يُحكَى أن هناك ستة عميان تحسّسوا فيلًا زار قريتهم لأول مرة في حياتهم، وحين طلب منهم الملك الحكيم أن يصفوا له الفيل اشتعل بينهم الجدال؛ فالأول وصف الفيل بأنه ثعبان ضخم لأن يده تحسست خرطوم الفيل، والثاني وصفه بأنه يشبه الجدار لأنه وضع يده على جسده، والثالث وصف الفيل بأنه مجرد جزع شجرة لأن يداه تحسست إحدى أقدامه، وهناك منْ وصفه بأنه حبل أي الذيل، والذي وصفه أنه خنجر لأنه تحسّس أحد نابيه.

وراح كل منهم يتهم الآخر بأنه يده ربما تحسّست شيئًا آخر غير الفيل، ليتدخل الملك الحكيم ويخبرهم أن كل واحدٍ منهم على صواب؛ فكل منهم لامس جزءًا من الحقيقة، وأنهم إذا جمعوا تلك الأجزاء وقتها يمكنهم الوصول إلى الحقيقة الكُلية والمُطلقة.

تمثل قصة العميان والفيل الشهيرة التي انتشرت من الهند إشكالية حول مفهوم ومعنى الحقيقة. فذلك الطرح المتعلق بالحقيقة الجزئية يبدو جليًا في قول أرسطو «إننا نصل إلى الكلي عن طريق الجزئي بالاستقراء». إلا أن مُعلِّمه أفلاطون كان لديه طرح مختلف قليلًا حول الحقيقة؛ وهي أمثولة تُعرَف باسم «كهف أفلاطون» وتم ذكرها في كتابه «الجمهورية»؛ وهي عبارة عن محاورة تدور على لسان أستاذه سقراط.

حينما تتعارض الحقيقة مع إيمان الآخرين

يروي أفلاطون في أمثُولته عن مجموعة من المساجين المُقيَّدين في كهف منذ نعومة أظافرهم؛ ولم يروا العالم الخارجي مُطلقًا، ومن خلفهم توجد نار ومجموعة من الحُرَّاس يقومون بتحريك بعض الأشكال المصنوعة من الحجارة والخشب، لترتسم أمام هؤلاء المساجين ظلال هذه الأشكال على جدار الكهف.

الحُرّاس من خلف المساجين لذلك لم يروهم مطلقًا؛ فقط يرون تلك الظلال والتي يبنون معرفتهم من خلالها لتصبح بالنسبة لهم هي الحقيقة، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يتحرَّر فيه أحد المساجين ويتسلل ليخرج من هذا الكهف، حينها يُدرك أن ما كان يراه من الظلال وهمًا باطلًا، وأن رؤيته الآن أدق، لأنه أقرب إلى الحقيقة.

ذلك الشخص الذي استطاع أن يرى النور؛ سيُفضِّل ألف مرة أن يكون على الأرض مجرد خادم أجير، على ألّا يعود إلى أوهامه القديمة، أو العيش كما كان يعيش من قبل، وهنا يتساءل أفلاطون:

فلتتصور أيضًا ماذا يحدث لو عاد صاحبنا واحتل مكانه القديم في الكهف، ألن تنطفئ عيناه من الظلمة حين يعود فجأة من الشمس؟!

وهذا طبيعي لأن عينيه في هذا الوقت ما زالت معتمة زائغة، وقبل أن تعتاد الظلمة؛ وهو أمر يحتاج إلى بعض الوقت، ترى ماذا سيكون رأي السجناء الذين لم يتحرروا من أغلالهم قط حين يحاول أن يقودهم إلى الأعلى، حين يحاول أن يُحرِّرهم من أغلالهم ليُرِيهم الحقيقة التي رآها بنفسه؟

تلك الأطروحة التي كتبها أفلاطون منذ أكثر من ألفي عام؛ قد أسهمت في العديد من الأفكار الفلسفية، وطُرحت في كثير من الأعمال الأدبية والفنية والدرامية الشهيرة مثل الفيلم الأمريكي Us الذي صدر عام 2019 وفيلم The Truman Show الذي صدر عام 1998، حتى وإن كانت هذه الأعمال لم تناقش الفكرة بشكل مباشر أو مُفصَّل.

