(1)

بعد أن أنهى كتابة قصته القصيرة، أغلق حاسوبه وجلس أمام نافذته المُطلّة على حديقة جرداء، أتت رياح الخريف على أوراقها، فتساقطت واحدة تلو الأخرى في الليالي العاصفة.

كان صفير الهواء شديداً، وتعالى صداه في أذن الكاتب أكثر مما كان في الواقع؛ فالفنانون لديهم حس مختلف للأشياء، مضاعَف ومُركّب بعض الشيء، ومن الصعب أن يَصِفوها كما هي عليه دون إضفاء نوعاً من الخيال الذي يغلِّف إبداعهم.

كانت ليلة مقمرة، لكن الضباب الكثيف أخفى كثيراً من وجه القمر مما زاد المشهد شجناً. تململ الكاتب في جلسته، وأرسل عينيه لإحدى الأوراق التي كانت على وشك السقوط من فرع الشجرة. أخذ يراقب حركتها وكيف أنها لم تستسلم لأول عاصفة أسقطت كل تلك الأوراق، فظلّت مُتمسكة بمركزها على الفرع كما هي، ربما فخورة، وتصبح أكثر فخراً يوماً بعد يوم كلما طالت فترة تمسّكها بمكانها في هذا الجو العاصف، فأصبحت الناجي الوحيد والملكة المتوَّجة. ثم أخذت الكاتب سِنة من النوم، استسلم لها كلية، وانطلق عقله الباطن دون هوادة.

(2)

في تلك الغفوة، أتاه حلم واضح كالرؤية. في هذا الحلم كانت هناك رقعة شطرنج وملك وحيد. لم يكن هناك مجالاً للشك أن ذلك الواقف على رقعة الشطرنج هو ملك، مُسلَّطا عليه الأضواء، وأنه كان وحيداً.

في البداية ظل الملك واقفاً مكانه فخوراً ومزهوّاً دون حراك، حتى بدأت الأضواء تخفت شيئاً فشيئاً، فشعر أن ثمة شيء لم يعهده من قبل يحدث. أخفض رأسه بعض الشيء، في شيء من التردد، ليستطيع أن يرى ما يحدث، ثم نظر للوزير بجانبه، فلم يجده. انتفض الملك في حالة من الذعر لكنه لم يستطع أن يتحرّك من مكانه. فكيف لوزيره أن يتركه وحيداً. إن ذلك خيانة… أعلى مراتب الخيانة… فقرر أن هذا الحدث لن يمر مرور الكرام، ووقف منتظراً عودة وزيره في حنق شديد.

انتظر الملك طويلاً، لكن الوزير لم يأت. وكان على الملك أن يبني خطوته القادمة على هذا الأساس. فألقى بنظره إلى قطعة أخرى كي يصدر له أوامره عوضاً عن الوزير، لكنه لم يجد أي قطعة أخرى، فانتابه ذعر شديد، ليس لفقدانه السلطة على الآخرين الذين تركوه ورحلوا، بل لأنه لم يكن يعلم ماذا يمكن أن يفعل من الأساس، والأدهى من ذلك أنه لم يكن يستطيع أن يفعل أي شيء سوى إصدار الأوامر لتحقيق مصلحته، فلم يكن يملك القدرة أو الشجاعة على تنفيذ أي منها.

لكن كبرياءه منعه من الاستسلام والخضوع بهذه السرعة. فقرر أن يكون هو الساكن والمالك الوحيد لتلك الرقعة من الشطرنج، وأوهمه عقله بأنه قادر على القيام بأدوار الآخرين والاستغناء عنهم كلية. فهو الملك! لذلك فهو قادر على فعل أي شيء بأفضل طريقة ممكنة. وكل منْ كان يُصدِر له أوامره كان مجرّد مأمور لا يملك حنكته وقوَّته.

(3)

بدأ بالانتقال لرقعة مجاورة، ثم لأخرى. كان يتحرك بحرية مطلقة، فلم يكن هناك أي قطعة آخرى تعوقه. لكن بعد التنقل بين رقع الشطرنج لفترة، توقف الملك مكانه مُتسمّراً وكأن شيئاً قد صعقه، وبدأ حجمه في التضاؤل، دون إرادة منه. لكنه لم يكن ليستسلم بهذه السهولة للشِرك الذي وقع فيه. فخيّل له عقله أن يتجسّد في قطع الشطرنج الأخرى ويقوم بدورها كي يستطيع أن يستغني عنها لاحقاً إذا ما عادت.

في البداية تجسّد الملك في قلعة، بعد أن تيّقن أن جسمه قد تضاءل كثيراً. ولتجاوز تلك الفجيعة، قرر أن يحيا حياة القلعة لبعض الوقت، فأخذ يتحرك مثلها، يسير في خطوط مستقيمة غير عابىء بما في طريقه. زرع رقعة الشطرنج ذهاباً وإياباً عشرات المرات، ثم توقف مكانه وكأنه فقد الرغبة في الحركة.

كيف يحدث هذا؟!

كيف اتشبه بشيء كنت أصدر له أمراً فينفذه طوعاً أو كرهاً ولم يكن يجرؤ على الرفض أو التخاذل؟!

كان يؤدي الحركة دون تفكير أو تكتيك محدد. فالقلعة أكثر قطع الشطرنج غباءً، تماماً كحركتها التي لا تحمل أي شيء من الإبداع. لا… أريد أن أخرج من جسم هذه القلعة بأي شكل الآن.

بذل الملك كل ما بوسعه حتى يخرج من جسم القلعة، فأخذ يشبّ حتى يستطيل، ويرفع رأسه لأعلى، إلى أن استحال فيلاً. استشعر بعض السعادة عندما أصبح كذلك. فالفيل له حركة مميزة بعض الشيء. أخذ يزرع رقعة الشطرنج عدة مرات في سعادة. لكنه بعد فترة شعر بالضيق.

