على مدار السنوات الأخيرة كان هناك صِراع خافت لا صدى له إلا في الدوائر الجدلية الصغيرة، فتجد متحمسًا يردد هويتنا «مصرية» ليقابلهُ آخر بل «عربية»، وكأن الهوية هي قيمة ثابتة؛ إلى أن جاء موكِب نقل المومياوات الملكية حتى يخرُج بعض مِمَن وجدوا ضالتهُم في تصدر المشْهد وانتهاز الفرصة لإظهار نزعتهم القبلية، وأصبح السؤال الشاغِل هل هويتنا «عربية» أم «مِصرية أصيلة» تعود للمصريين القدمَاء؟

سؤال الهوية

بات السؤال مصيريًا وأخذ منحنى آخر وخرج من نطاق النقاش إلى التجريح القبلي، حتى انسَاق البعض للمُبارزات الكلامية التي لا يصِح ذكرهَا في سلسلة من المغالطات والخلط بين الهويات الدينية والوطنية والحضارية.

والحقيقة أن أكثر الأشياء إثارة للسخرية في هذا الجِدال هي أن طرفي الصِراع سواء الأشخاص المُعتزين بانتمائهم للحضارة المصرية القديمة أو الحضارة العربية -في رغبة للانتساب لإحداهمُا والتقليل من شأن الأخرى- يتجاهلون حقيقة علمية واجتماعية واضحة جدًا، وهي أن المجتمع ما هو إلا نتيجة من الاختلاطات الثقافية والتبادلات والتفاعلات والعلاقات الحضارية، هذا بشكل عام. أمّا على المستوى الخاص فمصر تحديدًا من بين كل البلدان تعتبر أكثر الأراضي التي هبطت إليها العديد من الجماعات والثقافات، سواءً بشكل سِلمي أو لأهداف أخرى، وفي الحالتين كان القادمون إليها يمكثون لفترات طويلة.

حتى أن الأسر المصرية القديمة الثلاثون -التي قسمهم المؤرخ المصري «مانيتون» (الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد)- لم تكن مصرية خالصة، بل من الأسرة الـ 21 إلى الأسرة الـ 25 حكم مصر ملوك من أصول ليبية وآخرون من أصول نوبية.

وبعد انتهاء تلك الحقبة المصرية القديمة، توافد على حُكم مصر الكثير من الملوك والحُكام بجنسيات متعددة، جاءوا مع جالياتهم، واستمر هذا حوالي ثلاثة آلاف عام، حدث خلالها البديهي من التزاوج والاختلاط بين الجاليات القادمة والسُكان؛ لذلك فالشيء الواجب على الجميع مَعرفته، أنه لا يحِق لهُم الاختيار، لأنهُم ببساطة لا يدركون أي جينات تسيطر، وأي حمض نووي يتغلغل داخل أجسادهم المصرية أو العربية.

أنتَ أم الملك «توت»؟

يُغالي الكثيرون في الافتخار بهوية قديمة لا يدركون حتى مصداقية انتمائهم إليها، ولعل أبسط توضيح أنه في عام 2011 أعلن مركز iGENEA في زيوريخ، والمتخصص في أبحاث الحمض النووي، إجراءه تحليلاً للشفرة الوراثية الخاصة بالملك «توت عنخ آمون»، لإعادة رسم خريطته الجينية، ليتضِح من خلالها أن الملك «توت» ينتمي وراثيًا لمجموعة جينية تعُرَف باسم Haplogroup R1b، وهي سلالة وراثية ينتمي إليها جزء من أفريقيا ومعهُم حوالي نصْف عدد الرجال في إسبانيا وفرنسا، مما يعني أنهم والملك «توت» يعود أصلهم لشخص واحد، هو لهم بمثابة الجد المشترك.

ويبدو واضِحًا من تلك الخريطة الوراثية أن هذا الجد المشترك قد عاش في منطقة جبال القوقاز من 9500 عام، ثم هاجر من القوقاز إلى وسط أوروبا بعد انتشار فِكرة الزراعة في المجتمعات القديمة؛ في حين أن أقل من 1% فقط من الرجال في مصر اليوم ينتمون لنفس السلالة الوراثية. لذلك، فإن مولدك جغرافيًا في مصْر يعني أن هويتك الاجتماعية مرتبطة بها، لكن ليس بالضرورة انتماءك الجيني.