على أرض الواقع

ألن يسخروا منه، ويقولوا إنه لم يصعد إلى أعلى إلا لكي يفسد أبصاره، وإن الصعود أمر لا يستحق منّا عناء التفكير فيه؟ فإذا ما حاول أحد أن يُحرِّرهم من أغلالهم، ويقودهم إلى أعلى، واستطاعوا أن يضعوا أيديهم عليه، ألن يجهروا عليه بالفعل؟

هكذا يختم أفلاطون أمثُولته ليتركنا نتساءل: هل يُعقَل أن يُقتَل شخص فقط لأنه يمتلك تصورًا مختلفًا حول حقيقة شيء ما؟! إن الشخص المُتنوِّر في أطروحة أفلاطون يمتلك الحقيقة المُطلقة، نحن نعلم أنه على صواب، ولكن هل من الممكن أن يصل هذا الخلاف إلى حد قتله؛ رغم أنه كل ما يريد هو أن يريهم الحقيقة التي رآها؟!

إذا كان الأمر لا يبدو منطقيًا فبإمكاننا النظر إلى التاريخ، وسنجد أنه يمتلئ بقصص أشخاص تتشابه تمامًا مع ذلك المُتنوِّر في أمثُولة أفلاطون.

فالفيلسوف والفلكي الإيطالي «جوردانو برونو» الذي كان يرى أن الأرض تدور حول الشمس؛ وهو عكس الاعتقاد السائد وقتها بأن الأرض هي مركز الكون، وآرائه حول لا نهائية الكون، والنجوم البعيدة التي تدور حول كواكبها الخاصة. كل تلك الآراء كانت سببًا في أن يُحاكَم برونو بتهمة الهرطقة ويتم حرقه على وتد في روما عام 1600م.

ونهاية الفيلسوف برونو لم تكن أقل مأساوية من الطبيب المجري «أجناتس سيملفيس» الذي كان يعمل في مستشفى فيينا العام بين عامي 1844 و1848، وكان معدل الوفاة في جناح الولادة وقتها مرتفع للغاية؛ بسبب مرض حمى النِفاس الذي كان بمثابة شهادة وفاة للأمهات حديثي الولادة، فمن بين كل ست حالات كانت هناك واحدة تصاب بالحمى وينتهي بها الأمر في فراش الموت.

وقد لاحظ أجناتس أن عدد حالات الوفاة في جناح الأطباء كان ثلاثة أضعاف معدل حالات الوفاة مقارنة بجناح المتطوعات والممرضات، واستنتج أن المشكلة ربما تكمن في الأطباء، ليس فيهم بالتحديد وإنما في شيء يحملونه معهم أثناء فحص الأمهات. وبناءً على ما فكّر فيه فرض على الأطباء غسل يديهم بالكلور، ورغم إثبات فاعلية هذه الطريقة؛ إلا أنها قُوبلت بالرفض من المجتمع العلمي، فالبكتيريا والجراثيم لم تكن مُكتشَفة بعد، وبعد إصرار أجناتس وعدم ترحيب الأطباء بفكرته أُحيل لمستشفى الأمراض العقلية ليموت هناك في النهاية.

وحتى سقراط نفسه الذي كَتب أفلاطون المحاورة على لسانه، كونه مُعلمه الذي تلقّى المعرفة على يده؛ يتشابه إلى حد ما مع الشخص المُتنوِّر في الأمثُولة، فسقراط تم اتهامه بإفساد عقول الشباب وحُكم عليه بالإعدام تجرعًا للسم؛ لأنه فقط كان يمتلك أفكارًا غير مقبولة لمن حوله، ولربما موت سقراط هو ما دفع أفلاطون ليكتب أمثُولته المتعلقة بالكهف.

ربما كان آخر درسًا من دروس معلمه في ساعاته الأخيرة قبل أن يتم إعدامه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.