قطرة واحدة هي الحد الفاصل بين قدرة الوعاء على الاحتواء ودفعه للطوفان. زيادة الرسوم على وسيلة نقل حيوية مثل مترو الأنفاق هي الحد الفاصل بين صمت الشعب المُتحامل على نفسه بالفعل والانفجار. ثلاثة ملايين راكب يستخدمون مترو الأنفاق يوميًا، في شبكةٍ هي الأوسع والأحدث في أمريكا اللاتينية بطول 140 كيلو متراً، لذلك كانت الزيادة هي الشرارة التي أشعلت مظاهرات هي الأعنف في تشيلي منذ عقود. وبدأت عبارات الاحتجاج تغزو الشوارع ووسائل التواصل الاجتماعي ملخصةً في كلمات بسيطة وواضحة مثل «مللنا» و«تشيلي استيقظت».

حملة بدأها بعض طلاب المدارس للقفز عبر بوابات المترو دون شراء تذكرة. سرعان ما تحولت إلى اضطرابات لم تستغرق وقتًا طويلًا حتى سقط أولى ضحايها. ثلاثة قتلى في أحد المتاجر الكبرى، كما أعلنت حاكمة العاصمة، كارلا روبيلار، يوم الأحد 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وصفتهم الحاكمة بضحايا لأحداث شغب دائرة في البلاد، وبناء عليه أعلنت تعليق العديد من الرحلات الجوية لشركات الطيران الكبرى. ومع مرور الوقت أصبح عدد القتلى 12، ولا يتوقع أن يقف عند هذا الحد. كل ذلك بسبب قرار غير مدروس من الحكومة برفع تذكرة المترو من 800 إلى 830 بيزوس، ما يُقارب 1.04 يورو.

تشيلي أكثر دول أمريكا الجنوبية استقرارًا وازدهارًا، سواحلها على المحيط الهادي تمتد إلى 4800 كيلو متر. تحدّها بيرو من الشمال، بوليفيا من الشمال الشرقي، الأرجنتين من الشرق، والمحيط الهادي من الغرب. تنقسم إلى 15 إقليمًا تحت قيادة العاصمة سانتياجو وحكم رئاسي بزعامة حالية للرئيس سيباستيان بينيرا منذ العام الماضي. لكن رغم ذلك، ورغم تراجع الرئيس عن قرار رفع أسعار التذاكر فإن لهيب الاحتجاجات لم يخمد بل ازداد وتوسع.

رُفعت مطالب أخرى تتحدث عن عدم المساواة الاجتماعية، والسياسة الاقتصادية للدولة، والتعليم والصحة اللذان يسيطر عليهما القطاع الخاص. فرغم أن الأرقام الاقتصادية تظهر نموًا بمعدل 2.5%، فإن الواقع يظهر اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الحصول على خدمات الصحة والتعليم والمعاشات. وبلغ سقف المطالب أقصى ارتفاعه بمطالبات برحيل الرئيس، والتنديد بالجيش.

ديموقراطية عتيقة

جانب من مظاهرات تشيلي

عرفت تشيلي الحكومات الديموقراطية مبكرًا منذ عام 1861. ووُلد أول دستور لها عام 1925 الذي يحتوي صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية. وشهدت أول صدام حقيقي بين الجيش والسلطة السياسية عام 1958 في فترة حكم الليبرالي أرتورو أليساندري. أرتورو قام بعدة إصلاحات عارضها جنرالات الجيش لكن لم يستطيعوا التغلب عليه وحافظت البلاد على ديموقراطيتها.

ثم أثبتت البلاد صدقها في التمسك بالديموقراطية عام 1970 بانتخاب سلفادور آليندي صاحب الفكر الاشتراكي. غير أنّه لم يحكم إلا 3 سنوات، حيث داهمه الجنرال بينوشيه بانقلاب عسكري. مات آليندي بعد الانقلاب في ظروف غامضة، قيل إنّه انتحر لكن الأرجح أنّه قُتل. أدخل بينوشيه البلاد مرحلة القمع والحكم بالحديد والنار حتى نهاية حكمه. فولاؤه التام للولايات المتحدة جعل العالم الغربي يتغاضى عن الاتهامات الموجهة له بانتهاكات حقوق الإنسان.

قام بينوشيه بتعليق الدستور وتجميد الحياة السياسية. كما فتح الباب على مصراعيه لتصفية المعارضين من اليساريين والاشتراكيين وأنصار آليندي. ومضى في تنفيذ خطته لجعل تشيلي أمة من رجال الأعمال لا من الطبقات العامة. لكن حتى تحت هذا الحكم القمعي نجحت المعارضة والمظاهرات الشعبية في إجبار بينوشيه على وضع موعد نهائي لرحيله ثم إجباره لاحقًا على الرحيل.

