إن المجموعات الكبيرة من البشر أكثر ذكاءً من القلة المميزة أيًا كان مستوى ذكاء ومهارة هذه القلة.
الجماهير/الحشود قادرة دائمًا على تقديم ما هو أفضل من أفضل عضو في هذه الجماهير/الحشود.

هذه الكلمات هي خلاصة ما قدمه الكاتب الأمريكي «جيمس سورويكي» في كتابه حكمة الجماهير أو The wisdom of crowd، والتي جاءت لتدعم وجهات نظر وأبحاث أخرى كثيرة عن استغلال الجماهير أو الحشود في القيام بخدمات تجارية بدلًا من النموذج التقليدي للشركات والمؤسسات والذي يقوم فيه موظفو هذه الشركات بتقديم الخدمة.


لكن فكرة استغلال الجماهير (Crowdsourcing) والإفادة من خبراتهم مجتمعة ليست حديثة أو وليدة هذا الكتاب وهذه الأبحاث، فعمرها هو آلاف السنوات منذ أن تحدث عنها أرسطو قبل الميلاد، وقد سجل التاريخ أحد أشهر تطبيقاتها في بريطانيا عام 1714، كانت حينها بريطانيا تفقد أكثر من مائة بحار سنويا بسبب فشلها في تحديد مواقع السفن بالنسبة لخطوط الطول.

لذلك فقد نظم البرلمان مسابقة وأعلن عن ثلاث جوائز مالية: عشرة آلاف، خمسة عشر ألفًا، عشرون ألف جنيه إسترليني لمن يستطيع أن يقترح أو يقدم حلًا لهذه المشكلة. وفعلاً تقدم الكثيرون بأفكار وحلول كان أهمها محاولات جون هاريسون المتتالية والتي استحق عليها ما مجموعه ثلاثة وعشرين ألف جنيه على مدار ثلاث وعشرين سنة قضاها في العمل على ساعته البحرية.

وقد قام السير الإنجليزي «فرانسيس جالتون» بتجربة في بدايات القرن العشرين (1906) درس فيها سلوك أكثر من ثمانية آلاف متسابق كانوا قد دخلوا في منافسة لتوقع وزن أحد الثيران، وقد جاءت النتائج مثيرة للدهشة بعد أن بلغ متوسط إجابة الجماهير مجتمعين 1,207 باوند في الوقت الذي كان فيه وزن الثور الحقيقي 1,198 باوند؛ أي أن النتيجة كانت قريبة جدًا من الوزن الصحيح وبهامش خطأ 1%.


جاء القرن الحادي والعشرون ليعزز من فكرة استغلال الحشود استغلالًا تجاريًا فيما عرف بالاقتصاد التشاركي (Shared Economy)، واستطاعت التكنولوجيا أن تدعم هذا التوجه بشدة بعد أن وفرت البنية التحتية المناسبة لازدهار هذا المبدأ، والوسيط المثالي لربط طالبي الخدمات وموفريها معًا.

يبدو أن هناك بعض التفصيلات الإضافية التي يجب أن يراعيها أي نموذج عمل يهدف إلى الاعتماد على الجماهير أو الحشود كموفرين للخدمة

لذلك استطاعت شركات مثل أوبر و Airbnb وغيرها أن تحقق إنجازًا تجاريًا بعد أن قفزت إلى قمة الهرم وتصدرت قوائم الشركات ذات القيمة السوقية الأعلى والشركات الأكثر ربحية في فترة زمنية وجيزة ودون أن تمتلك أصولاً كتلك التي تمتلكها الشركات العملاقة التقليدية.

غير أن نموذج العمل المستخدم من قبل هذه الشركات لم يخل من التحديات والمعوقات، والتي تزيد عن تلك التي تواجه نماذج العمل التقليدية. وفي الوقت الذي تظل الركائز الأساسية لأي عمل تجاري هي التسويق والتشغيل وإدارة الموارد وغيرها، يبدو أن هناك بعض التفصيلات الإضافية التي يجب أن يراعيها أي نموذج عمل يهدف إلى الاعتماد على الجماهير أو الحشود كموفرين للخدمة (Suppliers) مثلما تعتمد أوبر على الجمهور كسائقين، وتعتمد Airbnb على مالكي الوحدات العقارية لتأجير وحداتهم لعملائها.