تم تأكيد تلك الأبحاث الجينية على نطاقات كُبرىَ وواسِعة، وبدأت الكثير من المراكز البحثية السير على نفس الخُطى في تحليل الخريطة الوراثية للأفراد، وكانت النتائج صادِمة ومفاجئة للعديد من الأفراد في مختلف البلدان، حيث أثبتت خرائطهُم الجينية انتسابهم لأعراق وجماعات ربمَا هاجموها ورفضوها دومًا.

فأنت لستَ دومًا الشخص الذي تظنه وتتخيلهُ من ناحية الأصول والجذور الجينية، بل إن العِرق أو الجماعة التي تُهاجمهَا وتتبرأ منها من الوارد أن تكون جيناتك وتاريخك الوراثي مُنتمين إليها بشكل أكبر مِما تظُن، أو على الأقل تربطك صِلة قرابة مع أحد أفرادهَا، وتتلاقىَ جيناتكُم، وهذا فقط من الناحية العلمية.

أمّا على الصعيد الاجتماعي والحضاري، فالهوية ليست قيمة ثابتةَ، بل هي قيمة مُركَبة تُشكّلهَا مجموعة من التقاليد الثقافية والتفاعُلات الحضارية والأحداث التاريخية، عاشها أفرادها، وسنكون مخطئين إذا ظننا أننا سَنكون أكثر أصالة إذا استأصلنا جزءًا من كياننا هذا وخبراتنا المعرفية التي تبلورت عبر الأجيال واكتسبت الكثير من الملامح والجينات والقيم المتشابكة، فذلك التصور الذي يختزل الهوية في انتماء واحد يجري الدفاع عنهُ بضراوة، سواء القول بكوننا مصريين أو عربًا، ليس إلا تصور ضيق وسَطحي يعود إلى أزمنة القبَائِل المنغلقة.

سِت درجات من التباعُد

هويتنا هي نتاج للكثير من التفاعُلات المتفردة، فلماذا نحاول طمسْها واختزالها؟ ما الذي يمنعنَا أن تكون هويتنا متميزة تحمل داخلها هوية وطنية بحُكم المكان، وهوية دينية بحكُم المكان والزمان، وهوية حضارية تجمع بين حضَارتين منحتنَا الأقدار الفرصة أن نولد منتمين إليهمَا بحُكم التفاعلات الجينية والاجتماعية؟

هويتنَا هي فرصة لمعرفة أنفسنا وتركيباتها وفهم العوامل الحضارية التي شكّلتها وليست للاختلاف والخِلاف والعودة إلى القبلية والنزعات القومية الساذجة، فبنظرة أوسَع، ورُبمَا مع تحليل خريطتك الوراثية، تجِد أن جدك أنت بالتحديد، يا منْ تهاجِم الحضارة العربية، كان قادمًا من شبه الجزيرة، وأنت يا منْ تغلُب نزعتُك عليك وتتنصَل من مصريتك التاريخية، رُبمَا كان نسبُك وجيناتك أكثر مصْرية منها عربية.

ولتعلم أن هويتك التاريخية ليست إلا موروث لا يجب أن يُميز بينك وبين أي شخص في العالم، فمهمَا كنت تظُن نفسَك مُنفصِلاً عن باقي الأجناسْ بهويتك، فأنت لا يفصلك حرفيًا عن أي شخص في العالم إلا مُجرد 5 أشخاص فقط أو أقل، وهذا بناءً على نظرية اجتماعية تُدعىَ «سِت درجَات من التباعُد»، وهؤلاء الأشخاصْ الخمس أو أقل يربطونك بالآخر، إمّا مَعرفيًا أو على الأغلب جينيًا ووراثيًا.

الهدف من هويتك الحضارية هو مْعرِفة العوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية الماضية التي تؤثِر في شخصيتك الحالية، حتى تستطيع إمسَاك خيط التعرف على نفسك وعدم الغرق في العزلة والأسئلة الوجودية، وليسَت للتنابُذ والتفاخُر الطفولي السَاذج بالانتماء لحضارة من حضَارتين، رُبما لا يفتخِر رجالها ونساؤها بأن تنتمي أنتْ إليهُم؛ ليست قيمتك بما ورثتهُ بل بما سَتورِثُه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.