لم تتوقف منذ عقود طويلة – في بلادنا – مساعي «التغيير» ومحاولات إصلاح نظم الحكم، ولعل المشترك الأكبر بين هذه المحاولات هو فشلها المتكرر المخيّب للآمال، وقد توّج ذلك الفشل بانهيار الربيع العربي الذي تحوّل إلى صيف شديد الحرارة والجفاف، وبات عالمنا العربي يعيش سنوات عجافًا لا يعلم مداها إلا الله.

يدعونا هذا الفشل المتكرر -الذي حرم الأمة من الحكم الديموقراطي الرشيد لعقود طويلة- إلى البحث عن أسبابه وتمحيصها، وذلك في سبيل الاهتداء لأنسب طرق تغيير الواقع المؤلم الذي نعيشه.


معضلة الديموقراطية في العالم العربي

انتقلت الشورى في الحضارة الإسلامية سريعًا من الدولة إلى الأمة، إذ إن انتهاء الحكم الراشد الذي دام لعقود قليلة صاحبه أيضًا انتهاء الشورى وغيابها في أروقة الحكم بالدولة الإسلامية، وبعد محاولات بائسة لاستردادها – انتهت جميعها بالفشل – تبنّت الأمة نمطًا شوريًّا جديدًا تمثّل في حصر السلطوية داخل أروقة الحكم والسلطة والاحتفاظ بالشورى المجتمعية التي تضمن حفظ قوة وتماسك المجتمع، وتضمن كذلك مشاركة الجماهير في تنظيم أمور مجتمعهم المصيرية من تعليم وقضاء وتكافل اجتماعي، وارتضت الدولة هذه العلاقة ولم تتدخل لتعطيل الشورى المجتمعية.

بمرور الزمن، تراجعت الحضارة الإسلامية وعانت مجتمعاتنا من التخلف في المجالات كافة، فتطلّب بناء نموذج حداثي نهضوي للدولة في العالم العربي والإسلامي أن تتدخل السلطة لإنهاء الشورى المجتمعية والقيام بنفسها بأعباء التنمية والتحديث في كل المجالات السياسية والإدارية والاجتماعية، وتراجع – إن لم يكن انتهى – دور المجتمع لصالح الدولة الحديثة «التنين» كما يصفونها!

ومن ثم أصبحت العاصمة المركزية هي محل الأنظار ومنطلق النهضة وقاطرة التغيير، كما فقد المجتمع شعوره بأي مسئولية أو واجب تجاه نفسه ووطنه، وصارت الدولة هي المسئول الأوّل والأخير، وعليه فقط السمع والطاعة والانصياع لمخططات الدولة ورؤاها التي تُوضَع بشكل مركزي استبدادي لا مجال فيه للمشاركة المجتمعية.

تعرّض المشروع النهضوي الحداثي لانتكاسة سريعة، ولم يورّث للأمة إلا هيكلًا إداريًّا مخترقًا خارجيًّا ومستبدًا داخليًّا، إلى جانب مجتمع ضعيف مفكك ينتظر التغيير من العاصمة التي فقدت السيطرة على نفسها ولم تعد قادرة على تقديم الجديد، وأضاع الساسة والإصلاحيون أعمارهم في محاولات إصلاح أروقة الحكم المركزية والسعي لتطبيق الديموقراطية الانتخابية ليختار الشعب حكامه الذين يرتضيهم للجلوس في قصور العاصمة، غافلين عن حقيقة كون هذه القصور لا يحكمها من بداخلها، وكون المجتمع الذي فقد قدرته على التشاور الاجتماعي في أكثر الأمور مساسًا بحياته الاجتماعية لن تكون لديه القدرة على المشاركة الجادة في الشورى العامة المتعلقة بالحكم والسلطة.


الترتيب المنطقي لاستعادة الحكم الديموقراطي

أدرك الإمام محمد عبده مبكرًا أن المجتمع بحاجة لاسترداد الشورى المجتمعية قبل استرداده للشورى «السلطوية»، ففي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه الدعوات لتكوين المجلس النيابي كان هو منشغلًا بالتربية والتعليم بحجة تأهيل المجتمع لاختيار نوابه وإعداد هؤلاء النواب الذين يمكنهم تمثيل الشعب مستقبلًا، إضافة إلى دعوته إلى تدريب الناس على الشورى في أمورهم المصيرية عن طريق تفعيل المجالس المحلية في المديريات والمحافظات، أي أن الإمام أدرك الترتيب المنطقي لاسترداد الأمة حقها في التشاور العام، وهو التشاور المجتمعي أولًا ثم التشاور «السلطوي» لاحقًا، وفي هذا المقام يقول الإمام: «وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمقام تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد».

وعلى الرغم من كون الإمام محمد عبده أستاذًا لمعظم من جاء بعده من الإصلاحيين، فإن استعجال ثمرة التغيير ومحاولات القفز السريعة من الشورى المجتمعية إلى الديموقراطية السلطوية كانت هي سمة دعوات التغيير اللاحقة على الإمام، فلم يأخذ المجتمع حقه من الإعداد والتربية والتدريب على التشاور وتحولت الحركات الإصلاحية إلى أحزاب متناحرة متنافسة على السلطة ومعززة للانقسام والتفكك المجتمعي بدلًا من تعزيزها للشورى والتضامن والتكافل بين أبناء المجتمع.


