كنت موجودًا في الميدان يومها. سمعنا صوت إطلاق الرصاص العشوائي، وشاهدت بعدها بقليل شابًا صغيرًا جالسًا في سيارته مقتولًا، وأمه تصرخ من المقعد الخلفي تطلب المساعدة، كان الرصاص قد دمر جانبًا كاملًا من رأسه، ولم يكن هناك من سبيل للمساعدة
سرحان ثياب شرطي مرور عراقي – قاعة المحكمة 2015

صبيحة السادس عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2007، في أحد شوارع العاصمة العراقية بغداد، هز انفجار ضخم الأرجاء وخرج بعده وابل ضخم من الرصاص شق سكون العاصمة، ليسقط على إثر ذلك الوابل 14 عراقيًا مدنيًا، بينهم نساء وأطفال. أدرك الجميع حينها أن ما حدث لم يكن مشاجرة أو مواجهة مسلحة بين طرفين متنازعين، لكن برزت فضيحة «بلاك ووتر» وقتها لأول مرة بوضوح كمجموعة مسلحة تقوم بعمليات القتل مقابل المال داخل الأراضي العراقية، لتصبح الفضيحة حينها أكبر من مجرد شائعات تدور داخل الأروقة.

دوى الاسم بشكل واضح خلال مجموعة من العمليات المسلحة التي شاركت فيها المجموعة كطرف أساسي، يقوم بعملياته تحت معرفة وتصرف السلطات في الولايات المتحدة دون رفض أو رقابة توقف زحف تلك العمليات المنتشرة في عدة بلدان حول العالم، حتى كانت الطامة التي قلبت الموازين في قلب بغداد.

صبيحة مقيتة

كان تأسيس بلاك ووتر الأول عام 1997 تحت قيادة إيريك برنس، لمهمات القيام بعمليات عسكرية على أيدي جنود سابقين في الجيش الأمريكي وآخرين مدربين على القيام بعمليات عسكرية ومناورات بطرق غاية في الاحترافية.

وقد كان الدخول الأول للشركة في العراق عام 2007 باتفاق بين الحكومة الأمريكية التي كانت تسيطر على الأمور في العراق بشكل كامل، وبين الشركة، للقيام بعمليات حفظ الأمن والسلام في بعض المناطق التي تراها الحكومة الأمريكية حرجة وهامة في بغداد، ولا ترغب في أن تُورط فيها المزيد من جنود الجيش. وقد تلخصت المهمات التي قامت بها بلاك ووتر في القيام بعمليات تأمين المواكب الدبلوماسية والمؤتمرات السياسية والدولية التي تقوم بها الولايات المتحدة في الأراضي العراقية كسبب رسمي معلن، لكن ما حدث صبيحة منتصف سبتمبر/ أيلول من عام 2007 كان الكارثة التي حطمت البرنامج بأكمله، حتى لو كان ذلك على المستوى السياسي والدولي وليس على أرض الواقع بصورة فعلية.

في ذلك الصباح كانت مجموعات بلاك ووتر مُكلفة بتأمين موكب أمريكي دبلوماسي يمر عبر شوارع بغداد، وقد دوى صوت انفجارٍِ قوي بالقرب من موقع الموكب، تبعه صوت إطلاق رصاص مجهول المكان، لم ينتج عنه أي هجوم فعلي أو ضرر فعلي للموكب وطاقمه.

كان الرد من مجموعات بلاك ووتر، واضحًا على نحوٍ مفزع. فتح أفراد المجموعة إطلاق نار عشوائي في أرجاء الميدان الفسيح، ليخترق الرصاص صدور ورؤوس المدنيين الذين تصادف وجودهم في تلك الساحة. 14 ضحية مدنية قتلهم رصاص بلاك ووتر، 10 رجال وامرأتين وطفلين في التاسعة والحادية عشرة من عمرهم حصدهم رصاص بلاك ووتر في تلك الصبيحة، وأصيب 17 آخرون بإصابات خطيرة، لتصبح تلك نقطة التحول الأبرز في تاريخ الشركة.

