ترجع بداية الوجود الصيني في الجزر الإندونيسية إلى زمن بعيد، فقد شهدت البلاد عدة موجات من الهجرة، أبرزها المجموعة التي قدمت بزعامة القائد المسلم «تشينغ هو – Cheng Ho»، الذي أقام مستعمرة صينية إسلامية جنوب جزيرة «سومطرة» في أوائل القرن الخامس عشر، لكن هؤلاء وأمثالهم ذابوا وسط المجتمعات المحلية، ولعل اندماجهم مع السكان المحليين كان بسبب العقيدة المشتركة بينهم.

وبعد ذلك بعدة قرون، في ظل الاحتلال الهولندي تدفق الصينيون بأعداد كبيرة إلى البلاد، وأصبحوا وسطاء بين المواطنين الأصليين والمحتلين، ونشطوا في التجارة والأعمال، وانقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات؛ «الهولنديون في الأعلى، والصينيون في الوسط، والسكان الأصليون في الأسفل».

وبعد الاستقلال عام 1945، كان يُنظر للصينيين في إندونيسيا على أنهم دخلاء، ووكلاء سابقين للمحتل، فقد احتكروا التجارة وسيطروا على الاقتصاد، مع أنهم لم يتمتعوا بنفس الامتيازات التي كان يتمتع بها الهولنديون، ولم يحققوا هذا النجاح الكبير إلا بالعمل والسعي الدؤوب و«بالدم والعرق والدموع» كما يقولون، فكانوا إذا ربحوا مبلغًا من المال لا ينفقون إلا عشره مثلًا، ويستخدمون بقية الأموال لتوسيع أعمالهم التجارية.

وفي عام 1960 صادقت الحكومتان الإندونيسية والصينية على معاهدة «الجنسية المزدوجة»، والتي تنص على إعطاء نحو 2.5 مليون صيني مهلة عامين للاختيار بين الجنسيتين الصينية والإندونيسية، فغادر بعضهم البلاد، وتنازل نصفهم عن جنسيته الأصلية وحصل على هويات وطنية،وتبعهم النصف الآخر بالتدريج، بعدما حُرموا من الخدمات الحكومية لبعض الوقت.

ورأى الرئيس سوهارتو (1998-1967) ضرورة أن تستفيد الأمة بأسرها من مهارات الإدارة وأخلاقيات العمل الشاق الموجودة لديهم؛ فاتبع سياسة الاستيعاب القسري، فحظر المدارس واللغة الصينية، إلا أنه في المقابل حافظ على امتيازاتهم واحتكاراتهم الاقتصادية، بطريقة لا تجعلهم يشكلون أي تحدٍ سياسي لسلطته، واعتمد عليهم في النهوض الاقتصادي الكبير -الذي لم يستفد منه الجميع بالطبع- فأحكم الصينيون قبضتهم على القطاع الخاص، برغم نسبتهم الضئيلة التي تتراوح بين 1% و 4% من إجمالي السكان.


أحداث 98: الثورة على الصينيين

وفي عام 1998 مرت البلاد بأزمة مالية خانقة، تضررت منها الطبقات الفقيرة بشكل بالغ، فعمت الاحتجاجات والفوضى، وفي يوم 14 مايو/آيار 1998 اشتعلت أعمال السلب والنهب، التي استهدفت بشكل كبير الصينيين وممتلكاتهم وقُتل المئات منهم، وتعرضت العشرات من نسائهم للاغتصاب الوحشي، في غمرة الفوضى.

ورغم الأضرار التي لحقت بهم أثناء أحداث الثورة ضد «نظام سوهارتو»، فإنها منحتهم حقوقًا وامتيازات حرمهم منها هذا النظام، فقد ألغى الرئيس «عبد الرحمن واحد» (2001-1999) القوانين التي حدت من النفوذ الصيني في بلاده، فألغى القانون رقم 10 لعام 1959، الذي يمنعهم من ممارسة تجارة التجزئة في الريف، وبذلك انفتحت أمامهم الأسواق المحلية على مصراعيها، وألغى الأمر الرئاسي رقم 14 لعام 1967 الذي يحظر الاحتفال بالأعياد الصينية، بل اصطحب بنفسه مجلس الوزراء لحضور الاحتفال ببداية السنة الصينية في فبراير/شباط 2000، لذلك أطلقوا عليه لقب «أبو الصينيين الإندونيسيين»، باعتبار أنه هو الذي منحهم حقوق المواطنة الكاملة، بل أعلن في عدة مناسبات أنه شخصيًا ينتمي لأصول صينية، دون أن يخشى المزايدة عليه وسط الأغلبية المسلمة نتيجة لهذا التصريح، لأنه كان زعيم أكبر جماعة دينية بالبلاد.

