عندما نقول «تمدد أفقي» للحراك فنحن نعني بذلك زيادة عدد المشاركين في الحراك من نفس الفئة المجتمعية الداعمة للحراك مسبقاً، كزيادة عدد الشباب أو الطلاب المشاركين في الحراك. فشريحة الطلاب والشباب هي شرائح موجودة أصلاً في الحراك. أما «التمدد الرأسي» فنقصد به عندما يصل الحراك لشرائح مجتمعية كانت غير مُتضمنة في الحراك سابقاً، كأن ينجح الحراك مثلًا في جذب سائقي التاكسيّ أو المواصلات العامة أو مُوظفي الشركات ليشاركوا مشاركة فاعلة في الحِراك.

يمكننا القول، إن التكتيك الرئيسيّ للحِراك الحاليّ منذ بدايته وحتى اليوم هو كالتالي: التركيز التام على المواكب/ التظاهرات (وتحديداً يوميّ الخميس والأحد). حتى الأنشطة/ التحركات الأخيرة مثل الدعوة للعصيان المدني التي كانت يوم الثلاثاء 5 مارس/ آذار، وحملات النظافة التي كانت في 9 مارس/آذار، وغيرها كانت ولا تزال تعتمد على التعبئة التي تقوم بها المواكب والأحداث التي تصاحب تلك المواكب (مثل حادثة هروب رجل الأمن من الثوار في منطقة برى الدرايسة، وتصادم عربتيّ الأمن في منطقة برى، والانتهاكات التي تحدث في تلك المواكب).


هل تفشل تكتيكات الحراك في السودان؟

يبدو أن الفلسفة الرئيسية وراء هذا التكتيك، هي، أولاً، التركيز على استنزاف النظام الحاكم اقتصادياً عن طريق زيادة الإنفاق الأمني، ثانياً، إحراج النظام الحاكم أمام المجتمع الدولي بسبب القمع الذي سيُضطر النظام إلى استخدامه في فضّ التظاهرات. ثالثاً، أن هذه المواكب ستولد، من ذات نفسها، المزيد من الدعم الشعبيّ للحراك وسينضم عدد من الفئات المجتمعية والعمالية بالإضافة إلى زيادة مشاركة الشباب في الحراك، كما أن هذه المواكب قد تحدث تصدعات في بنية النظام الحاكم ويضطر الجيش أخيراً للانحياز لجانب الثورة.

والحق يقال إن هذه الاستراتيجية كانت مُجدية في الفترات الأولى من الحراك، وتسببت فعلاً في إحداث تمدد رأسيّ للحراك تمثل في انضمام عدد من الفئات المجتمعيّة مثل مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، بالإضافة إلى الوقفات الاحتجاجية التي قام بها عدد من موظفيّ الشركات الخاصة. كما أسهمت هذه الاستراتجية في إحداث تمدد أفقي في شريحة الطلاب والشباب تمثلت في مشاركة فاعلة لعدد من الجامعات الخاصة (مثل جامعة العلوم الطبيّة والتكنولوجيّا، والجامعة الوطنيّة) في الحراك.

لكن في المقابل، من المهم أن نلاحظ كذلك أن التمدد الرأسي توقف تماماً عند مبادرة جامعة الخرطوم وعند تلك الوقفات الاحتجاجية لموظفي الشركات الخاصة (ولم تتطور مشاركة موظفي الشركات لأبعد من ذلك) ولَم ينجح الحِراك في إحداث أي تمدد رأسي جديد، وربما أهم مؤشر على ذلك الأداء الضعيف للعصيان المدني السابق بحسب عدد من الشهادات للمشاركين في الاحتجاجات في السودان.

الأمر الثاني، حتى التمدد الأفقي بدأ يشهد تصدعات بداخله فبحسب شهادات أيضاً قَل عدد المشاركين في المواكب التي يتم الإعلان عنها. من المهم أن أقول هنا، إنه وفي ظل غياب آلية واضحة لقياس أعداد المشاركين في الحِراك فلا يملك أي موقف (سواء الذي يدعي بأن أعداد المشاركين في الحراك تزداد أو الذي يقول إنها تنقص) إلا الاعتماد على شهادات المشاركين في أرض الواقع، وأغلب هذه المشاهدات تكون انطباعيّة عامة مما يجعلها غير دقيقة. وهذا أدعى للبحث عن آلية واضحة لقياس عدد المشاركين!