ما هذا الذي أفعله؟!

إنه لجنون حقاً… كيف لملك أن يسير إمّا على الرقع البيضاء أو السوداء؟!

هل يجرؤ أحد أن يمنعني من السير على كل تلك الرقع بأي شكل من الأشكال؟!

أريد أن أخرج من هذا الجسد المحروم من الحرية المطلقة.

(4)

أخذ الملك في تحريك جسده بكل الأشكال علّه يستطيع أن يتحوّل إلى شيء آخر غير ذلك الفيل. تذكّر حركة الحصان الرشيقة والتي تتسم بالذكاء، فهو يأتي على خصومه بشيء من الدهاء لا تمتلكه أي قطعة أخرى.

لكن الحصان ذو رأس مميز، كيف له أن يحصل عليها؟

ظل الملك خافضاً رأسه لفترة طويلة، علّه يحصل على رأس الحصان الذي يريد أن يجسّده. استغرق منه الأمر طويلاً حتى استطاع أن يتشبّه بالحصان، فهو لم يستطع بكل الطرق أن يتقرّب من شكله أو حجمه.

وما إن اقترب من هيئة الحصان حتى شعر بفخر الذكاء والقوة. فحركة الحصان ليست فقط رشيقة، لكنها مُباغتة وماكرة.

شعر الملك بسعادة غامرة حيث استطاع أن يقف على الرقع البيضاء والسوداء بحركة رشيقة. ظل الملك كذلك لفترة ليست بالطويلة، ثم شعر بحريته تُقتنص. فهو عندما يريد الحركة للأمام أو للخلف لأكثر من رقعتين شطرنج لا يستطيع. فاستشاط غضباً وأراد أن يخرج من ذلك الجسد بسرعة وبأي شكل.

رفض الملك أن يستحيل إلى عسكري، فلقد كان دوماً يحتقره ويرى فيه أقل الأشياء قيمة، ولا يستطيع أن يفكر في أي شيء.

(5)

زهد الملك في تلك اللعبة، حتى أنه عندما حاول بكل الطرق أن يصبح وزيراً، لم تكن لديه الرغبة في الحركة ولا في إصدار الأوامر. كما أنه شعر أنه مُهدد بشتى الطرق، وأنه إذا أتى أحد على الوزير فسيكون هو في خطر محدق. لأول مرة، شعر الملك أن قواعد اللعبة غير عادلة للجميع، وأن البعض يمتلك ميزات منتزعة من الغير. وبكل الأحوال، فتلك القطع لم تكن طرفاً في وضع القرارات من الأساس، لكن القرارات تسري عليها وتُحدد لها خطوط سيرها وحياتها بشكل عام.

الآن، تسري عليه قواعد اللعبة التي وضعها سابقاً وفقاً لإرادته وهواه. وعند تلك اللحظة شعر بخجل وحزن عميق.

ثم أتت له فكرة استغرب بشدة أنه قد غفل عنها في البداية، لماذا لا يظل ملكاً كما هو؟!

ما الذي دفعه من البداية لأن يتنازل عن مكانته ويحاول أن ينتحل حياة آخرين؟!

وعندما أتته تلك الفكرة شعر باحتقار شديد لكل القطع الأخرى، وأنه قد قلّل من نفسه عندما تجسّد فيها. وكيف أن تلك القطع قد سلبته الحرية والتميّز والشكل الأنيق والسلطة، كما أنها وبلا شك قد سلبته مكانته كملك في الأساس.

عاد الملك ملكاً؛ رفع رأسه، وانتصبت قامته، وشعر بمكانته وسلطته تُسترَد.

وقف الملك مكانه مزهواً بنفسه، ونظر يمنه ويسره حتى تأكد أنه في الوسط تماماً ويمتلك زمام الأمور. وقف لدقائق وساعات، ورفض أن يتحرك من مكانه ولو خطوة واحدة. فبعد التجربة السابقة، علم جيداً أنه لن يتجسد في أيٍ من قطع الشطرنج الأخرى، ليس لأن ذلك يقلل منه… لا… الأمر ليس كذلك.

ذلك ما تفوّه به بصوت مرتفع، لكن بداخله كانت نفسه تحدثه بأنه لا يستطيع القيام بتلك الأدوار، وأنه هو أقل قطع الشطرنج أهمية، لكنه صاحب السلطة المطلقة.

ظل الملك واقفاً حتى بدأ جسمه في الذبول. وشعر أن مملكته تنهار عليه. أصبح ملكاً دون مملكة. وماذا يعني أن تكون ملكاً دون مملوكين؟!

(6)

أفاق الكاتب من غفوته، وشعر أنه قد نام دهراً. فتح نافذته ليتلقى بعضاً من هواء الخريف الذي أشعره بجمال وعذوبة الكون. وحملق بعيداً لورقة الشجر التي كانت متمسكة بفرع الشجرة ترفض السقوط والإذعان لقوانين الطبيعة، فوجدها سقطت هي الأخرى مثل غيرها من الأوراق، صغيرها وكبيرها.

عاد وجلس إلى طاولة الكتابة، فتح حاسوبه ونظر للقصة التي كتبها للتو. حينما قرأها لم يجد ذلك الصراع الذي يضفي معنى للقصة. شعر أن البطل يسير في أرض خالية من البشر والعوائق، وأن الصراع بالقصة منقوص. فكيف له أن يكون بطلاً من دون صراع وعقبات يتخطاها. حتماً سيكون كالملك دون مملكة.

(تمت)

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.