مع نشاط واسع للإرساليات التبشيرية في هذا البلد، وكان الكاردينال «شارل مارسيال لافيجري» أحد أشهر الأساقفة الذين عملوا في هذا المجال، مستغلًا في ذلك الأحوال المعيشية الصعبة التي كان يعيشها المجتمع الجزائري آنذاك، وفي سبيل ذلك أسس عددًا من الجمعيات، وأنشأ قريتين للمُتنصّرين، فضلًا عن جماعة مسلحة لحماية المُنصّرين.

ويذكر أحمد قريتلي، في دراسته «أضواء على التنصير والمُنصرين في الجزائر 1830-1892»، أن السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر اهتمت منذ البداية بتوظيف الدين كسند ثقافي يسهم في تسريع الهيمنة وضمانها، والحد من شدة الرفض الشعبي للوجود الأجنبي المخالف لغة ودينًا، وذلك انطلاقًا من تحييد العاطفة الدينية وتأثيرها في بناء خيال الإنسان الجزائري.

لذا كان التنصير بمثابة مشروع دولة وأولوية استراتيجية في التعامل مع كل المستعمرات الفرنسية التي يدين سكانها بالإسلام، وهذا يتلاءم مع الطبيعة الحقيقية للاستعمار الذي هو فعل يزاوج بين الهيمنة الثقافية والهيمنة العسكرية، وهي طبيعة تميل بعض المقاربات الأيديولوجية والأدبية إلى تجاهلها وتشويهها والاكتفاء بتضخيم الأبعاد المادية للحملة الاستعمارية الفرنسية.

«أبو التنصير» في الجزائر

كان لافيجري من بين الشخصيات الفرنسية الكبيرة التي نشطت في شمال أفريقيا في مجال التنصير، الذي بلغ في عهده ذروته، حتى لُقب بـ«أبو التنصير في الجزائر وأفريقيا»، وعدّته الكتابات التاريخية التنصيرية أبرز شخصية دينية طيلة القرن التاسع عشر، حسب ما ذكر طيار ليلى، في دراسته «النشاط التنصيري للكاردينال لافيجري في الجزائر 1828-1892. منطقة القبائل أنموذجًا).

وبدأت علاقة لافيجري بالتنصير في عام 1855، عندما أسس عدد من المسيحيين جمعية مدارس الشرق، واُختير هذا الكاردينال مديرًا لها سنة 1861، ومن هنا بدأ النشاط التنصيري له، ليدوم ثلاثين سنة كاملة، وكان أول اتصال له بالعالم الإسلامي بنصارى الشرق سنة 1860، حين زار بلاد الشام وحمل للمسيحيين هناك إعانة جُمعت في أوروبا لمساعدة المسيحيين في الحرب الطائفية التي اندلعت بين الدروز والموارنة.

وبعد ثلاثة أشهر من العمل والجهد في مساعدة المسيحيين بالشام رجع لافيجري نحو باريس، واعترفت له الحكومة الفرنسية بدوره في خدمة سياستها في العالم الإسلامي، وأسندت له وسام الشرف عام 1861، واعترافًا بخدماته رُقي إلى منصب بابوي لمنطقة الصحراء وأفريقيا الغربية، ثم تولى عدة مناصب أخرى آخرها مقدم أساقفة أفريقيا.

وبعد وفاة لويس أنطوان أوغسطين بافي أسقف الجزائر سنة 1866 وشغور منصبه، اقترح الحاكم الفرنسي العام ماك مكماهون على لافيجري قبول خلافته. وتذكر بعض المصادر الفرنسية أن تعيين لافيجري على رأس أسقفية الجزائر ارتبط بأسطورة رؤيا، سبقت هذا التعيين، التي رأى فيها رسالة إلهية للقيام بنشاط مسيحي جبار في هذه القارة الإفريقية التي يجب أن يعاد لها مجدها المسيحي الروحاني قبل كل شيء، بحسب ليلى.

التنصير في منطقة القبائل

تُعتبر منطقة القبائل، في شمال شرق الجزائر، من أهم المناطق التي ركز عليها لافيجري جهوده التنصيرية، ودفعته وأذكت طموحاته في ذلك عدة عوامل، منها العامل الديني والعرقي، حيث اعتقد لافيجري ومن ورائه سلطات الاحتلال أن إسلام سكان المنطقة سطحي، وأن القرآن لم يدخل بشكل عميق إلى تقاليدهم وعاداتهم، وأن هذا الدين لم يتمكن من النفاذ إلى حياتهم العائلية والاجتماعية، حسب ما ذكر ليلى.

