في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في تشيلي فاز «خوسيه أنتوني كاست»، يميني متشدد ومؤيد لديكتاتورية بيونشيه. فوز كاست لم يكن أمرًا عاديًّا، بل ناقوس خطر يُكلل سلسلة من تراجع اليسار في تشيلي. فبعد أن كانت الآمال معقودة على أن تشيلي في طريقها نحو ديمقراطية اجتماعية جديدة، عاش البلد أيامًا من الترقب من أنها سوف ترتد إلى الفاشية المناهضة للدستور وغير المبالية بالمطالب الشعبية.

فوز كاست المبدئي يأتي وسط تراجع واضح لتحالف يسار الوسط الذي يسيطر عليه الحزبان الاشتراكي والديمقراطي المسيحي. لمعرفة دلالة تلك الخسارة، 11.5% فقط من الأصوات، ينبغي العلم أن التحالف فاز بخمسة انتخابات من أصل 7 انتخابات أجريت منذ نهاية حكم أوجستو بيونشيه. 4 من تلك الانتخابات الخمسة كانت أول 4 انتخابات بعد رحيل بيونشيه. لكن المفاجأة أن التحالف الذي اعتاد الحصول على أصوات تقارب الـ 4 ملايين صوت، حصل هذه المرة على قرابة 800 ألف صوت، أي إن تحالف يسار الوسط قد خسر أكثر من ثلاثة أرباع مؤيديه.

أما يمين الوسط فهو الآخر قد تراجع، فقد حصل على قرابة 13% فقط من الأصوات. وحصل «سيباستيان بينيرا» على قرابة 900 ألف صوت فحسب، فجاء في المركز الرابع. لكن بوضع الأمور في سياقها نجد أن تراجع يمين الوسط يعتبر تقدمًا، على عكس تراجع يسار الوسط الذي يعتبر انهيارًا.

لكن بعيدًا عن التحالفات أتى كاست وحصوله على نسبة 28% من الأصوات ليربك الجميع، فالرجل الذي لم يكن يُعتبر مرشحًا جادًّا حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2021 فاز بالجولة الأولى. كاست الذي حصل على 8% فقط من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الماضية. لكنه خلال شهر واحد فقط تحول، حسب استطلاعات الرأي، من مرشح 10% فقط من الناخبين إلى الاختيار الأمثل لأكثر من 25% من الناخبين. ليبدو لوهلة أن تشيلي يمكن أن تكرر نموذج البرازيل، حيث تولى بولسونارو الحكم في بلد ظن الجميع أنه قد تجاوز اليمين الرجعي.

الشعب ينفجر على السلطة

لكن أتت الجولة الثانية برأي حاسم، فقد فاز جابريل بوريك، الذي حصل على 26% من الأصوات في الجولة الأولى. بوريك هو مرشح اليسار الجديد، وزعيم سابق في الحركة الطلابية. بوريك هو الآخر كان مفاجأة، فمن أقل من 5% من الأصوات في استطلاعات الرأي إلى التأرجح بين 25% و30% قبل أسبوعين من الانتخابات.

التذبذب بين اليمين المتطرف واليسار الجديد يمكن ردُّه إلى عامين مضيا، فمنذ عام 2019 ومطالب الشعب التشيلي واضحة وسخطهم موجه لأشياء محددة. ضعف الأجور، خصوصًا أن 50% من أبناء البلد يعملون في القطاعات غير الرسمية. كما كانوا ساخطين على نظام التقاعد الذي لا يوفر حياةً كريمة للمتقاعدين. كما كانت أنظمة التعليم والصحة المتداعية جزءًا أساسيًّا من سخطهم.

كل ذلك تضاعف في وجود أزمة كورونا، فلم يستطع معظم سكان تشيلي البقاء فوق خط الفقر. 30% من سكان تشيلي لم يكن لديهم عمل في العام الماضي. و75% من أهل البلاد لم يستطيعوا أن يوفر الاحتياجات الأساسية لأسرهم. مع هذا العوز المادي ارتفع الشعور بالخوف من الجريمة، وبات فقراء تشيلي وطبقتها العاملة يخشون على أنفسهم من الجوع أو السرقة والقتل.

في تلك الأجواء الكئيبة لم يستطع اليسار أن يُقدم نفسه كدرع للفقراء، أو حامل برنامج لا يتهاون في توفير تلك الإصلاحات الأساسية لغالبية الشعب. وبات الحديث بين اليمين واليسار عن الاختلافات الثقافية مصدر سخط واحتقار لدى الطبقة العاملة. ورأى أربعة أخماس السكان أن ثروات البلاد واقتصادها يديره الأثرياء مهما تكن الفئة الحاكمة. ورأى 85% من الناخبين أن السياسيين لا يبالون بالأشخاص العاديين.

 لكن كذلك بات الناخبون يفكرون في اليمين المتطرف ويرون فيه إمكانية لحل مشكلات العمال ومشاكل انعدام الأمن، لكنه ينقص فحسب أن يجد فرصة مناسبة لتنفيذ برامجه. خصوصًا أن اليمين المتطرف لعب على وتر المرأة التي خرجت من سوق العمل في ظل جائحة كورونا، فقد تم تسريح النساء، واكتفى أصحاب الأعمال بالعمال الذكور لقدرتهم على القيام بأكثر من عمل وبأجر بسيط.

