دعنا نبدأ من مكان يضمن لنا حديثًا شيقًا. نحن الآن في نابولي، حيث يؤمن الناس أن لا شيء أفضل من فوز جديد لفريق المدينة سوى بيتزا تحمل رائحة الثوم والريحان على الطريقة الجنوبية. لهذا لا يوجد أفضل من مكان يقدم أفضل أنواع البيتزا مرفقة بصور لاعبي كرة القدم.

ها نحن الآن داخل المطعم الشهير الذي يتوسط المدينة، حيث اكتظت صور لاعبي كرة القدم الطليان خلف الطباخ العجوز لتكوّن قائمة الطعام شديدة الخصوصية. تتوسط صورة مارادونا القائمة حيث كتب أسفلها «بيتزا كواترو ستاجيوني» ثم وصف تفصيلي بسيط كالآتي «لأن شمس دييجو لم تغب طوال الفصول الأربعة» أما أسفل صورة «أتيلا سالوستر» كتب «بيتزا بيانكا، لأن سالسوتر كان يكره كل ما هو أحمر».

أكثر ما يلفت النظر هو صورة اللاعب غير الإيطالي الوحيد في القائمة والتي أضيفت مؤخرًا، كانت الصورة تحمل وجه اللاعب البرازيلي «كارلوس كاسيميرو». أما الأمر الذي أثار حنق مرتادي المطعم أن صورة كاسيميرو كانت تشير إلى «بيتزا مارجريتا»، البيتزا التي تعود أصولها لنابولي وحدها إلا أن الوصف التفصيلي كان أكثر إثارة: «لأن كاسيميرو فضل أن يكون شديد البساطة بطريقة لا تُنسى».

هل لنا أن نسأل الطباخ العجوز عن سر صورة كاسيميرو أم أنه قد مل من الإجابة؟ يبدو أن الرجل قرر من تلقاء نفسه أن يشرح وجهة نظره بعد أن لاحظ حيرتنا نحن الغرباء عن المكان.

عام 1889 قرر الملك أمبرتو الأول وزوجته الجميلة الملكة مارغريتا سافوي أن يقوما بزيارة لنابولي العاصمة السابقة للمملكة الجنوبية. كانت الملكة قد سئمت من المأكولات الفرنسية الشائعة بين أفراد العائلة المالكة في جميع أنحاء أوروبا في ذلك الوقت؛ لذا استدعت أشهر صانع للبيتزا في نابولي السيد «رافاييل إسبوزيتو» وأوصته أن يقدم لها طعامًا يحمل الطابع الإيطالي الخالص.

قدم إسبوزيتو للملكة بيتزا تحمل فوقها صلصة الطماطم والموزاريلا و غصن الريحان. لم تستطع الملكة أن تقاوم المذاق الرائع لتلك المكونات شديدة البساطة التي تحمل ألوان العلم الإيطالي فقررت أن يحمل هذا الاختراع اسمها للأبد.

كان إسبوزيتو يستطيع أن يضيف العديد من المكونات إلى البيتزا الخاصة به، إلا أنه فضل أن يكون شديد البساطة والفاعلية. هكذا أيضًا كاسيميرو الذي يملك ما ينتزع به آهات الجماهير، لكنه أدرك مبكرًا أن لا أحد ينسى المارجريتا أبدًا.

هل اقتنعت بحديث هذا العجوز؟ حسنًا، دعنا نعود الآن إلى كاسيميرو الذي ربما تقنعك سيرته بشكل أكثر وضوحًا.

أنا لاعب وسط مدافع

يبدو المشهد مختلفًا عن المعتاد هنا. ففي مدينة ساو خوسيه دوس كامبوس والتي تبعد بضع ساعات عن ساو باولو، نستطيع أن نرى الطفل الصغير كارلوس كاسيميرو يلعب كرة القدم كأحد ناشئي أكاديمية موريرا المعروفة في المدينة، لكن الغريب أن كاسيميرو بدأ نشاطه مع الأكاديمية كحارس مرمى، والأكثر غرابة أنه كان يشارك مع فريق البنات وليس الأولاد.

تبدأ القصة قبل ذلك بقليل، فلم يكن كاسيميرو قد أتم الثالثة من عمره بعد عندما هجر والده المنزل. وقبل الأوان، أُجبر على أن يصبح رجل المنزل وأن يعتني بشقيقين أصغر منه بينما كانت والدته تعمل لساعات طويلة كمدبرة منزل.