اقرأ أيضًا: الكلاشنكوف: أبرز هزائم الروس للأمريكان

انتُخب باتريسيو أيلوين أول رئيس ديموقراطي لتشيلي بعد عودتها للمسار الديموقراطي. قام أيلوين بخطوات جادة لتقليل آثار حكم بينوشيه الكارثية. لكن الإصلاحات الدستورية والاقتصادية لم تستطع التغلب على حقيقة أن نفوذ رجال بينوشيه كان لم يزل مسيطرًا على مفاصل الدولة. وظل أيلوين ندًا قويًا لهذه السيطرة حتى غادر منصبه عام 1994. تلاه رئيسان على نفس نهجه، حتى وصلت تشيلي إلى عام 2006.  فازت ميشيل باشيليت الاشتراكية بالحكم كأول امرأة تحكم البلاد. المرأة وعدت بإصلاحات اقتصادية ودستورية واسعة للتخلص من الحكم الديكتاتوري وآثاره.

ليست الأولى

 بعد انتهاء ولايتها الواحدة عام 2010 فاز الملياردير سيباستيان بينيرا بالسلطة. بينيرا صاحب الثروة البالغة 3 مليارات دولار وعد بتخفيض الضرائب. لكن لم يرد السير على خطى سابقته في خوض إصلاحات في منظومة التعليم والضرائب والعمل. لذا فحين انتهت ولايته عام 2014 أعاد الشعب انتخاب السيدة ميشيل باشيليت مرةً أخرى. فهي «مرشحة الشعب» كما يراها الشعب. وهي شخصيًا من دعمت بينيرا ليحل محلها في انتخابات عام 2017 وحتى الآن في 2019.

لكن يبدو أن الشعب الذي رحب بطبيبة الأطفال ذات الحديث الودي المتواضعة لم يعد يرحب بالملياردير ذي الحديث الصارم.

فلم تكن تلك هي المظاهرات الأولى لتشيلي في عهد الرئيس بينيرا. في سبتمبر/ أيلول 2016 شهدت العاصمة ذاتها مظاهرة لأسباب قريبة من مظاهرات اليوم. بدأت المظاهرت بتجمع المئات للاعتراض بشكل سلمي على مشروع تنمويّ تريده الدولة سوف يؤدي لغلاء العديد من الخدمات، خاصةً المتعلقة بالإسكان. لكن علّق بعض المتظاهرين أنفسهم من أعلى جسرٍ بالحبال فيما يشبه المشانق تعبيرًا عن الغضب وما تمارسه الدولة عليهم من تضييق. المشهد أدى لتوقف المزيد من المارة، وتعطيل حركة المرور، فتدخلت الشرطة. تم إنزال المُعلّقين وإطلاق قنابل مسيلة للدموع لفض التجمع واعتقال عشرات من المتظاهرين.

وكما عادت مظاهرات تشيلي تترواح بين السلمية والعنف كانت تلك المظاهرات الأخيرة كذلك. فقد خُرّبت وأحرقت أعداد من محلات البقالة الكبرى والسيارات ومحطات البنزين. وأضرب عدد من الموظفين عن الذهاب لأعمالهم، وامتنع الطلاب عن الذهاب للمدارس.

لكن على جهة أخرى يحرص السكان في بعض المناطق على ألا تحدث أي عمليات تخريب. فارتدوا سترات صفراء وتسلّحوا بقضبان معدنية وشكلّوا لجانًا لحراسة الممتلكات الخاصة. كما أن مواقف المتظاهرين متباينة، كذلك كان موقف الرئيس بينيرا متغيّرًا.

موقف الرئيس

استمرار المظاهرات في تشيلي

في البداية تحدث الرئيس بلهجة حاسمة وصيغة شديدة الحزم رافضة للاحتجاجات. وأعلن أنّ بلاده في حالة حرب مع المتظاهرين الذين وصفهم بالعدو الذي لا يرحم. استطرد قائلًا إنهم عدو لا يحترم شيئًا ومستعد لاستخدام القوة دون أي حدود. التصريحات الغاضبة أتت بعد مقتل 5 أفراد في مصنع أحرقه المتظاهرون، إضافةً لامرأتين لقيا مصرعهما في متجر أحرقه المتظاهرون أيضًا. أتت تلك التصريحات وحصيلة المعتقلين من المتظاهرين بلغت 1500 معتقل.

لكن بعد أيام أعلن للشعب أنّه أصبح يراهم الآن. واعتذر عن قصور الرؤية ووعد بحزمة إصلاحات اجتماعية واقتصادية. فمن أمام القصر الرئاسي في سانتياجو أعلن عن زيادة المعاش الأساسي بـ 20%. كما أعلن تجميد الرسوم الإضافية المفروضة على الكهرباء. كذلك قال إنّه سيقترح قانونًا يجعل الحكومة هي من تتحمل نفقات العلاج الطبي شديد الكلفة في تشيلي.