لكن جانبًا رئيسيًا من هذا التصدع الأفقي أنه حتى الأحزاب الكبيرة والموقعة على إعلان الحرية والتغيير، مثل حزب الأمة القوميّ بقيادة الصادق المهدي، لا تشارك مشاركة كاملة وفاعلة في الحراك. بعد مقالي الأخير في «إضاءات» عن ضرورة بناء جبهة عريضة، اطلعت على ورقة المُحلل السودانيّ الواثق كمير التي تحمل عنوان «انتفاضة الشباب وتحديات الانتقال والتحول الديمقراطي: أسئلة تبحث عن إجابات!»، والتي أعدت لتقديمها في اللقاء التفاكري الثالث الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة، 16-17 فبراير 2019). وسرنيّ جداً أنه أشار ودعم فيها تحليليّ الذي نشرته على موقع الجزيرة للدراسات، وسرنيّ كذلك أنه يؤيد ما ذهبت إليه من أن القوى الموقعة على إعلان الحريّة والتغيير ليست على توافق كامل، وأن القيادة موجودة عند البعض، وليس الكل وهذا هو السبب في ضعف مشاركتها الفعلية في الحراك.

يقول الواثق:

وما قد يثير التساؤل حول جدية تحالفي نداء السودان والإجماع الوطني، أو أي منهما، في التوافق الكامل مع تجمع المهنيين وإعلان الحرية والتغيير، هو المستوى القيادي للموقعين على الإعلان نيابة عن تحالفي نداء السودان والإجماع الوطني، وكأنما قيادة التحالفين تقدم رجلًا وتبطئ الأخرى! في رأيي – أنه ما تزال القوى المعارضة عاجزة عن القراءة من نفس الصفحة، بينما تواجهها أسئلة صعبة تستدعي أن تبحث هذه القوى على إجابات شافية عليها، بحكم مسئوليتها في قيادة التغيير ….
حتى يصل إلى قوله:

ومن أهم التصدعات الرأسيّة التي يواجهها الحراك الحاليّ، في رأيي، هو الضعف الشديد في مشاركة الولايات والمدن السودانيّة في الحراك في الآونة الأخيرة، فبعد أن كانت هذه الولايات والمدن هي وقود الثورة وشرارتها في الفترة الأولى، أصبح من النادر أن ترى مظاهرة حاشدة تنطلق من هذه الولايات، بل أصبحت الموضوعات التي تسيطر على مشهد التداول في منصات التواصل الاجتماعيّ هي «تصادم سيارات الأمن في منطقة برى، دخول قوات الأمن لجامعة مأمون حميدة، دخول قوات الأمن للجامعة الوطنيّة، دخول قوات الأمن لميدان بري الدرايسة، رد أهالي برى على قوات الأمن، إلخ» وهذه موضوعات ضعيفة طبعاً وتعطي مؤشرًا واضحًا لاضمحلال الأثر الفعلي للحراك.


ما الحلول التي يمكن أن يكتسب بها الحِراك مزيدًا من التمدد الرأسي والأفقي؟

يبدو أن الخلاف بين القوى السياسية ليس حول مضامين هذه المواثيق المتشابهة إلى حد كبير، بل جوهر الخلاف ينصب على من تؤول له القيادة؟
أ. السعي نحو لا مركزية الحراك في التكتيك والقيادة:

يحتاج الحراك إلى المزيد من الانسجام والمبادرات التي تتحرك على الأرض بقيادة وتكتيك خاص بها تماماً، مثل مبادرة «لجان مقاومة الأحياء» التي تهدف لدعم وتطوير مشاركة الأحياء في الحراك، ومثل مبادرة «لا لإجازة قانون الطوارئ» التي تهدف للتواصل مع برلمانيين وإقناعهم بعدم التصويت لإجازة قانون الطوارئ في جلسة البرلمان التي ستناقش هذا القانون، وغيرها.