لذا حاول لافيجري التشكيك في إسلام سكان منطقة القبائل، وحاول أن يقنعهم بأن دمًا واحدًا وأصلًا رومانيًا واحدًا، وعلامة مسيحية واحدة، خُلقت كلها بين القبائل والفرنسيين.

وهناك أيضًا عامل اجتماعي وثقافي دفع لافيجري للتركيز في منطقة القبائل، حيث حاول خلق كل ما يمكنه من التأثير على السكان. فعلى مستوى العُرف عمل لافيجري على استغلال الادعاءات التي تقول إن الممارسات الاجتماعية والاصطلاحات استوحاها أجداد سكان منطقة القبائل من القانون الروماني المسيحي، أي إنهم لم يستخرجوها من تعاليم الدين الإسلامي.

وكانت اللهجات إحدى الركائز التي اعتمد عليها لافيجري لإضفاء طابع الشرعية على مخططه التنصيري، فالقبائلي في نظره لا يتعامل مع ذويه باللغة العربية، ثم فإن هذه اللغة تعتبر دخيلة على لغة سكان المنطقة، لذا استغل اللهجة المحلية الأمازيغية لتطبيق فكرة «فرِّق تسد»، وزرع الخلاف حتى يسهل عليه فصل المنطقة من الوطن الجزائري.

وبحسب ليلى، ارتكز لافيجري أيضًا على مقولة أن سكان القبائل يمتازون بالقدرة على التكيف وأكثر قابلية للتمدن، فحيث إنهم تقبلوا الإسلام دينًا ولغة، فباستطاعتهم تبني وبشكل سريع عادات الفرنسيين ووسائل معيشتهم ولغتهم.

ولاحظ لافيجري، أن كثافة السكان في منطقة القبائل مرتفعة رغم ضيق الرقعة الجغرافية التي يعيشون عليها، وشجعه ذلك على اختيارها لتكون أكبر ميدان للعمل التنصيري في الجزائر.

وازداد اهتمام لافيجري بمنطقة القبائل عندما اشتدت حالة الفقر، وبخاصة بعد الهزيمة التي ألحقتها قوات الاحتلال بالمقاومة سنة 1871. ويشرح ليلى، أن فشل المقاومة ترك آثارًا سيئة على معيشة سكان تلك المنطقة، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى تفقير السكان بمصادرة أخصب الأراضي التي يملكونها، وفرض غرامات مالية عليهم، ما شجع لافيجري على تنصير السكان تحت ستار التعليم والعلاج والأعمال الخيرية.

مجاعة الستينيات والتبشير

وتذكر فاطمة حسين المفرجي، في دراستها «التنصير الفرنسي في الجزائر 1830-1876»، أن قدوم لافيجري إلى الجزائر في 16 مايو 1867 تزامن مع تأثرها بمجاعة الستينيات من القرن التاسع عشر، لاسيما عامي 1867-1868، كما حدثت زلازل في عدد من المناطق، وصاحب هذه المحن خطر موجة الجراد الذي أتلف المحاصيل في عامي 1869-1870، مما أفقد الناس إنتاجهم وتعرضوا لضائقة مادية، فضلًا عن انتشار الأمراض والأوبئة منها الكوليرا والتيفوس، ونتج عن ذلك موت مئات الآلاف من الجزائرين.

لذا زحف سكان الجنوب نحو مدن الشمال التي يستوطنها الأوروبيون بحثًا عن مصدر للعيش، لكنهم تلقوا أسوأ معاملة، إذ مُنعوا حتى من التفتيش في أكوام القمامة عن بقايا الأطعمة خوفًا من انتقال الأمراض إلى المستوطنين، الذين استعانوا بقوات الاحتلال لإبعاد الجزائريين النازحين، وتم إبعاد حوالي 540 ألف جزائري إلى مناطق الصحراء، وبخاصة منطقتي مليانة والأصنام (ولاية الشلف حاليًا)، وبلغ منهم الجوع والعطش حدًا دفعهم إلى نبش قبور الموتى لأكل لحومهم.

وبحسب «المفرجي»، أصبحت المجاعة عنصرًا حيويًا استثمره «لافيجري» في إحياء حركة التنصير، إذ جمع اليتامى الجزائريين الذين تتراوح أعمارهم بين ثماني وعشر سنوات، وبلغ عددهم مليون و753 ألف طفل، ووزعهم على مراكز عدة بعد أن حصل على موافقة السلطات العسكرية والمساعدات الخيرية التي قدمها المستوطنون الأوربيون وبعض المؤسسات، لإنشاء ملاجئ ودور لحماية اليتامى، وكان الهدف تعميدهم وتربيتهم تربية مسيحية، كما عملوا على تهيئة مخيمات وقرى لهم إلى أن يكبروا.

