كعادتها تضرب الصين مثالًا فريدًا في كل شيء؛ فالنموذج التوسعي الصيني يعد نموذجًا مختلفًا وهو جدير بالتتبع والملاحظة، استطاعت بواسطته الصين مد خط حدودها لمئات الأميال، وضم مساحات تقع ضمن حدود جيرانها، بمنتهى البراءة والبراعة والهدوء، ودون دفع الضريبة العسكرية المعتادة في مثل هذه الحالات، إذ إن التوسع على الطريقة الصينية، يختلف تمام الاختلاف عن الاستعمار الغربي الكلاسيكي الذي يعتمد المواجهات الحربية وسيلة له.

وقد أطلق المفكر الهندي، براهما تشيلاني، اسم «استراتيجية تقطيع شرائح السجق – salami-slicing strategy»؛ على الطريقة الصينية في التوسع، والتي تتلخص في أسلوب الزحف بخطوات صغيرة وبطيئة، لا تشكل أي منها بمفردها، استفزازًا كبيرًا ومبررًا كافيًا لنشوب حرب، إلا أنها تؤدي بتراكمها مع مرور الوقت إلى تحول استراتيجي كبير لصالحها، كما حدث في نزاعها الحدودي مع الهند في الهيمالايا، حيث احتل الرعاة الصينيون أماكن الرعاة الهنود رويدًا رويدًا حتى صنعوا واقعًا جديدًا وتدخلت القوات العسكرية بعد ذلك للحفاظ عليه وتثبيته، بصفته حقًا مكتسبًا للصين!

ويشبه تشيلاني هذا الأسلوب بمن يقطّع السجق إلى شرائح رقيقة للغاية، وميزة هذه السياسة التوسعية أنها لا تمثل في أي مرحلة من مراحلها تحديًا كبيرًا للخصم بشكل يجعله مستعدًا للمغامرة بالدخول في حرب غير مضمونة النتائج لاسيما مع دولة بحجم الصين.


الأرض لا تسعنا

وصول سفينتين تمثلان البحرية الصينية إلي ميناء بيرل هاربور في زيارة روتينية في 6 سبتمبر/أيلول 2006

كلما تضخمت القوة الاقتصادية الصينية زاد شعورها بأن حدودها القديمة لم تعد تتسع لحجمها الدولي المتعاظم يومًا بعد يوم، وزادت شهيتها للتوسع جغرافيًا، ولكن بطريقتها الخاصة، المستقاة من التعاليم القديمةلـ «كونفوشيوس» و«صن تزو»، التي تشدد على ضرورة كسب الحرب من دون خوضها، وهو ما تطبقه السياسة الخارجية الصينية اليوم حرفيًا.

فدائمًا ما يراهن الساسة الصينيون على عامل الزمن، بدلًا من أسلوب الحسم والمواجهة، فالنزاع مع تايوان الذي يرجع إلى أربعينات القرن الماضي لم تخض الصين في سبيل حله أي مواجهة عسكرية، وبدلًا من ذلك استمرت في اتباع سياسة الاحتواء والتطويق، وكسب الوقت بمحاولة تغيير ميزان القوة ليكون أكثر ميلًا لصالحها، حتى أن مؤسسة راند البحثية الأمريكية أكدت في دراسة لها في 2009، أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على الدفاع عن تايوان بحلول عام 2020.

وكانت الولايات المتحدة أعلنت في عام 2009 عن خطة لتقليل وجودها العسكري في المنطقة العربية للتفرغ لمواجهة نفوذ الصين في الشرق، والذي تضعه على رأس أولوياتها، ورغم ذلك لم يزدد نفوذ الصين بمرور الوقت إلا قوة وانتشارًا.

فقد توسع نطاق التطلعات الصينية في بحر الصين الجنوبي لاسيما في جزر باراسيل القريبة من فيتنام، وجزر سكاربره المجاورة للفلبين، ومياه جزر ناتونا الإندونيسية، وجزر سبراتلي التي تطالب كل من ماليزيا والفلبين وتايوان وبروناي وفيتنام بحقوقها فيها؛ باعتبار أن القانون الدولي ينص على أن المياه الإقليمية لكل دولة تبلغ 12 ميلًا بحريًا أي حوالي 22 كم مربعا، إلا أن الصين تدعي ملكية تلك المساحة التي تدخل أجزاء منها في المياه الإقليمية لبعض الدول وتبعد عن السواحل الصينية بمسافات شاسعة، و يؤكد الصينيون على أن كامل تلك المناطق هي من صميم حدود الصين، برغم أن من ينظر إلى خريطة المنطقة يصعب عليه فهم كيف يثور نزاع حدودي بين الصين وإندونيسيا مثلًا!

وتبلغ الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي أضعاف أهمية قناة السويس؛ ليس بسبب الجزر التي هي مجرد نتوءات صخرية صغيرة مهجورة، وبعضها عبارة فقط عن شعاب مرجانية، لكن بسبب الموقع الحيوي؛ حيث تمر به أكثر من نصف تجارة العالم البحرية، واحتوائه على مخزون ضخم من البترول والغاز، إلى جانب غناه بمصايد الأسماك. ومنذ عام 2015 عززت الصين من سيطرتها على الجزر، وردمت أجزاءً من المياه وشيدت جزرًا صناعية وأقامت قواعد عسكرية، وأغلقت المنطقة ومنعت السفن الأجنبية من المرور.

