حين توفي الرئيس إدريس ديبي بعد ساعات من إعلان فوزه بولاية سادسة. لكن الوفاة لم تكن طبيعية، بل قُتل الرجل، 68 عامًا. الإعلان الرسمي أنه قُتل على الجبهة أثناء تفقد قواته في الشمال التي تقاتل المسلحين الراغبين في إسقاط حكمه منذ عام 1990. السلطات الانتقالية في تشاد وجماعات المعارضة وقعوا اتفاقًا للمصالحة برعاية قطر. 5 أشهر من المفاوضات بحضور ممثلي الاتحاد الأفريقي وعدد من ممثلي المنظمات الدولية. بدأ الصراع في 20 أبريل/ نيسان الماضي.

عقب وفاة ديبي تشكل مجلس عسكري انتقالي برئاسة نجله، محمد إدريس ديبي، البالغ 37 عامًا. المجلس الانتقالي وضع خطته بأن يقود البلاد لمدة 18 شهرًا ثم يُجري انتخابات شعبية. لكن المتمردين، كما يصفهم الإعلام الرسمي التشادي، رفض تلك الخطة من بدايتها. قائلين إن تشاد ليست مملكة، وأعلنوا نيتهم السير بأسلحتهم نحو العاصمة للإطاحة بالابن. أما جماعات المجتمع المدني والمعارضة السياسية فرفضت الأمر واعتبرته انقلابًا مؤسسيًا، لكنها أعلنت عدم اللجوء للسلاح والدعوة للحوار.

وافق ديبي الابن على الحوار مع المعارضة وعين نائبًا مختصًا بمناقشة التسوية السياسية. لكن ظلت المعضلة الأكبر في جبهة التوافق والتغيير. إذ تتشكل المعارضة التشادية المسلحة من عدة فصائل، أبرزها جبهة التوافق والتغيير. تلك الجبهة التي تشكلت بعد انشقاق زعيمها محمد مهدي عن النظام الحاكم. واتخذت الجبهة من ليبيا مستقرًا لها، تعيد فيها ترتيب صفوفها، وتزيد من عددها وعتادها فيها.

واستطاعت الجبهة أن تتغلب على الجيش النظامي أكثر من مرة. خصوصًا بعد وفاة ديبي، فقد زاد عدد الفصائل المتحالفة معها. وتواصلت مع المعارضة السياسية لقطع الطريق على الابن من أن يؤسس لديكتاتورية جديدة كما فعل أبوه. كذلك ظهر للجميع تطور نوعية السلاح الذي تمتلكه الجبهة ما مكنّها من التوغل للعمق حتى العاصمة. كما استطاعت أن تتغلب على ميزة الطيران الحربي الذي كان يكشف كافة معاقلهم بسبب الطبيعة الصحراوية المكشوفة لتشاد، ونجحت الجبهة في إسقاط 3 طائرات مقاتلة.

صراع العشائر لا يُنسى

معضلة الصراع في تشاد أنه ذو بعد قبلي. فالرئيس المقتول، وابنه الرئيس الحالي، وقادة الجيش ينتمون إلى قبيلة الزغاوة المنتشرة بين السودان وتشاد. ونسبتهم 1% من سكان تشاد. بينما المتمردون، وزعيمهم محمد مهدي، ينتمي إلى قبيلة القرعان، تمثل 6% من السكان. وينتمي للقرعان كذلك الرئيسان السابقان لديبي، مثل حسين حبري الذي أُطيح به من الحكم على يد إدريس ديبي.

لم ينس القرعان أنه تم إقصاؤهم من الحكم على يد الزغاوة، لهذا تشكلت حركة التمرد من الأصل، ولهذا تستمر في القتال حتى الآن. والصراعات القبلية والحروب الأهلية موجودة في تشاد منذ لحظة استقلالها عام 1960 عن الاحتلال الفرنسي. وهو ما جعل الجيش الفرنسي يعود مرة أخرى لتشاد، لكن من دون صفة المحتل هذه المرة، بل المنقذ الذي يستدعيه بعض المتناحرين من عشائر تشاد للفتك بعشيرة أخرى.

ولحظة انتصار عشيرة تعني السحق لباقي العشائر. مثلما فعل ديبي سابقًا، الرجل الذي وصل للحكم بثورة تاريخية شاركت فيها العديد من القبائل والعشائر. لكن بمجرد أن استقر الأمر له تخلص من أصحابه واحدًا بعد الآخر، وقرّب عشيرته، وسلّم لها مفاصل الدولة، خصوصًا الجيش. كما استقوى بالجيش الفرنسي ليظل في الحكم 5 ولايات انتخابية متتابعة، ولولا قتله لظل للسادسة أيضًا.

لذا نجد مظاهرات تشاد الأخيرة تهتف ضد الوجود الفرنسي بالأساس. ففرنسا هي الداعم الرئيس للمجلس العسكري الحاكم. وهي المشرفة على ألا يحيد محمد عن نهج والده في الولاء لفرنسا، والتعامل معها باعتبارها حليفًا وشريكًا استراتيجيًا. وألا يمس القواعد الفرنسية العديدة المنتشرة في ربوع تشاد، وتحوي قرابة 5000 جندي فرنسي.