خضعت العمليات العسكرية والتواجد الفعلي لمجموعات بلاك ووتر في العراق للعديد من التحقيقات والقضايا الجنائية، لسنوات طويلة حتى صدر الحكم النهائي عام 2015 بالحكم على ثلاثة من أعضاء الفريق بالسجن 30 عامًا، وحُكم على الرابع بالسجن مدى الحياة.

عام 2010 وبعد أن تفاقمت أزمة بلاك ووتر أمام الجهات القانونية والقضائية في الولايات المتحدة قرر إيريك برنس بيع الشركة وتغير اسمها لتصبح الآن تحت اسم Academi.

سنوات الاختفاء وعودة صامتة

اختفى برنس قليلًا من الخريطة المعلنة للتحركات الخطرة، بعد التخلص من بلاك ووتر وتغيير اسمها، لكن السنوات لا تمهلنا الكثير للكشف عن أن فترة الصمت الطويلة التي اختفى خلالها برنس، والتي تخللتها مجموعة من المشاريع التي عمل برنس خلالها مع بعض الدول الخليجية في مجال مكافحة الإرهاب والقرصنة الصومالية المهاجمة للسواحل، والتي انتهت بكارثة جديدة على رأس برنس، لم تكن سوى مرحلة مؤقتة بالنسبة لبرنس قبل أن يقرر العودة مجددًا بقناع جديد ربما لم يجرب ارتداءه من قبل، فبدأ الإعداد لمشروع جديد، كان ينقصه التمويل بسبب خسارة برنس الكثير من الأموال في أزماته المتكررة.

شركة Frontier resource Group والتي برزت كمشروع جديد في عقل برنس، بدا مستقبلها مهددًا قبل أن تبدأ، فثروة برنس بعد تلك الأزمات الطاحنة لم تتجاوز 100 مليون دولار، وبقية ما يمتلكه من ثروة حقيقية ما هو إلا جزء من سلسلة كبيرة من استثمارات العقار والاستثمارات الثابتة ذات العوائد المرتفعة، وقد برز التهديد هنا، في رفض العديد من المؤسسات المالية المشاركة في التمويل أو إقراض برنس للعمل على مشروعه الجديد، بسبب الأعمال سيئة السمعة التي يتورط فيها، والتي تشكل تهديدًا لتلك المؤسسات.

بدأ البديل الجديد يبرز أمام ناظري برنس. التنين الجديد الحالم بالتوسع والسيطرة والذي يتمنى أن ينشئ النسخة الخاصة به من بلاك ووتر، الصين.

نجح برنس في الحصول على تمويل 110 ملايين دولار، من شركة جونسون كو الصينية العملاقة والمملوكة للدولة الصينية، للقيام بمشروعات يمكن من خلالها تحقيق الأرباح وتوسيع حجم الاستثمار. وقد بدت الأفكار كلها في ذلك الوقت متعلقة بالمشاريع الجديدة في أفريقيا، بحكم كونها منبعًا خصبًا لتحقيق المكاسب، لكن حظوظ برنس كانت عثرة وفشلت الدفعة الأولى من مشاريعه، وكانت تلك ضربة قاصمة في بداية المشوار بالنسبة له وللممول الصيني المتعطش للربح والسيطرة.

لكن الخسائر المبكرة التي مُني بها برنس لم تمنعه من السير قدمًا في مشروعات أخرى في عمق القارة الأفريقية، وكسب المزيد من التأثير تجاه المستثمرين الصينيين، حتى نجح عام 2014، في أن يرفع قيمة الاستثمار في الشركة من الممول الصيني إلى 972 مليار دولار، أي تريليون دولار تقريبًا، وذلك تحت مسمى شركة قائمة على تقديم العمليات اللوجستية والخدمات الأمنية.

