في نهاية عام 2020 شهدت أفريقيا الوسطى انتخابات جديدة منحت الرئيس تواديرا ولايةً ثانية، لكن لم تُعلن نتائج تلك الانتخابات في أجواء احتفالية لأن البلد منقسم على نفسه. فالرئيس الفائز معروف بحصوله على دعم روسي، ليس في التلاعب في الانتخابات فحسب، بل يوجد في بلاده مرتزقة روس يعملون بعلمه وينفذون إعدامات ميدانية وانتهاكات متعددة في حق معارضيه.

المعارضة بدورها ليست أشد إخلاصًا من الرئيس والحكومة، فمن ورائها تقف فرنسا بشكل واضح. فهى تدعم الميليشيات المعارضة التي حاصرت العاصمة، بانجي، وجعلت الانتخابات تجري في ظروف أقرب لحالة الحرب. تسيطر المعارضة بقواتها على ما يزيد على نصف البلاد، ثلثي البلاد تقريبًا إذا أضفنا الفصائل المعارضة غير المسلحة والمدعومة فرنسيًا أيضًا.

لكن زاد الصراع في الأيام السابقة للانتخابات بسبب استبعاد المحكمة الدستورية باستبعاد الرئيس الأسبق، فرانسوا بوزيز، من الانتخابات بحجة تورطه في جرائم حرب. وبرفقة فرانسوا استبعدت المحكمة قرابة 80 مرشحًا آخرين، وللمصادفة فإن أغلبهم ينتمي إلى المعارضة. لذا أعلنت فصائل المعارضة المسلحة اتحادها جميعًا تحت اسم تحالف الوطنيين من أجل التغيير، وأصدروا دعوة لتأجيل الانتخابات.

تزامن مع دعوتهم زيادة سيطرتهم على 4 مدن رئيسة في البلاد، فصار الخناق أشد على الحكومة وعاصمتها، فأجريت الانتخابات في موعدها، لكن لم تحل الانتخابات الأزمة بل زادت من الصراع بين القوتين الكبيرتين، فرنسا وروسيا، والذي يبدو صراعًا غير منطقي على بلد تعداد سكانه يبلغ في أقصى التقديرات 5 ملايين مواطن، ولا يطل على أي سواحل مهمة أو غير مهمة، ولا يوجد وزن استراتيجي له في أفريقيا.

انتخابات بلا ثلث الشعب

ثلث المواطنين لم يشارك في الانتخابات خوفًا من أسلحة المعارضة، الرقابة الدولية كانت غائبة، إبلاغات بالجملة عن تزوير بطاقات انتخابية، دلائل واضحة على بطلان العملية الانتخابية، لكن الصراع ليس صراعًا بين قوى محلية تريد فحسب إعادة الانتخابات، أو يمكن للرئيس المناورة أو الوصول لحل وسط، بل هناك طرفان خارجيان يخوضان صراعًا بالوكالة يجعل من الحلول الوسط أمرًا مستحيلًا.

روسيا تقدم للرئيس وحكومته أسلحة شديدة التطور، تُدرب الجيش والقوات الخاصة. كل نقطة تفتيش في البلاد هي بطريقة ما تحت أعين الروس، حرس الرئيس الشخصي مدّربون على أيد الروس. فروسيا تحاول أن تتمدد في ذلك البلد الصغير الموجود في قلب أفريقيا، بينما فرنسا تحاول حماية مستعمرة فرانكفونية قديمة وأثيرة عندها، لذا تحاول استبدال الرئيس الموالي لموسكو بآخر موالٍ لها.

الصراع الروسي الفرنسي لا يبالي بحقيقة أن البلد يعاني من الفقر والحرب منذ سنوات طويلة، لدرجة أن ثماني اتفاقيات سلام وُقعت بين الفرقاء في ست سنوات فحسب، وتلك الاتفاقيات الثمانية لم تجلب السلام للبلد، بل انهارت جميعها. ولا أحد يعرف ماذا يريد الطرفان من تلك المنطقة، ففرنسا في الأصل كانت محتلة للبلاد لعقود طويلة، في تلك العقود أهملت فرنسا البلد واستغلته حتى نضبت موارده وجفت مصادر الثروة التي حرصت فرنسا على استنزافها حتى آخر ذرّة.