الثورة ضد الجميع

تشاد ذات مساحة ضخمة تصل إلى 1.4 مليون كم متر مربع. وتتميز بثرواتها الطبيعية من النفط والذهب واليورانيوم والحديد. لكنها لا تستفيد بأي شيء من ذلك، وتعتبر من أكثر الدول الأفريقية تخلفًا وفقرًا. والسبب الرئيس في ذلك هو السياسات الفرنسية التي حوّلت تشاد للممول للموازنة الفرنسية فحسب. فتشاد مثلها مثل قرابة 13 دولة أفريقية مجبرة على التعامل بالفرانك الغرب الأفريقي الذي فرضته عليهم فرنسا، كما تدفع ضريبة إلى الخزينة الفرنسية إلى اليوم.

وتستحوذ فرنسا على عمليات التنقيب عن النفط والمعادن في تشاد. وتفرض وجودها على كافة الصناعات الغذائية والعسكرية. كما تريد احتكار مثلث اليورانيوم الموجود بين تشاد والسودان وليبيا. لذلك تحرص فرنسا ألا تغامر بخروج تشاد من طوعيتها. خصوصًا بعد الحديث عن أن زعماء المعارضة التشادية تواصلوا مع حركة فاجنر الروسية طلبًا لدعمهم في مواجهة المجلس العسكري الحاكم.

خصوصًا أن تشاد توجد في ما يشبه الحصار الروسي، فروسيا حاضرة في السودان ومالي وليبيا وأفريقيا الوسطى. ما يجعل النفوذ الفرنسي في خطر محدق. وبالطبع توجد تركيا الساعية للبحث عن موطأ قدم في أفريقيا عبر الدعوة المستمرة لإمكانية تقديم مساعدات للمجلس العسكري الحاكم. إلى حد قيام الرئيس التركي باستضافة محمد إدريس في تركيا، وعرض أردوغان عليه تطوير التعاون الأمني والعسكري بين البلدين.

أمام هذه المحاولات لاقتسام البلاد شعر التشاديون بالإهانة من كل هؤلاء، فخرجوا يثورون ضد الجميع. لكن النصيب الأكبر من الهتافات كان ضد فرنسا. وخربوا عددًا من محطات الوقود التابعة لشركة توتال الفرنسية. وطالبوا بوضع جدول زمني للانتقال المدني للسلطة. بل وطالب بتمديد أمد المدة الانتقالية من أجل إجراء حوار وطني. الأمر الذي أثار حفيظة المتظاهرين أكثر، خصوصًا أن الطلب جاء متوافقًا مع الرغبة الفرنسية في بقاء ديبي الابن لأجل غير مسمى.

ترقب حذّر

تتميز تشاد بأنها محطة مهمة للعديد من الدول الباحثة عن النفوذ في أفريقيا. فإسرائيل توجهت لإقامة علاقات قوية معها. وقد دربت إسرائيل قوات الشرطة والأمن التشادي سابقًا، لكن تحت ضغط من الدول العربية انتهى الأمر. لكن عاد الأمر مرة أخرى، ودرّبت إسرائيل الجيش التشادي، وأبرمت تشاد صفقات أسلحة ضخمة مع إسرائيل.

كذلك فإن الإمارات حاولت على مدار السنوات الماضية اجتذاب شباب تشاد للعمل كمرتزقة في حرب اليمن. واستطاعت الإمارات عبر الإغراءات المالية من تجنيد قرابة 10 آلاف شاب. كما تريد الإمارات تعاونًا مع تشاد لمواجهة الإرهاب الذي يتخذ من الدول الأفريقية معقلًا له. كما تعتبر تشاد بوابة مناسبة للوصول إلى النفط الليبي، وهو الشيء المشترك الذي تريده إسرائيل والإمارات.

لكن يطمح التشاديون من اتفاق السلام الموقع في الدوحة أن يكون خطوة جديدة في سبيل استعادة سيطرتهم على مصير بلادهم. والخروج من غياهب الصراع العرقي والقبلي المستمر منذ سنوات. كما يمنح الاتفاق قادة المعارضة الأمان حال مشاركتهم في المحادثات السلمية. كما تم بموجب الاتفاق الوقف الكامل لإطلاق النار، وعدم القيام بأي أعمال عدائية أو انتقامية.

يأمل التشاديون، والأطراف الموقعة، أن توقع باقي الفصائل المسلحة على الاتفاق وأن تلتزم به. لكن شبح التدخل الفرنسي، وصراع القوى العظمى على قطعة من تشاد، يُقلق العديد من المحللين إزاء المدة التي قد تصمد لها المصالحة. لكن انهيارها هذه المرة سيكون منحدرًا تتهاوى به البلد إلى حرب أهلية أعمق من كل الحروب السابقة.