لم يجد كاسيميرو مخرجًا من تلك الدراما التي تحيط بالمنزل إلا بقضاء بضع ساعات كل أسبوع رفقة بنت عمه التي كانت تلعب كرة القدم في أكاديمية موريرا. لعب «موريرا» دورًا محوريًا في حياة كاسيميرو، فبعد أن لاحظ موهبته نقله فورًا لفريق الأولاد حيث لعب كمهاجم وأثار إعجاب الجميع.

سأكون دومًا شاكرة أنه قابل موريرا، لقد قضى معه معظم وقته ورفقة كرة القدم وهو ما أنقذه من التعلق بالجانب الآخر من المدينة حيث المخدرات والجريمة وأصدقاء السوء,
ماجدا والدة كاسيميرو

ذاع صيت ماكينة الأهداف الجديدة كارلوس كاسيميرو، وكان أول من قرر أن يقتني تلك الموهبة هو فريق ساوباولو. تم اختبار كاسيميرو رفقة حوالي 300 لاعب على أن يتم اختيار 50 لاعبًا فقط للانضمام للفريق.

سأل المدرب أولًا عن حراس المرمى ليرفع ثلاثة أشخاص فقط أيديهم. ثم سأل عن عدد المهاجمين ليرفع حوالي 40 طفلًا أيديهم وكذلك لاعبي الوسط المهاجم، هنا أدرك كاسيميرو أنه لن يلقي بإمكانياته غمار المنافسة ليصبح مجرد مهاجم برازيلي تنتجه البلاد مرة كل خمس دقائق. لذا وبمجرد أن صاح المدرب: هل هناك لاعب وسط مدافع؟ ارتفعت سبعة أو ثمانية أيدي فقط ومنهم كاسيميرو. أدرك المدرب منذ الدقيقة الأولى أن هذا اللاعب مهاجم في الأساس لكن كاسيميرو أصر على موقفه بذكاء شديد: أنا لاعب وسط مدافع.

ساوباولو: لأنك لاعب وسط مدافع فأنت غير مميز

شارك كاسيميرو في أول مباراة له مع ساو باولو في يوليو/ تموز 2010 بعمر الثامنة عشر فقط، لكن بعد شهر واحد فقط شارك لاعب آخر من صفوف الناشئين في مباريات الفريق الأول وهو لاعب السبيرز الحالي «لوكاس مورا».

سرعان ما اندلعت المقارنة بين اللاعبين ليتذوق كاسيميرو للمرة الأولى مرارة التقليل. يبدو مورا أكثر مهارة كما أنه محبوب من الجميع، بينما تم الحكم على الانطوائي كاسيميرو كلاعب خط وسط دفاعي يتسم بالتكبر على الكرة حتى وإن كانت مهارات استخلاصه للكرة رائعة لكنه ليس بأهمية مورا بالطبع.

تعدت الأزمة آراء الجماهير لتصل إلى إدارة الفريق التي قررت زيادة راتب مورا دون أن تفعل ذلك مع كاسيميرو. قرر كاسيميرو حينئذ أن يخرج للإعلام ويعبر عن غضبه موضحًا أنه لا يهتم بطريقة تعامل ساو باولو مع لوكاس مورا تحديدًا لكنه بحاجة إلى تقييم وضعه في الفريق.

ماذا فعل لوكاس ولم أفعله أنا؟ ما هي الجوائز التي ربحها ولم أربحها؟ أنا فقط لا أشعر بالتقدير الذي حظي به لوكاس مورا.
كاسيميرو خلال مقابلة مع ESPN البرازيل

أصبح رحيل كاسيميرو عن ساوبالو منطقيًا للغاية، وكانت أعين خبراء البلانكو سباقة في التعاقد مع كارلوس في صفقة تبدو هزيلة للغاية. بدأ كاسيميرو مع الكاستيا ثم فترة إعارة قصيرة مع بورتو وعودة لصفوف مدريد، تصحبها قناعة من المدرب السابق رافا بينيتيز ثم تألق مع زيزو. لكن لماذا زيزو تحديدًا؟

ريال مدريد زيدان: لأنك لاعب وسط مدافع فأنت مميز

هذا التقليل الذي عانى منه كاسيميرو كلاعب وسط مدافع لصالح أصحاب المهارات لم يكن ليدركه أي مدرب في العالم مثلما يدركه زيدان تحديدًا. قبل أن يتولى زيدان تدريب ريال مدريد بثلاثة عشر عامًا كان شاهدًا على واحد من أسوأ قرارات «فلورنتينو بيريز» على الإطلاق، بعد أن قرر الأخير الاستغناء عن لاعب الوسط المدافع كلود ميكاليلي من أجل أن يتم صفقة الإنجليزي بيكهام. 

