انفعلت الإدارة الأمريكية بمجرد اكتشاف وجود منطاد صيني في سمائها. تأهبت دول العالم كأن حربًا عالمية جديدة على وشك الحدوث. في وسط تلك الأزمة والاحتقان الذي تزايد على كافة الأصعدة بزغت أسئلة تتعجب من القصة بكاملها. نعيش عصر الطائرات دون طيار، والأقمار الصناعية العسكرية، والطائرات الشبحية التي تفوق سرعة الصوت وتتجاوز الرادار. وبينما يُتاح كل ذلك، تزعم الولايات المتحدة أن الصين اختارت منطادًا بدائيًا للتجسس عليها.

دار سجال بين الطرفين حول حقيقة المنطاد، أصرّت الولايات المتحدة أنه كان منطادًا للتجسس، ونفت الصين الأمر تمامًا. ثم عادت واعترفت بأن المنطاد تابع لها، لكن أكدت أنه يُستخدم لأغراض مدنية. وأن وجوده في السماوات الأمريكية جاء عفويًا نتيجة انحرافه عن مساره. لكن على كل حال قررت الولايات المتحدة إسقاطه. واختارت إسقاطه باعتباره أداة تجسس باستخدام طائرة عسكرية وصواريخ باتريوت.

الأزمة فجرّت أسئلة أكبر وأشمل، حول المناطيد واستخدامها في التجسس عمومًا. المناطيد التي تعمل بالهواء الساخن تُعتبر من أقدم وسائل الطيران في التاريخ الإنساني. وأول من استخدمها عسكريًا في العصور القديمة كان الصين أيضًا، بين عامي 220 و280 ميلادية. مر المنطاد بمراحل عدة للتطور على يد الأمم المختلفة. حتى وُلدت المناطيد الحديثة التي باتت تسترشد بالذكاء الاصطناعي، وتوصف دوليًا بأنها أدوات مراقبة قوية يصعب إسقاطها.

لأن المناطيد، على عكس الأقمار الصناعية المعتادة، تمتلك قدرة طبيعية على التخفي عن الرادارات لأنها مصنوعة من مواد بلاستيكية، غير معدنية، فلا يمكن للردار التقاطها. بجانب أنها لا تعكس الضوء، فإذا كان المنطاد على ارتفاع كبير وخرج من مجال إبصار العين البشرية، فلا يمكن التقاطه غالبًا بأي وسيلة. وتزداد احتمالية نجاته من الإسقاط إذا كان صغير الحجم، فلا يُكتشف غالبًا.

إسقاطه أصعب من القمر الصناعي

لكن بالطبع تظل المناطيد أدوات بدائية، لهذا يكون من الصعب التحكم فيها بصورة كاملة. ما يعني أن المقولة الصينية إنه انحرف عن مساره أو وصل إلى الولايات المتحدة بصورة غير مقصودة، لها وجاهتها ويمكن أن تكون حقيقية. يزيد من احتمالية صدقها أن المنطاد طار على ارتفاع منخفض بالنسبة لما يجب أن يكون عليه إذا أراد ألا يكشفه أحد. فمناطيد المراقبة وأدوات الطقس تطير على ارتفاع يتراوح من 20 ألفًا إلى 30 ألف متر فوق سطح الأرض. أما المنطاد المذكور فقد طار فوق ارتفاع 14 ألف متر فقط.

لكن تاريخ الصين من المناطيد يزيد من احتمالية الهدف العسكري. فتلك ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها رصد مناطيد صينية في أجواء دول أخرى. ففي يونيو/ حزيران عام 2020 تم رصد منطاد مشابه للذي رصدته القوات الأمريكية في أجواء اليابان. كذلك تم رصد منطاد آخر في يناير/ كانون الثاني 2022 قرب قاعدة بحرية هندية شرق خليج البنجال.

صعوبة الإسقاط كذلك تأتي من أن المنطاد جسم غير ثابت، كما أنه لا يتحرك في اتجاه ثابت أو بسرعة ثابتة. عام 1998 رأى سلاح الجو الكندي منطادًا للطقس خارجًا عن السيطرة فقرر إسقاطه. أرسل سلاح الجو للمنطاد درة تاجه، مقاتلة من طراز إف- 18. لكن لم تستطع المقاتلة إسقاطه إلا بعد 6 أيام كاملة، أطلقت في تلك الأيام الستة قرابة 1000 طلقة من عيار 20 ملم.

تلك القصة تخبرنا أمرين، صعوبة اسقاط المنطاد، وأن استخدام المناطيد لأغراض شبه عسكرية يبدو معتادًا وقديمًا. خطوة للخلف نكتشف منها أن اليابان تُعتبر رسميًا أول دولة تستخدم المناطيد لأغراض عسكرية. واستخدمتها لإلقاء قنابل حارقة.