وحتى بعد الاستقلال الرسمي، عام 1960، ظلت فرنسا محتفظة بقاعدة عسكرية ثابتة في البلاد لمدة 37 عامًا. تلك القاعدة الواحدة هي التي حركت مصير تلك البلدة الصغيرة، فلم يصل إلى السلطة رئيس واحد إلا عبر انقلاب عسكري، انقلاب على انقلاب، وكان الانقلاب في الحالتين مدعومًا من فرنسا، وسبب الانقلاب هو رغبة الرئيس في تقليل الاعتماد على الجانب الفرنسي، ومحاولة الاستقلال، ولو صوريًا، عن باريس.

أول رئيس لا ترضى عنه فرنسا

كُسرت تلك القاعدة مرة واحدة، بسبب قمع الرئيس بوزيز غير المسبوق تشكلت حركة مقاومة خاضت حربًا ضد الحكومة المركزية، عُرفت باسم حرب الأدغال استمرت طوال 4 أعوام من 2004 حتى 2008. في عام 2008 وقعّ بوزيز اتفاق سلام مع المتمردين لكنّه فشل في الوفاء به، فشكّلت القوات المتمردة تحالفًا أشد تماسكًا تحت اسم سيليكا، عماده المسلمون المحرمون من حقوقهم في مختلف أرجاء البلاد.

في غضون 5 سنوات نجح تحالف سيليكا في وضع رئيسه ميشال دجوتوديا في سدة الحكم، ليكون بذلك أول رئيس يحكم البلاد دون دعم فرنسي أو موافقة فرنسية. لكن المأساة أن الانتقام حضر في المشهد بقوة، فالميليشيا التي باتت الآن في الحكم سعت بقوة وبعنف غير مدروسين للانتقام من الحكومة المركزية وقواتها. لم يستطع ميشال السيطرة على سيليكا، فأصدر في نفس عام توليه للحكم قرارًا بحل التحالف.

لم تكتف فرنسا بقرار الحلّ، بل شرعت في إنشاء تحالف مضاد تحت اسم أَنتي بالاكا، تحالف من ميليشيا مسيحية بدأت في شن هجمات مضادة على القرى المسلمة. الحرب صارت طائفية، والإبادات أصبحت هائلة ولا قيود لها، الدولة عاجزة عن حماية مواطنيها أو كبح جماح الآخرين، بهدوئها المعتاد أعلنت فرنسا أنها سوف تتدخل عسكريًا في أفريقيا الوسطى لحقن الدماء ومنع الإبادة العرقية التي تهدد المسلمين والمسيحيين.

أعلنت فرنسا أن عملياتها ستكون قصيرة الأمد، استعادة للاستقرار ثم إعادة للجنود الفرنسيين، لكن فرنسا كانت تدرك أنها لن تخرج فقد عادت فرنسا إلى موطنها الأثير، حيث الفرنك الفرنسي هو العملة القومية حتى الآن. وتملك أفريقيا الوسطى احتياطات نقدية هائلة في البنك المركزي الفرنسي، وتوّرد كل عملاتها الأجنبية لفرنسا بشكل دوري، وتعمل العديد من الشركات الفرنسية على امتصاص كل ما يظهر من خيراتها.

فرنسا أشعلت النار وتتدخلت لتزيدها اشتعالًا

تقارير أممية عن اعتداءات جنسية من قبل الجنود الفرنسيين على السكان الأصليين، واستنزاف أكبر من المتوقع للموارد العسكرية، سببان دفعا فرنسا لإنهاء العملية خصوصًا بعد تنحي بوزيز فلم يعد مبرر لبقاء فرنسا. اكتفت فرنسا بالمشاركة بـ350 جنديًا في بعثة أممية قوامها 13 ألف فرد.

بعد انسحاب فرنسا وجدت روسيا الفرصة سانحة لوضع موطئ قدم، خصوصًا أن العلاقات بين البلدين تمتد لعام 1970، لكن الواقع يقول إن العلاقات لم تشهد أي حراك إلا عام 2017. في ذلك العام طلب تواديرا من مجلس الأمن تعديل قرار حظر الأسلحة المفروض عليها. كان تواديرا يُلمح إلى 1400 بندقية كلاشنيكوف كانت فرنسا قد صادرتها من قراصنة صوماليين، لكن روسيا احتجت على تلك النقطة بحجة أنه لا يجوز استخدام الأسلحة المصادرة وإرسالها لجهة أخرى.