انهار الفريق الذي كان يضم كوكبة من النجوم أمثال رونالدو وزيدان وفيجو إثر رحيل ميكاليلي على الفور. أدرك زيدان حينئذ قيمة ميكاليلي لاعب خط الوسط المدافع، حتى أنه ربط عودته لقيادة منتخب فرنسا من الاعتزال بعودة ميكاليلي، ثم لخص بعد ذلك القصة ببساطة شديدة عبر تصريحه التاريخي: «لماذا تضع طبقة أخرى من الطلاء الذهبي على سيارة بينتلي بينما أنت تفقد المحرك بالكامل؟»

لعب زيدان دورًا محوريًا للغاية في ظهور النسخة الحالية لكاسيميرو. فعلى الرغم من قناعة بينيتيز بالبرازيلي، إلا أنه لم يكن يملك الشخصية القوية التي تمكنه من فرض اللاعب على صفوف الفريق المدجج بالصفقات الجديدة الثمينة حينئذ. في المقابل كان زيدان يملك تلك الشخصية القوية بالإضافة للتجربة المريرة السابقة كلاعب.

يعرف زيدان ببساطة شديدة أنه يحتاج إلى صخرة تمكن باقي لاعبي الوسط من أداء أدوار أكثر سهولة لمصلحة الفريق. يعرف جيدًا زيدان أن العرض المبهر الذي سيخطف أنظار المشاهدين لن يتم أبدًا دون كلب حراسة شرس يقبع في الوسط ويمزق كل من يفكر في إفساد هذا العرض.

أدرك زيزو سريعًا أن بيريز لن يدفع المبلغ اللازم لجلب لاعب خط وسط مدافع بقيمة كانتي على سبيل المثال، ثم أن زيدان آمن كثيرًا بقيمة كاسيميرو وقدرته على التطور، وكان الرهان على الوقت اللازم ليتوهج كاسيميرو ويجني زيدان مكاسبه العديدة إزاء هذا الرهان.

زيدان يفوز برهان الوسط المدافع

عن قناعة تامة كانت اختيارات زيدان فيما يتعلق بخط الوسط هي وجود كاسيميرو بالإضافة لأي ثنائي آخر. لعب كاسيميرو 90 دقيقة كاملة في كل مباراة كان جاهزًا للمشاركة فيها في ثلاثية دوري أبطال أوروبا التي فاز بها زيزو.

كان أول المستفيدين هو الألماني كروس الذي استطاع أن يتحرر من واجباته الدفاعية ليقدم إسهامًا هجوميًا في الوسط بفضل وجود كاسيميرو. تنوعت الأسماء في الهجوم والوسط لكن جميعها دون استثناء كانت تدين بالفضل في التقاط الأنفاس لكاسيميرو، كما أنه بدا كحل سحري لدفاع مدريد المهتز آنذاك.

تبدو المقارنة بين أرقام مدريد خلال موسمي 2015/2016 بدون كاسميرو و2016/2017 بوجود كاسيميرو خير دليل. حافظ ريال مدريد على نظافة شباكه بمعدل كل 2.2 مباراة بوجود كاسيميرو. أما بدونه فالرقم كان متضاعفًا حيث خرج الريال بشباك نظيفة بمعدل كل 4.4 مباراة. وخلال موسم 2017 / 2018 لم يخرج فريق ريال مدريد بشباك نظيفة خلال 14 مباراة تغيب خلالها كاسيميرو للإصابة سوى مرتين فقط واستقبل أهدافًا بمعدل 1.2 هدفًا لكل مباراة وبمجرد عودته هبط المعدل ألى 0.86 هدفًا لكل مباراة.

لا زال يقدم كاسيميرو مستواه المعهود خاصة بعد عودة زيدان لتدريب ريال مدريد. حسنًا، هل اقتنعت الآن؟ دعنا نتناول إذن بيتزا كارلوس كاسيميرو، فالمارجريتا لا تؤكل باردة أبدًا.