وفي المقابل استطاعت الفلبين انتزاع حكم من المحكمة الدولية في لاهاي، في الثاني عشر من يوليو/تموز الماضي، بأحقيتها في المناطق المتنازع عليها، وبطلان مزاعم الصين، إلا أن الأخيرة أصدرت بيانًا رسميًا تهون فيه من شأن الحكم والمحكمة وتؤكد عدم اعترافها بهذا الحكم اللاغي من وجهة نظرها.

ثم حدث تحول قلب ميزان القوى في المنطقة، على يد رودريجو دوتيرتي،الرئيس الفلبيني الحالي، الذي اجتمع بالأربعة رؤساء السابقين لبلاده وأعاد دراسة موازين القوى في المنطقة ليخرج في النهاية بنتيجة مؤلمة لحلفائه، وهي أن تكلفة استرضاء الصين مهما كان ثمنها أقل من تكلفة الصدام معها، فأعلن أن السياسة الخارجية لمانيلا لن تتبع رغبات واشنطن، على الرغم من التحالف الدفاعي الذي أبرمه سلفه بنيغنو آكينو مع الولايات المتحدة، وأعلن دوتيرتي أنه يرغب في العمل مع روسيا والصين، مؤكدًا إلغاء التدريبات العسكرية المشتركة مع الأمريكان تجنبًا لإغضاب الصين، وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي أبرم عدة اتفاقات مع بكين في مقابل حزمة مساعدات بقيمة 24 مليار دولار،وأعلن أن الفلبين ستقف مع الصين وروسيا في مواجهة العالم.

لكن دوتيرتي لم يتخل عن مطالباته الحدودية، بل سلك سبيلًا آخر للحصول عليها، لذا حاول استدراك موقفه – إذ إن الارتماء التام في أحضان الصين له عواقبه أيضًا – وبيّن أنه لن يقطع علاقاته بالولايات المتحدة تمامًا وإنما سيخالفها في السياسة الخارجية فقط، مؤكدًا على أهمية الحفاظ على علاقة اقتصادية قوية مع أمريكا، إذ لايزال يرغب في تمتع بلاده بالحماية الأمريكية، لكن دون رهن مستقبلها في مقابل ذلك بالسياسات الأمريكية لاحتواء الصين.


أمريكا غير مستعدة لحماية دولة صغيرة!

البحرية الصينية، البحرية الأمريكية، ميناء بيرل هاربر، هاواي، العلاقات الأمريكية الصينية
البحرية الصينية، البحرية الأمريكية، ميناء بيرل هاربر، هاواي، العلاقات الأمريكية الصينية

ويبدو أن خطوات دوتيرتي شجعت رئيس الوزراء الماليزي، نجيب عبد الرزاق،على اختيار نفس النهج ولو كان بحماس أقل، فخلال زيارته إلى بكين والتي اختتمها في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أسبوعين فقط من زيارة دوتيرتي، وقّع عبد الرزاق 14 اتفاقية اقتصادية قيمتها 34.250 مليار دولار، معلنًا من هناك عن بدء «قرن آسيوي جديد»، وفي المقال الافتتاحي الذي كتبه نجيب في صحيفة «تشاينا ديلي» الصينية، انتقد التدخلات الغربية في المنطقة مشيرًا إلى تبنيه وجهة النظر التي تنادي بحل النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي عن طريق الحوار، وهو نفس ما تنادي به الصين.

ويبدو أن ثقة حلفاء واشنطن في شرق آسيا ضعفت بسبب تشككهم في استعدادها وقدرتها على حمايتهم، إذ إن من الصعب تصور أن الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بالعلاقات المهمة مع الصين، أكبر شريك تجاري لها والتي تملك قرابة 1.2 تريليون دولار في سندات الخزانة الامريكية، في سبيل دعم حلفاء ثانويين، فلا يُتوقع أن تفجر الولايات المتحدة حربًا مع الصين للدفاع عن دولة آسيوية صغيرة، فضلًا عن مسائل أقل من ذلك كالمطالبات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي.

وتمتد المطالبات التوسعية الصينية لتشمل بحر الصين الشرقي، حيث تتنازع مع اليابان على جزر سينكاكو، وكادت تنشب مواجهات جوية بين طائرات البلدين أكثر من مرة بسبب الجزر، وشيد الصينيون منصات لاستكشاف النفط والغاز في المياه المتنازع عليها، مما استفز اليابان، وأثار مخاوفها من امتداد عمليات الحفر الصينية إلى المخزون النفطي الياباني ودفعها للتنسيق الدبلوماسي والعسكري مع فيتنام والفلبين، ودعم جيشيهما بأحدث الأسلحة في مواجهة الخطر المشترك، ودعم قضية الإيغور المسلمين الذين يطالبون بالانفصال عن الصين.