ومن الأمور التي يمكن ذكرها في هذا السياق، أنه وبعد نجاح الثورة المصريّة الأولى (قبل أن ينقلب السيسيّ عليها) رصدت الدراسات 183 تنظيماً شبابياً، كل واحد منها يدّعى أنه أسهم في الثورة بشكل كبير[1]. فهل يستطيع المشاركون في الحراك إبداع المزيد من المبادرات التي يمكن أن تدعي لاحقاً أنها أسهمت بشكل كبير في نجاح الثورة؟

ومع أن تجمع المهنيين السودانيين يعلن دعمه كل المبادرات الفرديّة، إلا أن إعلان التجمع جدول مظاهرات وعصيان ونشاطات تشمل كل أيام الأسبوع يؤكد، بصورة ضمنيّة، مركزيته في قيادة الحراك. ربما يكون من المفيد للتجمع أن يعلن في أسبوع ما أنه لن ينشر أي جدول للتظاهر دعماً للمبادرات الفرديّة في قيادة الحراك، فهل يمكن أن يقوم التجمع بمثل هذه الخطوة؟

ب. تكوين جبهة عريضة يكون للجميع فيها نصيب من الصوت والقيادة والتمثيل:

ذكرت في مقالي السابق في «إضاءات» منطق وأسباب تكوين هذه الجبهة العريضة التي تضم الإسلاميين وشيوخ القبائل وغيرهم، ويمكننا اختصار أسباب ودواعيّ تكوين هذه الجبهة في التالي:

1. أهمية إضافة المجموعات أو الرموز لا يَكمن فقط في وزنها في الحراك أو تأثيرها في الشارع، وإنما يكمن بصورة أهم في الرسالة التي يمكن أن تصل إلى قواعدهم المجتمعية. على سبيل المثال، لا يمكنك الاستهانة بكتلة الإسلاميين أو المتعاطفين مع فكر الإسلاميين في الحياة السودانية والذين، حتى الآن، يشعرون بأن نتائج الحراك قد تكون سلبية عليهم بصورة شخصية أو بصورة فكرية عن طريق استخدام الإقصاء. هذه الشريحة لا يمكنك أن تقنعها بمجرد قولك بأنك لن تمارس الإقصاء، وإنما تقنعهم بأن تدخل رموزهم الفكريّة والاجتماعيّة في كتلة الحِراك.

2. أهمية تكوين الجبهة ستظهر في المستقبل وتحديداً في المراحل الانتقالية، وهي المراحل التي ستشهد استقطابًا فكريًّا وسياسيًّا حادًا (كما يخبرنا بذلك تاريخ الثورات) حول عدد من القضايا وذلك الاستقطاب سيشكل أرضية خصبة يمكن أن تنطلق منها الثورات المُضادة والتي ستمهد لعودة العسكر للحياة السياسة في شكل ثانٍ أو بوجوه مختلفة. وجود كتلة عريضة منذ الآن والبدء في تكوين أهداف عابرة للأحزاب تتمركز حول إبعاد الجيش هو ما سيسهل التحالف ضد الثورات المضادة لاحقاً وهذه واحدة من دروس تونس ومصر (كما يفصل مقالنا السابق في «إضاءات»).

3. من أهداف الجبهة العريضة تفعيل المشاركين في الحراك أنفسهم وإعطائهم الثقة فيما بينهم. المقال يتساءل لماذا رجل مثل الصادق المهدي بوزنه الثقيل في الحياة السياسيّة في السودان لم يقم بدعم الحِراك بصورة فاعلة، واكتفى فقط ببيانات وتصريحات عامة؟

والإجابة التي يستنبطها المقال هو أن الصادق وحزبه يشعرون بأن مشاركتهم في إعلان الحرية والتغيير مشاركة شكليّة فقط وليسوا جزءًا حقيقيًا في قيادة الحراك، وهذا ما أكده تحليل الواثق كمير الذي نقلناه سابقاً. لأجل كل ذلك يجب إعادة اعتبار التكتل الحقيقيّ الذي يشارك فيه الجميع.

مرة أخرى، هل يمكن أن يقوم التجمع وقادة إعلان التغيير والحرية بمثل هذه الخطوة؟

المراجع
  1. حسن الحاج علي أحمد، مراحل انتقال الثورات العربيّة: مدخل مؤسسيّ للتفسير، ورقة نشرت ضمن أوراق كتاب «أطوار التاريخ الانتقاليّ: مآل الثورات العربيّة»، مجموعة مؤلفين، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، نوفمبر/تشرين الثاني 2015.