برز اسم برنس مع شركته الجديدة في مجموعة من النزاعات الهامة خلال السنوات الماضية مثل النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، والذي كان برنس وشركته في القلب منه. زود أذربيجان بآليات عسكرية روسية ومعدات حربية مقابل ملايين الدولارات، كما ساهمت الشركة في مشروعات مشابهة في دول العمق الأفريقي، مثل دعم الحكومة النيجيرية في مواجهة مجموعات بوكو حرام المسلحة، وقد نشرت شبكة رويترز تقريرًا مفصلًا عن ظهور الشركة ضمن مجموعة من مشروعات التنقيب والخدمات الأمنية والمعمار والاستشارات في جمهورية الكونغو الديمقراطية في يونيو/ حزيران الماضي، كمطور جديد للعمليات اللوجستية الحيوية داخل نطاق الدولة.

وظهر الاسم كذلك في المواجهات المسلحة في الكاميرون وإقليم كردستان العراق، لتكون هذه واحدة من البوابات التي رغبت الصين في الدخول منها إلى عالم السيطرة المنشود.

الطريق إلى بغداد .. مجددًا

خرجت وبصورة مفاجئة وثيقة باللغة العربية تحمل تاريخ فبراير/ شباط 2018، تُظهر اتفاقًا رسميًا بين وزارة التجارة العراقية وشركة فرونتير ريسورس جروب للقيام بالأعمال المختلفة داخل محافظة البصرة العراقية – المعروفة بثرائها النفطي – دون أن يفصح العقد عن أي تفاصيل تخص الأعمال الفعلية التي ستقوم بها الشركة داخل الأراضي العراقية.

بالطبع ومع فهم طبيعة العمليات اللوجستية المرتبطة بالمهام القتالية والمواجهات المسلحة التي تشارك الشركة في دعمها، بجانب الأعمال التجارية وأعمال الإنشاء وغيرها، يمكن طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة عمل الشركة في منطقة حساسة من العراق، خاصة إذا ما طُرح في الوقت الحالي ملف الاضطرابات السياسية العنيف الذي يهز الأراضي العراقية خلال الأيام الحالية، والذي خلف عشرات الضحايا الذين سقطوا بالرصاص الحي خلال الأحداث الأخيرة.

الملفت للنظر أن مؤسسة Buzzfeed الأمريكية حينما حاولت التواصل مع الشركة وسؤالها عن طبيعة الأعمال المتعلقة بالتعاقد المبرم مع الحكومة العراقية رفضت الشركة التعقيب أو تقديم أي توضيحات تخص النشاط التجاري في تلك المحافظة، مما يدفع نحو المزيد من التساؤلات في ذلك الصدد.

برنس وترامب.. الحليف الخفي

لم يكن لقائي مع ديميتريف أكثر من لقاء عابر لتناول كوب من البيرة
إيريك برنس – الكونجرس الأمريكي

برز برنس كأحد أبرز روابط التواصل بين دونالد ترامب والإدارة الروسية قبيل الانتخابات الأمريكية السابقة، كجزء من عمليات التواصل، التي عُرفت فيما بعد بقضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.

بالسير عبر بعض التفاصيل الدقيقة، فالتدخلات الروسية الداعمة لترامب لوصوله إلى سدة الحكم لم تكن بالصورة المباشرة التي يظنها الكثيرون بقدر ما كانت عبر وكلاء متخفين. وكانت تلك فرصة برنس للعودة إلى المشهد مجددًا وإثبات قوته وقدرته على تحقيق أمور مستحيلة كتلك التي حدثت من قبل، وقد تجلى ذلك في اللقاء الذي جمع بينه وبين كيريل ديميتريف، الملياردير الروسي المقرب من رأس السلطة في روسيا، والذي مثّل حلقة الوصل الروسية مع حلقة الوصل الأمريكية المتمثلة في برنس، والتي نفاها برنس بالكلية حينما استُدعي للتحقيق في الكونجرس الأمريكي، قائلًا إن اللقاء الذي جمع بينه وبين ديميتريف كان لقاء وديًا، لتناول المشروب ليس أكثر، وأن ترامب لم يكن له أي صلة باللقاء.