الصين أسقطت منطادًا أمريكيًا

كما استخدمت أثناء الحرب الباردة من طرف القوتين المتناحرتين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. فقد كانت الولايات المتحدة المُطلق المعتاد لهذه المناطيد تجاه الاتحاد السوفيتي حتى فبراير/ شباط 1956. في ذلك التاريخ أصدر الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، قراره بإيقاف تلك العمليات بسبب اعتراض السوفييت على كثرة إطلاق المناطيد من قواعد تركيا واليابان.

 لكن رغم إيقاف الأمر رسميًا، لكن ظلت عمليات استطلاع متقطعة تُنفذها الإدارة الأمريكية من حين لآخر. كما أسقط السوفييت عددًا من تلك المناطيد، وكانت الكاميرات التي حصلوا عليها من تلك المناطيد هى المستخدمة في أول قمر صناعي سوفيتي. كذلك كانت الصين قد أسقطت منطادًا أمريكيًا عام 1957.

لكن حتى لو كانت المناطيد لأغراض مدنية أو مراقبة الطقس، فإن القانون الدولي ينظم المسألة. فلا يسمح القانون الدولي بدخول المناطيد للمجال الجوي لأي دولة دون موافقتها. وفي حالة عدم الاستئذان يُعتبر ذلك انتهاكًا للسيادة يستدعي ردًا متناسبًا. خصوصًا في حالة الولايات المتحدة، إذ تنص القوانين الأمريكية على أنه لا يجوز لأي طائرة عسكرية أجنبية أن توجد في الأجواء الأمريكية إلا بموافقة خطية من وزارة الخارجية.

على الجهة الأخرى فإن الولايات المتحدة لا تدخر جهدًا في محاولة التربع على عرش تقنية المناطيد العسكرية. فوزارة الدفاع الأمريكية تعمل منذ عام 2019 على مشروع لخلق مناطيد تستطيع التحليق على ارتفاع 50 كيلومترًا. المشروع يحمل اسم النجم البارد، والهدف المعلن منه هو خلق شبكة لمراقبة طرق تجارة المخدرات. لكن تقارير متعددة تقول إن الإدارة الأمريكية بدأت منذ شهور معدودة تحويل جزء من هذا البرنامج لمراقبة الصواريخ البالستية التي تختبرها دول مثل روسيا والصين.

العالم يعود للبدائية

تمتلك الولايات المتحدة في سماء العالم أكثر من 25 منطادًا نشطًا. كلفتهم قرابة 4 ملايين دولار فقط، بينما يخطط الكونجرس والبنتاجون لدعم مشروح النجم البارد بميزانية تقارب الـ30 مليون دولار لإنتاج مناطيد بإمكانات أعلى. كذلك دخلت إسرائيل مجال المناطيد العسكرية وتستخدمها للاستطلاع عبر كاميرات حرارية، والعديد من الرادارات التي يتم وضعها على تلك المناطيد.

كما تمتلك المناطيد الحديثة أجهزة توجيه تمكنها من تغيير ارتفاعها بحثًا عن الريح التي تسير في الاتجاه الذي يرغبه المنطاد. لكن يظل المنطاد عمومًا تحت تصرف الرياح وأي ظرف جوي آخر. مثلما حدث في حالة المنطاد الصيني الذي قادته، طبقًا للرواية الصينية، التيارات الهوائية السائدة فوق المحيط الهادئ وصولًا إلى كندا والولايات المتحدة. فالمناطيد الأمريكية مثلًا تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات من تلقاء نفسها لتصل إلى المكان الذي تمت برمجتها على الوصول إليه.

بجانب تلك القدرة على القرار فإن دول العالم تفضل اللجوء لمناطيد بسبب جودة صورها. فالأقمار الصناعية نوعان، نوع يدور في مدار منخفض يعطي صورًا أوضح، لكنها تدور بسرعة كبيرة فلا يمكنها إعطاء لمحة تفصيلية عن مكان محدد. أما النوع المداري المتزامن مع الأرض، فيتميز بالثبات، لكن بعده عن الأرض يجعل الصور الصادرة منه غير واضحة.

لكن المنطاد يوفر الميزتين، فهي أقرب كثيرًا للأرض لذا تعطي صورًا أوضح، وتتحرك ببطء نسبي لذا تعطي صورًا ثابتة وتغطيه شبه مستمرة للبقعة التي تقف فوقها. كما أن كلفة تشغيل المناطيد أرخص. وتحمل أوزانًا أكبر بكثير من تلك التي تقدر طائرات التجسس على حملها. ويمكنها السفر لمسافات طويلة دون الحاجة للتزود بالوقود. وبالطبع يعتبر أفضل ما يميز المناطيد أن بإمكان الدول إدعاء أنها تستخدمها لأغراض متعلقة بالطقس، وأنها انحرفت عن مسارها فحسب.