وبيّن لافيجري غرضه من ذلك في رسالة مؤرخة في السادس من أبريل 1868: «سنجد فيها (هذه القرى) بعد سنوات قليلة مجموعة كبيرة من العمال المفيدين الذين يساندون تعميرنا ويصيرون أصدقاء لنا، أو بعبارة أخرى سنجد عربًا مسيحيين».

قريتان للمتنصرين

أسّس لافيجري لهذا الغرض جماعة «الآباء البيض»، وجعل لهم بلدة الحراش القريبة من العاصمة مركزًا لهم، وعُدت هذه الجماعة من أنشط وأخطر الإرساليات التنصيرية في الجزائر، إذ أوكل إليها الاعتناء بدور الأيتام الجزائريين في نواحي عكنون وبوزيعة الواقعة على أطراف العاصمة.

كما شيد لافيجري قريتين نصرانيتين لتنصير مسلمي الجزائر، الأولى تحت اسم «سبيريان»، تخليدًا لاسم أسقف قرطاجة، ووضع فيها 26 أسرة بعد أن زوّج اليتامى البالغين سن الرشد، ومنح كل أسرة 20 هكتارًا (وحدة قياس للأرض، والهكتار يعادل 10 آلاف متر مربع) صالحة للزراعة، ومنزلًا يتكون من غرفتين أوثلاث، وبنيت هذه القرية حول كنيسة، على أن يعمل فيها اليتامى كفلاحين لا يتملكون الأرض، وإنما يعملون تحت سيطرة المُنصرين من الآباء البيض.

أما القرية الثانية فسماها «سانت مونيكا»، تخليدًا لاسم أم القديس أوغسطين، ووضع فيها 24 أسرة. وفي عام 1876 أنشأ مستشفى «سانت إيلزابيث» ما بين القريتين، وكانت الصلاة برعاية الآباء البيض.

وأثار إنشاء لافيجري القرى العربية النصرانية، وجمع الأطفال وتنشئتهم نشأة نصرانية، خوف حاكم الجزائر ماك مكماهون من ثورة الأهالي. وتروي المفرجي، أن الأهالي ثاروا بالفعل مطالبين باسترداد هؤلاء الأطفال، لكن لافيجري واجههم بإصراره على عدم إعادة الأطفال إلى ذويهم، وأعرب عن أن القضاء عليهم خير ألف مرة من بقائهم عند آبائهم.

غير أن سياسة لافيجري هذه لاقت معارضة شديدة، حتى من المستوطنين الأوروبيين أنفسهم، مما أدى إلى فشلها شيئًا فشيئًا، فقد رأى المستوطنون وجوب انتشار الإرساليات النصرانية في جميع أجزاء الجزائر، وعدم حصرها في هاتين القريتين، في حين ثار الجزائريون في قسنطينة مطالبين باسترجاع أولادهم، ونتيجة السخط الشعبي وبعض الأوساط الفرنسية، تخلى لافيجري عن القرى النصرانية وسمح بدمج اليتامى في الأوساط العامة في الجزائر.

حركة إخوان الصحراء المسلحة

يذكر قريتلي في دراسته المذكورة آنفًا، أن لافيجري أسس جمعية «سيدتنا الإفريقية» سنة 1872 التي نشطت في منطقة القبائل. وللوصول لنتائج إيجابية كان يرى ضرورة تقليد حياة الأهالي، من اللباس البسيط كـ«البرنوس» مثلًا، وضرورة إتقان اللهجة البربرية، وذلك للتأثير أكثر على المجتمع القبائلي، كما قام بجمع اليتامى لإغاثتهم، وهي الطريقة نفسها التي طبقها في منطقة وادي شلف، رغم مقاومة الأهالي لهذا المشروع.

ومن الوسائل الأخرى التي سخرها لافيجري من أجل محاولة إنجاح مشروعه التنصيري، تأسيسه مستشفى «سانت أوجين» في منطقة «بني منقلات» بناحية «عين الحمام» سنة 1874، كما قام سنة 1877 بشراء أراض في قرية «تاوريرت عبدالله» بناحية «واضية» لتكون مكانًا لاستقرار المُنصرين.

وعلى هذه الأرض أيضًا قام لافيجري ببناء مركز لـ«الأخوات البيض» سنة 1878 اللاتي جيء بهن من مركز «سيدتنا الإفريقية»، حيث عملن على تقديم خدمات لبنات الأهالي في مجال التعليم، كتعليم الخياطة والطرز والأعمال المنزلية، وبعدها أشرف لافيجري على تزويج اليتامى تحت طقوس مسيحية، في محاولة لخلق عائلات مسيحية.