تتصدر معضلة جذب الجماهير للمشاركة كموفرين للخدمة – بدلًا من الاعتماد على موظفين – التحديات التي تواجه أي نموذج عمل يعتمد في جوهره على مبدأ الحشود (Crowdsourcing)، فأغلب المرشحين أو المتحمسين لشغل هذا الموقع إما محترفون يمارسون نفس المهنة بصورة أساسية ودائمة لكن في نطاق تعاقدي تقليدي، أو راغبون في العمل لكن دون أن يتحلوا بالمهارات الأساسية اللازمة لممارسة هذه المهنة.

أوبر – كمثال – تحتاج إلى جذب الجماهير للعمل معها – لا لديها – من أجل توفير خدمة نقل الركاب، لكنها تشترط خصائص معينة فيمن ينضم إليها؛ كأن يمتلك سيارة بحالة فنية وظاهرية معينة، وأن يحمل رخصة قيادة مع ضرورة أن يكون سجله الجنائي خاليًا من الجرائم، وأن يكون على علم بالقواعد الخاصة بالشركة ومستوى الخدمة المتميز الذي تسعى لتطبيقه وتقديمه لعملائها.

وبالرغم من كون هذه الشروط في ظاهرها شروطًا يسيرة لا تعوق انضمام راغبي العمل مع أوبر، إلا أنها ليست كافية، بل ربما يراها البعض تعجيزية حيث أنها تشترط على السائق أن يمتلك سيارته الخاصة وهو ما لا تتطلبه المهنة في شركات سيارات الأجرة التقليدية.

وعليه فأوبر ومثيلاتها من الشركات تحتاج إلى تحفيز شركائها والراغبين في الانضمام إليها ماديًا ومعنويًا، خاصة في غياب النموذج التقليدي الشائع الذي يجمع الموظف وصاحب العمل في عقد عمل براتب محدد ومميزات إضافية. يبدو هذا جليًا في شعار أوبر الذي تسوّقه لفريق السائقين الخاص بها

Make good money, Drive when you want, No office, No Boss احصل على المزيد من الأموال، قُد متى تشاء، لا مكتب ولا مدير في العمل.

لم تكتفِ أوبر بذلك بل إنها حاولت تذليل بعض العقبات أمام راغبي الانضمام لها كسائقين، وقد كان من أهم هذه العقبات أمام المنضمين الأوائل عدم وجود عدد كافٍ من الزبائن أو طلبات التوصيل مما يؤثر على إيرادات السائقين؛ ولذلك قامت أوبر بتقديم تعويضات لهؤلاء السائقين في حال كانت إيراداتهم ضعيفة نتيجة لضعف الإقبال على الخدمة.

بالإضافة لذلك، فقد عمدت أوبر إلى توقيع بعض الاتفاقيات مع كبرى شركات السيارات مثل تويوتا وجنرال موتورز من أجل تقديم تسهيلات في الشراء لراغبي العمل ممن لا يمتلكون سيارات خاصة تمكنهم من الانضمام لأوبر.

على جانب آخر فإن شركة Airbnb تعرضت في بدايتها لنفس التحدي ولكن بطريقة مختلفة، فقد كان من الصعب إقناع مالكي الوحدات العقارية بالانضمام إلى الخدمة وتأجير مساكنهم لغرباء لا يعلمون عنهم شيئًا ولا يوجد ضمانات تجعل هؤلاء الغرباء يتعاملون بجودة واحترام مع هذه الوحدات المعروضة للإيجار.

عن هذا، يقول جو جيبيا، مؤسس الشركة، أن أزمة الثقة التي كانت عائقًا في البداية أمام جذب الراغبين في تأجير وحداتهم احتاجت منهم دراسة عميقة لكيفية التغلب عليها، وقد وجدوا أنه من الضروري أن يقوم العميل بمخاطبة المالك والتعريف بنفسه، بل إنهم حددوا عدد الكلمات المناسبة لهذا التعريف بعد أن توصلوا إلى أن التعريف القصير أو الطويل لا يتغلب على أزمة الثقة وإنما يعمقها.

لم يكن هذا هو كل شيء، فجيبيا يقول إن التقييمات التي يقوم بها مستخدمو الخدمة بعد أن يقوموا بتسليم الوحدات التي قاموا باستئجارها هي أيضًا عامل أساسي في زيادة الثقة وتشجيع الجماهير على الانضمام وتأجير وحداتهم.

Suppliers Acquisition، أو جذب مقدمي الخدمة، يختلف باختلاف الخدمة والشركة؛ لكن يبقى في النهاية عاملاً هامًا ومحوريًا في نجاح الشركة طالما اعتمدت على الحشود لتقديم خدماتها. لكن ماذا بعد جذب هؤلاء؟، في الجزء القادم نتعرف على تحديات أخرى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.