قطيعة مع إرث بيونشيه

وحتى بفوز بوريك بالانتخابات فإن ذلك لا يعني أن اليساري الذي وعد بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي قد استتب له الأمر. فعمال تشيلي حاليًّا باتوا أكثر قدرةً على القتال منهم في جميع الأوقات السابقة. وثورتهم جارية مهما كان شخص الرئيس، ورغبتهم في إعادة التأسيس الاجتماعي للبلاد هي المحرك الأساسي لهم. لذا فمن سيقود تلك الثورة سيكون هو الرئيس الحقيقي للبلاد حتى لو كان اليمين المتطرف.

 لأن اليسار سيكون أمامه تحديات ضخمة بعد سنوات التجريف التي عانت منها الحياة السياسية في تشيلي. فبوريك هو اليساري الذي يصل إلى القصر الرئاسي بعد 48 عامًا من سقوط سلفادور الليندي بوابل رصاص الشرطة العسكرية بقيادة بيونشيه. ليعيد بذلك النقاش حول مستقبل اليسار في أمريكا اللاتينية، حيث يبدو أن اليمين المتطرف هو من يأخذ زمام المبادرة. لكن بوريك جاء ليخلط جميع الأوراق في المنطقة.

خاصة في تشيلي التي عرفت بتوازن، شبه متفق عليه، بين اليسار الاشتراكي المعتدل واليمين المحافظ المعتدل. لكن زلزال عام 2019 السياسي أعاد تعريف المشهد من جديد، بعد أن شهدت البلاد واحدة من أكثر الاحتجاجات شراسة في العالم. وبعد انتخاب المجلس التأسيسي الجديد الموكل إليه وضع دستور جديد للبلاد، بات واضحًا أن تشيلي تتجه إلى قطيعة كاملة مع إرث بيونشيه وما تلاه. القائم على تداول السلطة بين اليسار واليمين المعتدليين بديمقراطية انتخابية، مع الحفاظ على التراث السياسي والاقتصادي لبيونشيه.

تلك القطيعة تجلت في العودة إلى الجذور في الصراع الذي شهدناه الأيام الماضية، بين اليمين المتشدد والجبهة المسيحية ممثلة في كاست، وبين اليسار الراديكالي وأحد قادة احتجاجات عام 2019، بوريك.

التوجس من الجيش

الليبرالية الجديدة في أمريكا اللاتينية هي الأخرى تلقت ضربة موجعة بفوز بوريك، ولذا فقد وعد بوريك بسن سياسات اقتصادية أكثر إنصافًا للفقراء. هذا التوجه اليساري الواضح بالتأكيد يثير مخاوف الأوساط الليبرالية والمحافظة، والتي كانت بمثابة القاعدة لنظام بيونشيه. خصوصًا أن هذا التوجه سوف يتزامن مع نظام سياسي ودستوري جديد. لذا فقد تقوم تلك الفئات بالالتفاف حول التغييرات التي بدأت البلاد تشهدها مع احتجاجات عام 2019.

تلك الالتفافات يمكن أن تصل إلى ذروة غير محمودة العواقب حين نعلم أن رأس المال هو الأساس لتلك الطبقة، كما أنها تحتفظ بعلاقات شديدة الحيوية والدفء مع الجيش. ولا يمكن المراهنة على عزوف الجيش عن السلطة أو حتى التغييرات التي شهدها الجيش خلال السنوات الماضية بعد إبعاده عن الحياة السياسية، لكن يظل الجيش مصدر ريبة وتوجس لغالبية الشعب التشيلي.

لذا يجب على بوريك الخروج سريعًا من حالة الحماسة، كونه أصغر رئيس للبلاد، والبدء في التفكير في التحالفات اللازمة كي لا ينزلق الرجل إلى نهاية تبدو ماثلة من الآن. خصوصًا أن وعود الرخاء الاجتماعي غالبًا ما ارتبطت باليمين الليبرالي المحافظ. لكن على الرجل أن يثبت أن اليسار أيضًا قادر على تحقيق تعليم جيد ونظام صحي جيد، وضمان قدر محترم من الرعاية الاجتماعية، كل ذلك دون تكلفة اقتصادية باهظة على الشعب.

ربما يمكن لبوريك أن يستفيد من الهامش الذي سيمنحه له وجود حكومات يسارية في فنزويلا والأرجنتين وبوليفيا والبيرو. فلا بد أن تلك الحكومات ستكون مرحبةً بوجوده على قمة الحكم في تشيلي، ويمكنها أن تساعده كي يحقق نموذجًا مقبولًا للنجاح. لكن على النقيض أيضًا، على الرجل أن يحاذر مع السخط الذي سيناله من الحكومات المحافظة التي تتولى الحكم في الدول المجاورة له مثل البرازيل وكولومبيا والأوروجواي.