ويقول خبراء العلاقات الدولية إن السلوك المعتاد من القوى الإقليمية الكبيرة الحجم، أنها تشترك عادة في خلق توازن ضد هيمنة القوة الإقليمية الصاعدة كالصين في حالتنا هذه، إلا أن هذا الخيار لا يناسب البلدان الصغيرة نسبيًا كالفلبين وماليزيا، فقد يكون هذا الخيار أكثر تعقيدا وصعوبة.

وعلى هذا فينتظر من الهند واليابان الاستمرار في نهجهما المناوئ لبكين بسبب أنهما من البلدان الكبيرة، وكذلك تايوان وفيتنام ولكن لأسباب أخرى؛ بسبب قربهما الشديد من بر الصين، فإن تاريخ نزاعهما مع التنين الصيني قد يشير إلى أن التقارب معه قد يتسبب في ابتلاعه لهما تمامًا.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن الأكثر إثارة هو التقارير التي تتحدث عن الخطط الصينية لالتهام ثلث جسد الدب الروسي، أكبر حليف لبكين، ولكن بأسلوبها الخاص، فالعمال الصينيون يتدفقون بغزارة على مناطق الشرق الروسي الفقيرة بالسكان؛ حيث تجري عملية التغيير الديموغرافي على قدم وساق بمحاولة تذويب السبعة ملايين روسي القاطنين بالمنطقة، وسط أمواج الهجرة الصينية التي بلغت وفق أحد التقديرات قرابة المليون مهاجر سنويا، وحتى وإن وُصف التقدير السابق بالمبالغة رغم صدوره من مسئول رسمي في روسيا، إلا أنه يعكس ضخامة الأعداد على أي حال، والأدهى أن الصين تشجع الهجرة العكسية في تلك المنطقة إلى الداخل الصيني للإسراع بإفراغها من الروس.

وحتى لما أقرت الحكومة الفيدرالية الروسية في عام 2014 قانونًا يشجع مواطنيها على الهجرة إلى الشرق ويتيح لهم تملك الأراضي هناك، لمعادلة تأثير الوافدين الصينيين، ازدادت الهجرة الصينية بعد هذا القانون إذ إن مالكي الأراضي، سواء القدامى منهم أو الجدد يعتمدون بالأساس على العمالة الصينية الرخيصة.

ويرى الصينيون أن لهم الحق في التوسع بتلك المنطقة التي كان جزء منها ضمن الإمبراطورية الصينية القديمة، وانتزعتها روسيا منها في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، وذلك أثناء حكم سلالة تشينغ، خلال ما يسمى في الصين بـ«قرن الإذلال».

وتتبنى الصين الحديثة نظرية استعادة حدود الصين التاريخية، والتي تعني استرداد أي شبر سبق وأن حكمته بلادهم قبل تعرضها للغزوات الاستعمارية في القرن قبل الماضي، مما يعني أيضًا وجود جمهورية منغوليا ضمن نطاق التوسع الصيني، باعتبارها كانت تابعة للحكم الصيني في عهد تشينغ منذ عام 1680 وحتى استقلالها في عام 1911، ولذلك يحرص المنغوليون على تنويع الاستثمارات الأجنبية ببلادهم بدلا من الشركات الصينية، للحد من نفوذ بكين.

Empire of the great qing، خريطة، الصين
Empire of the great qing، خريطة، الصين

وتظهر الخريطة السابقة حدود الدولة الصينية في عهد أسرة تشينغ، والتي يظهر فيها أيضًا، شرق كازاخستان وقيرغيزيا ضمن التراب الصيني، وهو ما كان يتم تدريسه لطلاب المدارس الثانوية الصينية لفترة على أنها الخريطة الحقيقية لوطنهم، كما تدعي بكين أيضًا أحقيتها في أجزاء كبيرة من أراضي طاجيكستان، وقد تنازلت السلطات الطاجيكية بالفعل عن جزء منها في معاهدة ترسيم الحدود التي تم التصديق عليها مطلع عام 2011 في مقابل إلغاء بعض ديونها، فيما تزال معظم المنطقة المتنازع عليها في انتظار عروض بإعفاءات مالية جديدة على ما يبدو، في ظل تزايد حجم الديون المستحقة للصين مع تنامي استثماراتها هناك.

وطبقًا لنظرية راتزل،التي تنظر إلى الدولة ككائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، والذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه، فإن الحدود الصينية قد تتمدد في الاتجاهات الأربع خلال السنوات القادمة، فعندما تتغير موازين القوى يبدأ الناس في إعادة رسم الحدود، والتي لا تشمل الحدود الفعلية فقط، بل أيضًا حدود مناطق النفوذ أو ما يسمى في علم الجغرافيا السياسية بـ«الحدود الشفافة»؛ إذ من المتوقع أن يشهد القرن الحالي صعود العملاق الصيني الذي لم يعد يقنع بنفوذه الاقتصادي فقط، وإنما تزداد تطلعاته باستمرار للمزيد من النفوذ السياسي بما يتوازى مع تلك المكانة المتعاظمة حول العالم.

المراجع
  1. The Revenge of Geography: What the Map Tells Us About Coming Conflicts and the Battle Against Fate, by Robert D. Kaplan