تنازلات عديدة يجب على الرئيس والحكومة تقديمها لاحتواء هذا الغضب الذي لا يهدأ. قال الرئيس إن الاحتجاجات أوصلت الرسالة التي يريد الشعب إرسالها للحكومة بوضوح. لهذا اجتمع مع الأحزاب المعارضة لمناقشة رسائل الشعب. غير أن ثلاثة أحزاب معارضة قاطعت الاجتماع، على رأسهم  الحزب الاشتراكي أكبر حزب معارض في البلاد. كذلك خرج الشعب في مظاهرات ضخمة ليرسلوا رسالةً جديدة لرئيسهم، بأنّه لم يفهم رسائلهم السابقة. خاصةً وحظر التجوال الذي فرضه الجيش لا يزال ساريًا من الثامنة مساءً حتى الخامسة صباحًا لليوم الرابع على التوالي ضمن فترة الـ 15 يومًا التي أعلنها الرئيس مسبقًا.

إذ عهد الرئيس بينيرا بمسئولية حفظ الأمن للجنرال خافيير إيتورياغا. بدوره أعلن خافيير نشر أكثر من 9500 فرد من الجيش والشرطة في العاصمة سانتياجو، ومنطقتين إضافيتين هما فالبارايسو، مسقط رأس الديكتاتور بينوشيه، في وسط البلاد، وكونسيبسيون في جنوبها. ثم نًشرت القوات في مناطق أوهيجينز وكوكيمبو أيضًا.

الشعب لا يريد الجيش

بعد نشر القوات وجّه الجنرال رسالةً للمتظاهرين يدعوهم فيها للعودة إلى بيوتهم وتقييم الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها الحكومة. مع الأخذ في الاعتبار إجراءات الدولة لحمايتهم وحماية أُسرهم وممتلكاتهم الخاصة. الجُملة تُعتبر تهديدًا ضمنيًا للمتظاهرين، فالدولة هي التي تحفظ أمنهم وأمن عائلاتهم وممتلكاتهم لذا فإذا رفعت الدولة يدها الحافظة عنه فلا أمن ولا أمان.

لكن لم يدرك الجنرال ولا الرئيس الصدمة التي علت وجوه المتظاهرين حين رأوا القوات العسكرية في الشارع. لأول مرة منذ انتهاء حكم الجنرال بينوشيه عام 1900 تجوب دورية عسكرية في الشوارع. ذكرى سيئة وسيناريو قاتم ذكرّ الرئيس والجنرال الشعب به. فازدادت حدة المظاهرات رغم أنّ الرئيس استمع «بكل تواضع» لصوت «رفاقه» الذين أخبروه عن غلاء المعيشة وتردي الخدمات العامة. إذ ذكرهم الرئيس بجناية أخرى ارتكبها هو منذ شهور عام 2018.

إذ خرجت مظاهرة أخرى في العاصمة في الذكرى 45 لانقلاب بينوشيه. المتظاهرون حينها ندّدوا بالحكم العسكري لبينوشيه وطالبوا بالإفصاح عن مصير 3095 شخصاً قُتلوا أو اختفوا في فترة حكمه الممتدة من 1973 إلى 1981. هذا بعد تجاوزهم عن حقيقة أن ضحايا بينوشيه وصل إلى ما يزيد على 40 ألف فرد ما بين قتيل مُختف ومعتقل لأسباب سياسية.

اقرأ أيضًا: إعادة اكتشاف الشوارع: موجز سيرة «السترات الصفراء»

أيضًا في تلك المظاهرة ندّد المعترضون بقرار الرئيس بينيرا في أبريل/ نيسان 2018 بالعفو عن ضابط سابق مُتهم بقتل ستة أشخاص إبان حكم بينوشيه. كما تبع قرار الرئيس عفو من المحكمة العليا في يوليو/ تموز 2018 عن 7 عسكريين من رموز حكم بينوشيه ومتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

الحل؟

أمام بينيرا معضلة حقيقية عليه مواجهتها، لكن عليه أولًا أن يعترف بوجودها، عدم المساواة. فـ 20% من سكان تشيلي يقل دخلهم عن 140 دولاراً شهريًا، و50% يجنون ما يقارب 550 دولارًا. في حين أن أثرياء تشيلي يتهربون من دفع ضرائب قيمتها 1.5 مليار دولار. على الرغم من ذلك فإن الدولة تمنح الطبقة الثرية الامتيازات الصحية والخدمية المختلفة.

كما أن تأخر رد الفعل الرسمي زاد من شعور المتظاهرين بالفجوة الهائلة بين الرئيس وبينهم. وزادت الأمور سوءًا حين وصف المتظاهرين بالأعداء، وأعلن أن البلاد في حالة حرب. الأمر الذي يساوي أن الجيش هو من عليه مواجهة المحاربين، فالرئيس هنا يتخلى عن سلطته الفعلية ويمنحها للجيش. خطوةٌ عانى منها الشعب كثيرًا ولن يسمح بتكرارها مرةً أخرى.

لذا فالمعادلة في تشيلي أقرب ما تكون إلى معادلة صفرية يتعنّت طرفاها. الرئيس يقدم إصلاحات لا ترقى لتطلعات الشعب، لأن الشعب يريد رحيل الرئيس نفسه. والرئيس يمنح صلاحياته ضمنيًا للجيش، والشعب مستعد للموت كي لا يدخل في عصر بينوشيه مرة أخرى.