كل الطرق تؤدي إلى الثورة!

أصبحت كل الطرق تؤدي إلى الثورة، بحجة أن محاولات الإصلاح قد استُنْفِدت، في حين أن ما استُنْفِد في الحقيقة هي محاولات التغيير السلطوي الفوقي ومحاولات الوصول للسلطة أو المشاركة المباشرة فيها!

قامت الثورة واحتشد الشباب مطالبين بتغيير نظام الحكم، ومع استمرار الصراع السياسي تزايد انفصالهم عن المجتمع وانفصال المجتمع عنهم، وبينما يحتشد الشباب بأجسادهم في شوارع العاصمة أو يتطلّعون إليها بقلوبهم وعقولهم إذا كانوا خارجها، كان المجتمع يحترق ويفتقد الشعور بأي إنجاز قد تحقق، فلم تشعر الجماهير أنها تحمّلت مسئولية أو صارت صاحبة قرار، بل وجد المواطن نفسه إما مضطرًا لتأييد طرف ضد آخر وخوض معارك الاستفطاب الحادة، أو الانعزال عن السياسة مجددًا في لحظة ثورية ظنّ فيها أن أبواب مشاركته في حكم بلاده قد فتحت!


الإصلاح المحلي أولًا

أولى مراحل التحوّل الديموقراطي هي تطبيق «الديموقراطية المحلية» التي تعني تدريب الناس في مجتمعاتهم المحلية على التشاور وتحمّل مسئولية مجتمعاتهم، وانتخاب مسئوليهم المحليين قبل زعمائهم السياسيين، ولازالت كلمات أحد أساتذة الإدارة العامة تتردد في أذني، وكان قد بح صوته بعد الثورة مطالبًا الساسة بتوجيه الاهتمام نحو المحليات وتنمية المجتمعات المحلية وإجراء انتخاباتها قبل الانشغال بصراعات السياسة العليا التي تحبط المجتمع وتزيد من حدة انقساماته.

حقيقة غياب الشورى الاجتماعية وحاجة المجتمع لاسترداد حقه في التشاور ومسئوليته تجاه ذاته ليست خاصة بمجتمعاتنا العربية فقط، ففي الغرب أيضا انحرف النظام الديموقراطي النيابي، ولم يعد قادرًا على التعبير عن حاجات المجتمع الذي انسحب من الفضاء السياسي تاركًا إياه للشركات الكبرى وجماعات المصالح التي تتلاعب بالساسة والأحزاب والمجتمع كذلك، ومن ثم تتزايد الدعوات لممارسة صيغة سياسية جديدة قوامها الالتقاء بالناس والاحتكاك بمشكلاتهم وتمكينهم من مناقشتها بعيدًا عن صراعات العاصمة المنفصلة عن هموم المجتمع، كما يتحدث آخرون عن إعادة اختراع السياسة وتراجع الأنماط والهياكل القديمة، مثل الأحزاب التقليدية لصالح صيغ جديدة أكثر تعبيرًا عن المجتمع، أي أن الشورى المجتمعية صارت مطلبًا إنسانيًّا عامًّا.

شباب الثورة الآن بين يائس محبط ساخط على السياسة والمجتمع والوطن بأكمله، وبين قائم على أمل حدوث تغيير في العاصمة يحقق له بعضًا من أمانيه التي انفجر ينبوعها في 2011، وبينما هم كذلك تستمر مجتمعاتنا المحلية في الاحتراق بفعل الفساد والإفساد والجهل والتجهيل والفقر والإفقار، ولايزال المجتمع ينتظر من يأخذ بيديه ويشعره بقيمته ومسئوليته تجاه نفسه ويناقش مشكلاته وأزماته بعيدًا عن أكاذيب الساسة ومسكّنات النواب وأطماع المرشّحين!

فلنجرّب ترك العاصمة قليلًا، ولنعد إلى شوارعنا وأحيائنا، وأقاليمنا وقرانا، ولنحتك بأهالينا ولنسمع مشكلاتهم ولنسخّر علومنا في حلّها، ولنتدرّب معهم على الشورى والحوار الجاد والمسئولية الحقيقية بعيدًا عن صراعات الأيديولوجيا ومنافسات الحزبية، ولتكن كل مساعينا السياسية «العلوية» تهدف – بالأساس – لإعادة فتح المجال العام بغرض التمكّن من ممارسة السياسة المحلية، فإذا كنّا لا نحسن تقديم الحلول لمشكلات قرانا وأحيائنا التي نسكنها، فأنّى لنا أن نقدم حلًّا لمشكلات الوطن!

وختامًا، لا أقصد بالعاصمة فقط تلك المدينة المقهورة التي يسمّونها «القاهرة»، وإنما أقصد بها تلك السياسة العليا المركزية التي تسلب العقول والقلوب وتلهيها عن ميدان العمل الأكبر، تلهيها عن الوطن الحقيقي الذي هو مجموع الشوارع والأحياء والقرى والنجوع والمجتمعات المحلية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.