لكن الحقيقة أن برنس كان مهتمًا بشكل كبير بوصول ترامب إلى السلطة، فواحدة من أهم الأمور التي عمل برنس على إخبارها للمستثمرين الصينيين، هو أنه سيصبح وزيرًا في حكومة ترامب بمجرد وصوله للسلطة، وقد ظهر برنس بالفعل في مكاتب ترامب في نيويورك في شهر ديسمبر/ كانون الأول السابق للانتخابات، لكن بيتسي ديفوس أخت برنس حصلت على منصب وزير التعليم في حكومة ترامب.

كانت العلاقات بين برنس والجمهوريين أو جناح اليمين على وجه الدقة في الولايات المتحدة ممتدة وطويلة العمر، وبرز ذلك في عدة مجهودات، من بينها التبرع بربع مليون دولار لحملة ترامب الانتخابية، ثم الظهور المفاجئ قبل التصويت بأربعة أيام في الانتخابات في برنامج بانون شو، وتحدث دون أدلة عن تحقيق يتعلق بارتكاب مرشحة الحزب الديمقراطي مجموعة من الجرائم الجنائية، جرى التستر عليها من قبل إدارة أوباما – بحسب ادعائه – وقد كان لذلك الاتهام المفاجئ مفعول السحر في قلب الطاولة سريعًا على رأس هيلاري، قبل الانتخابات بساعات.

صفقة شينجيانج

صحيح أن مقاطعة شينجيانج الواقعة غربي الصين لم تكتسب شهرتها الواسعة الآن إلا بعد الخوض في أزمة معسكرات التأهيل التي تحتجز الصين بداخلها أكثر من مليون مسلم من أقلية الإيغور المسلمة التي تحيا هناك، إلا أنه من الواضح أن الفترة القادمة ستشهد شكلًا جديدًا من أشكال الشهرة بالنسبة للمقاطعة بفضل الصفقة الجديدة التي أبرمتها شركة برنس مع الحكومة الصينية لإقامة معسكرات تدريب عسكري في المقاطعة، تحت إشراف الشركة، والحكومة الصينية.

وقد كشفت التقارير أن قاعدة التدريب مجهولة الهدف، أي أنه لم يكُشف عن نوعية التدريبات التي سُتجرى هناك، إلا أن بعض التفاصيل قد ظهرت بالفعل في بيان مقتضب نشرته الشركة على موقعها الرسمي باللغة الصينية لكن حُذف بعدها سريعًا، ولم تعلق الشركة عليه بأي شكل بعد الحذف.

وقد تضمنت التفاصيل برامج تدريبية تهدف لتدريب 8000 متدرب كل عام، باستثمارات تقدر بـ 6 ملايين دولار أمريكي، وذلك كله قبل أن تحذف الشركة البيان الرسمي الذي أعقب حفل الافتتاح، وتمتنع تمامًا عن التعقيب على أي أمر يخص معسكر التدريب الجديد.

بإمكاننا اليوم القول بأن مشروعات إيريك برنس في طريقها لتقديم صور جديدة، جديرة بالفحص عن قرب، أولها، وأبرزها في العراق، حيث ماضي برنس هناك تشوبه الكثير من الشبهات، ويُنتظر أن تظهر مثيلاتها خلال الفترة القادمة، ضمن مساعي السيطرة الصينية الجديدة ومحاولة فرض النفوذ في مناطق مختلفة من العالم، وثانيها، عبر معسكر التدريب الغامض في شينجيانج والذي ما زال الحديث عنه مجهولًا وبحاجة للكثير من التفاصيل، الشيء الوحيد الواضح أننا وخلال الفترة القادمة سنكون بصدد التعرض لنسخة صينية من بلاك ووتر سيئ السمعة.