وفي عام 2003 قررت الرئيسة «ميجاواتي سوكارنو» (2004-2001)،اعتبار بداية السنة الصينية عيدًا وطنيًا لعموم البلاد، وفي 2004 عينت «ميجاواتي» أول وزيرة صينية وهي «ماري بانغيستو – Mari Pangestu»، التي تولت حقيبة الاقتصاد لمدة سبع سنوات حتى تركتها عام 2011، بعدما تسببت اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها مع بكين في اختلال الميزان التجاري لصالح الأخيرة، وإغراق إندونيسيا بالبضائع الرخيصة، وتسريح العمالة في عدد من المصانع المحلية.

لكن المحاولات الحكومية لتغيير الصورة السلبية المأخوذة عن الأقلية الصينية لم تنجح على الإطلاق، فكلمة «صيني» نفسها كلمة ذات دلالات سيئة على لسان العامة في إندونيسيا، ولا يوجد خط فاصل بين مواطني جمهورية الصين، والمواطنين الإندونيسيين من ذوي الأصول الصينية، فالاثنان يطلق عليهما مصطلح «صينيين»، حتى أن الرئيس السابق «سوسيلو بامبانغ يودهويونو» (2014-2004)، أصدر عام 2014، قرارًا بتغيير كلمة «تشينا» التي تعني «صيني» في اللغة الإندونيسية إلى «تيونغوا» وإطلاق اسم«تيونغكوك» على جمهورية الصين، كمحاولة منه لتغيير المشاعر السلبية المرتبطة بالكلمتين.

ورغم التحسن الكبير الذي شهدته العلاقات الثنائية بين البلدين، فإن ظلالًا من الحذر والشكوك تكتنف تلك العلاقات بسبب عدد من الملفات، أبرزها الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية حول جزر «ناتونا» في بحر الصين الجنوبي، واستخدام بكين نفوذها السياسي للتأثير على الأقليات، والعلاقات التجارية غير المتوازنة، التي حولت إندونيسيا إلى مُورد للمواد الخام إلى الصين، وسوقًا مفتوحة لمنتجاتها المصنعة، وهي علاقة كلاسيكية على النمط الاستعماري.

وينظر عدد من علماء الدين وقادة الجيش بارتياب وحذر شديدين، إزاء ما يرونه من ارتماء بلادهم في أحضان الصين، وما يترتب على ذلك -في اعتقادهم- من عواقب وخيمة في المستقبل القريب.

وقد تداولت وسائل التواصل الاجتماعي خطابًا لقائد الجيش الإندونيسي الجنرال «جاتوتنور مانتيو»، ألقاه أثناء الاحتفال بالمولد النبوي أواخر العام الماضي، يُحذر فيه من تزايد النفوذ الصيني في بلاده، وخطورة ذلك على الأمن القومي، لكن المتحدث الرسمي للقوات المسلحة خرج بعدها ببيان ينفي فيه الواقعة جملةً وتفصيلًا، ويذكر فيه أن قائد الجيش لم يكن حاضرًا أصلا في هذا الاحتفال.

لكن فيديو تم نشره على مواقع الإنترنت يُظهر قائد الجيش، وهو يتحدث إلى مجموعة من طلبة الجامعة، ويحذر من أن نقص الغذاء في الصين قد يدفع بالملايين من مواطنيها للهجرة إلى دول جنوب شرق آسيا، قائلًا إن وزير الدفاع الماليزي أبلغه خوفه الشديد من هذا السيناريو لأنه لن يتمكن حين ذلك من وقفهم، فقال الجنرال الإندونيسي: «قلت له إنني لست خائفًا، وإذا جاءوا إلينا، فسيأتون عن طريق البحر، وبمجرد عبورهم للمحيط، سأذبح 10 أبقار في وسط المحيط، وسوف يتجمع سمك القرش بالتأكيد، بعد ذلك سأطلق النار، باستخدام أسلحة خفيفة حتى يتسرب الماء لقواربهم، لتلتهمهم أسماك القرش».