ولم يتوقف نشاط الكاردينال لافيجري عند هذا الحد الجغرافي، بل امتد مشروعه إلى مناطق الجنوب، حيث قام بتأسيس حركة تنصيرية مسلحة هي جمعية «إخوان الصحراء» بمنطقة بسكرة سنة 1891، وزعم أنها تهدف إلى مكافحة تجارة العبيد في أفريقيا، لكن الحقيقة كانت حماية المُنصرين والحفاظ على حركة التنصير بقوة السلاح، خاصة بعد أن قام أهل الجنوب بقتل جماعة من المنصرين الذين أساؤوا للدين الإسلامي واستفزوهم في عقيدتهم كالأب «بولمي» والأب «مينوري» والأب «بوشو».

وكان الغرض الآخر من إنشاء هذه الحركة هو استكشاف الصحراء، وتسهيل وصول العسكريين لبسط النفوذ الفرنسي في أعماقها، بحسب قريتلي.

ورغم كل الوسائل المادية والمعنوية التي سخرتها السلطة الفرنسية، والتي اتخذت أشكالًا متعددة، منها التعليم في المدارس، والتطبيب في المستشفيات، وبناء الكنائس، وتقديم الدعم المالي والمعنوي، إلا أن لافيجري لم يحقق أهدافه كاملة، لعدة عوامل منها طبيعة المجتمع الجزائري وتكوينه الاجتماعي والديني، إضافة إلى دور المؤسسات الإسلامية كالزوايا والمساجد والكتاتيب القرآنية.

نظام «تاجماعت» في مواجهة التنصير

ويذكر عبدالقادر بوتشيشة، في دراسته «لافيجري والتنصير في الجزائر: ضخامة الإمكانيات والجهود وضآلة النتائج والمردود. قرى العرب النصارى أنموذجًا»، أن لافيجري عندما بدأ نشاطه التنصيري في الجزائر كان يحذوه أمل كبير في أن يدخل الناس في دينه أفواجًا، وكان من البداية يدرك مدى تأثير المجتمع على الفرد في الجزائر، لذلك حاول تطبيق استراتيجية التنصير الجماعي وركز على منطقة القبائل، ولكن نظام «تاجماعت» – وهو نظام قضائي عشائري يدير شؤون القبائل – أفشل خطته ولم يتنصر من البالغين إلا عددًا محدودًا.

لذا، اتجه لافيجري إلى القُصّر الذين أضناهم اليتم والجوع والفاقة وأصبحوا بلا معين، لأنهم كانوا بمثابة العجينة التي يسهل تشكيلها، ومن هذه الفئة كان العرب المتنصرين. وبحسب «بوتشيشة» كان لافيجري يرى في هؤلاء الشبان الجزائريين الطليعة النصرانية لـ«أنجلة القارة» ونواة الكنيسة الإفريقية الجديدة.

والواقع أن المجتمع الجزائري نبذ المتنصرين وقاطعهم، فالأفراد القلائل الذين تنصروا في منطقة القبائل طُردوا من قراهم ولُفظوا من المجتمع، وكذلك الحال بالنسبة للأسر المتنصرة التي استقرت في قريتي «سان سيبريان» و«سانت مونيكا».

ويذكر بوتشيشة، أن لافيجري كان يزمع إقامة قرى أخرى للعرب النصارى، لكن الحكومة الفرنسية سحبت الاعتمادات المالية التي كانت خصصتها للمشروع، وكان وراء هذا السحب النائب في البرلمان الفرنسي أوغيست هيبير وارني الذي انقلب على صديقه لافيجري واتهمه بتحويل الأموال المعتمدة لجيبه الخاص، وأنه لم ينفق منها على الأيتام إلا القليل، كما اقترح أن يُوزع العرب المتنصرين على العائلات الأوروبية ليعملوا كخدم في البيوت.

وعانى العرب المُتنصرون عزلة مضاعفة، فنُبذوا من طرف المجتمع الجزائري واحتُقروا من الأوروبيين. ولم يتغير وضعهم القانوني رسميًا، فلم يحصلوا على المواطنة وعُدوا من الوجهة الرسمية رعايا فرنسيين مثلهم مثل «الأهالي»، فالتحول إلى النصرانية – في نظرالمشرّع الفرنسي – لا يعادل التجنّس، ذلك لأن الإدارة الاستعمارية كانت تريد الإبقاء على هيمنة العنصر الفرنسي ذي الأصل الأوروبي.