وفي نفس الوقت أعلنت روسيا أنها قد تقدّم أسلحة خفيفة لتواديرا بدلًا من الكلاشنيكوف، فوافق مجلس الأمن بالإجماع، حتى فرنسا رحبّت. فجأة أرسلت روسيا 170 مدربًا روسيًا أمنيًا بحجة حراسة مستشفيات تبنيها روسيا هناك. لكن لاحقًا تبيّن أنهم مجموعة من المرتزقة العسكريين. وأصبحوا مسيطرين على كافة المهام الحساسة والأمنية في أفريقيا الوسطى. وكلل التعاون بتوقيع اتفاقية عام 2018 لتدريب ضباط أفريقيا الوسطى في أكاديميات روسية.

 من البديهي التساؤل عما سوف تستفيده روسيا من بلد فقير محدود الموارد مقارنة بالدول الأخرى التي تسيطر عليها روسيا، يمكن الإجابة أن روسيا تريد بسط نفوذها فحسب، وتقديم نفسها كدولة عظمى مثل الولايات المتحدة أو أوروبا.ويمكن القول إن مجرد بناء قاعدة عسكرية روسية في أفريقيا الوسطى، الواقعة في قلب أفريقيا، سوف يجعل روسيا قادرة على العبور الجوي والبري إلى أجزاء مختلفة من القارة الأفريقية. وهو ما أعلنه تواديرا العام المنصرم، بأن بلاده تدرس إمكانية بناء قاعدة روسية على أراضيه.

بداية بلا نهاية

وسواء بُنيت القاعدة أو لم تبنَ فالتقارير المتخصصة في مجال التسلح تؤكد أن عام 2008 وحده تسلمت أفريقيا الوسطى 900 مسدس، و5200 بندقية، و270 آر بي جي، و20 منظومة دفاع جوي تُحمل على الكتف. وفي الجهة الأخرى تواصلت روسيا مع الفصائل المسلحة المتمردة وتوصلت معها لاتفاق يقضي باستغلال مناجم الذهب والألماس الواقعة تحت سيطرتها.

وبعد أن فشل الاتحاد الأوروبي وفرنسا في إحضار الفرقاء لطاولة المفاوضات، أحضرتهم روسيا ووقعت اتفاقًا بين تواديرا وأكثر من 14 فصيلًا مسلحًا. استغلت روسيا الاتفاق وبدأت في تمديد وجود رجلها في الحكم، تذرعًا بوباء كورونا، ثم بتزوير الانتخابات مؤخرًا. لكن الفصائل التي لم تشارك في الاتفاق أخذت على عاتقها محاربة الحكومة المدعومة من روسيا، 5 فصائل مسلحة اندمجت برعاية فرنسية، وأعلنت أنها تنوي الإطاحة بتواديرا بأي ثمن.

حتى أن فرنسا أعلنت بشكل غير منطقي أنها تمنح المحكمة الدستورية 90 ألف يورو، قبل يوم واحد فقط من موعد إعلان قرارها بشأن تمديد ولاية تواديرا. وبالطبع جاء قرار المحكمة موافقًا لرغبة فرنسا، فأعلنت أن تمديد الولاية غير دستوري ويجب إجراء انتخابات جديدة. أوعزت روسيا لتواديرا أن يوافق، ووعدته أن تتكفل بإضعاف قواعد منافسيه الانتخابية، وبالفعل ضمنت له الفوز.

قوّضت روسيا معظم الفصائل المعارضة لتواديرا، وألبت فصائل مسلحة معارضة على فصائل معارضة مسلحة أخرى، فقُتل المئات وشُرد عشرات الآلاف. فخاض الطرفان حربًا دعائية يحاول كل منهما تسخير أبواقه الإعلامية للسخرية من الآخر، حتى أن «فيسبوك» أعلن، مؤخرًا، عن إيقاف أكثر من 100 حساب إلكتروني مرتبطة بفرنسا، وبالمثل أعلن عن إيقاف حسابات دعائية روسية تنشر روايات مضللة للأحداث.

ليست تلك القصة هى الفصل الآخير في صراع روسيا وفرنسا على نفوذ أفريقيا الوسطى، ولا بد أنه سيكون هناك فصل أخير، لكن آخر الأحداث وقوعًا هو طرد القوات المعادية للحكومة 8500 نازح من مخيم لإحراق المخيم بالكامل، حتى لم يبق منه شيء كما تقول منظمة أطباء بلا حدود.