أزمة جدار البحر العملاق

منذ اندلعت أحداث العنف 1998 والأقلية الصينية تحظى بالكثير من الحقوق، التي تساويهم بالمواطنين الأصليين للبلاد، في محاولة لدمجهم في النسيج المجتمعي
إندونيسيا
جاكرتا – عاصمة إندونسيا

منذ توليه مهام منصبه في عام 2014، يحاول محافظ جاكرتا المسيحي، «باسوكي بورناما» الشهيربـ «آهوك»، الذي ينحدر من أصول صينية، بناء مشروع سكني ضخم في العاصمة، عبارة عن إنشاء 17 جزيرة صناعية صغيرة قبالة الساحل، تحت اسم «جدار البحر العملاق»، بحجة إنقاذ المدينة من الغرق؛ إذ إن الأرض تنخفض بمعدل 25 سم سنويًا، وهو معدل أعلى من أي مدينة في العالم، بسبب اعتماد السكان على استخراج مياه الشرب من طبقات المياه الجوفية، لكن «آهوك» لجأ لفكرة بناء حاجز البحر العملاق الذي تصل تكلفته إلى 40 مليار دولار،بدلًا من بناء مشروع لتوفير مياه الشرب للمناطق المحرومة في العاصمة، مما أثار انتقادات واسعة ضده؛ إذ ينظر البعض إلى المشروع باعتباره جزءاً من مخطط يهدف لترسيخ الوجود الصيني بالعاصمة، من خلال جلب عشرات الآلاف من الصينيين، إذ إن المباني السكنية المقرر بناؤها ضمن المشروع يتم تسويقها بين الصينيين المقيمين في سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ والبر الرئيسي للصين، كما أن جميع القائمين على المشروع تقريبا من الصينيين، في حين أن أغلبية المتضررين هم من السكان الأصليين، لذا يواجه المشروع اعتراضات ضخمة من المجتمع المحلي والهيئات الحكومية والتشريعية، بسبب كم التجاوزات والمخالفات المقترنة بذلك المشروع.

وبرغم التلميع الإعلامي لشخصية «آهوك» باعتباره نموذجًا مشرفًا للشخصية الصينية الناجحة الجادة في العمل، فإن الكثيرين لديهم رأي آخر عنه، بسبب تهجيره لسكان العشوائيات من المسلمين الفقراء،وإجبارهم على إخلاء مساكنهم في «جاكرتا»، ونقلهم لمناطق سكنية بعيدة، في إطار خطته لتطوير المدينة، الأمر الذي ينظر إليه من قبل البعض على أنه تفريغ للعاصمة من السكان الأصليين لتعزيز الوجود الصيني بها في المقابل.

خسارة آهوك لانتخابات بلدية جاكرتا الفائتة أفسدت الفرصة لتولي رجل من أصل صيني لرئاسة البلاد الغارقة في شراك الصينيين

وما زاد الطين بلة بالنسبة لآهوك هو تعليقه السلبي على آية كريمة في سورة المائدة، حيث أبدى استياءه من الاهتداء بالقرآن في الحياة السياسية، وذلك في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو ما أشعل عاصفة ضخمة من الاحتجاجات والتظاهرات أمام القصر الرئاسي، تزعمتها حركة «الدفاع عن الإسلام» بقيادة الشيخ «الحبيب رزق شهاب»، خضع بعدها «آهوك» للتحقيق، وهبطت شعبيته بشكل كبير، بل سرت شائعات عن محاولات للإطاحة بالرئيس «جوكو ويدودو»، الذي نزل بنفسه إلى المحتجين وحاول تهدئتهم.

وجاءت هزيمة آهوك في 19 أبريل/نيسان الماضي في انتخابات بلدية «جاكرتا» لتكبح طموحاته السياسية، إذ كان يعتبر نجاحه في المحافظة على منصب حاكم العاصمة مقدمة لوصوله لرئاسة البلاد، مثل ما فعل صديقه الرئيس «ويدودو» في 2014، لكن أغلبية الناخبين تكتلوا خلف المرشح المسلم، عربي الأصل، «أنيس باسويدان»، بعدما شهدت الحملات الانتخابية استقطابًا دينيًا وعرقيًا لافتًا، وتم إيداع «آهوك» السجن بعد هزيمته. إذ قررت المحكمة حبسه بالتهم السابقة.

وشهدت الانتخابات انقسامًا بين أبناء الطائفة الصينية، فكان بعضهم يرى أن نجاح آهوك -حال حدوثه- نجاح للطائفة الصينية، بينما كان البعض الآخر يخشى من أنه قد يعزز من مشاعر الكراهية والإحساس بالظلم بين السكان الأصليين، الذين يرون في نجاحه اختطافًا للقرار السياسي في بلادهم، لاسيما بعد تصريحاته المتكررة التي أعلن فيها أنه يطمح في الوصول إلى قصر الرئاسة في انتخابات 2019، ليصبح حينها أول مواطن من أصول صينية يحكم إندونيسيا.