ربما بات من الغائب عن أذهان كثيرين في اللحظة الراهنة بسبب تصدر الحركات الإسلامية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، أن المسيحيين كان لهم دورهم كذلك في مقاومة الاحتلال، الذي بالمناسبة لم يكن دورًا ثانويًا، بل كان في عديد من الفترات دورًا قياديًا حمل راية المبادرة.

وسيكون من العبث لو أطلنا الحديث عن الأسباب التي دفعت إلى مقاومة المسيحيين للمحتل الإسرائيلي، فالعصابات الصهيونية التي قتلت وشردت مئات الآلاف خلال نكبة 1948، لم تكن تفرق بين من يصلي في المسجد أيام الجُمع، ومن يحضر القداس في الكنيسة أيام الآحاد، لقد كان الشعب الفلسطيني بأجمله هو المستهدف بكل المذابح والجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الأعزل، التي لا تزال تُرتكب بأبشع الصور الممكنة حتى ساعة كتابة تلك الكلمات.

كما أنه لم تقتصر المقاومة المسيحية ضد الاحتلال على من يُطلق عليهم وفق التعبير المسيحي «العلمانيين» فقط، أي مَن لا ينتمون إلى طائفة الكهنوت، بل كان هنالك كثير من رجال الدين أيضًا، ومن أعلى المناصب الكهنوتية، الذين ناضلوا بكل ما كان في وسعهم ضد مَن اغتصبوا أراضيهم وأذاقوهم من الذل ألوان.

البداية: صحيفة «الكرمل»

لم تبدأ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، السنة التي أُعلن فيها رسميًا قيام دولة الاحتلال المزعومة، حيث كان المخطط الغربي لاتخاذ فلسطين وطنًا بديلًا لليهود المشتتين في أصقاع الأرض أقدم من ذلك بكثير، وقد فطن مثقفو الشعب الفلسطيني لتلك الخطة الإجرامية مبكرًا جدًا، خصوصًا مع تزايد هجرات اليهود من جميع أنحاء العالم إلى الأراضي الفلسطينية في ظل الاحتلال البريطاني لفلسطين واتضاح معالم الأجندة الغربية الصهيونية.

فكانت صحيفة «الكرمل» التي أسسها الصحفي والأديب الفلسطيني المسيحي «نجيب نصار» عام 1908، من بين أوائل الصحف الفلسطينية التي اهتمت بشكل أساسي بالتحذير من المخطط الصهيوني لاحتلال فلسطين، وفضح الممارسات الصهيونية في أعدادها الأسبوعية، تلك الصحيفة التي أسهمت في تحريرها زوجة «نصار» السيدة «ساذج نصار»، وقد أصبحت لاحقًا أول امرأة فلسطينية تعتقل بسبب نشاطها السياسي في عهد الاحتلال البريطاني، بعد أن عاشت وراء قضبان الاحتلال لمدة عام بتهمة إمدادها الثوار بالسلاح.

وعلى خطى «نصار» أسس الصحفي الفلسطيني المسيحي «عيسى العيسى» صحيفة «فلسطين» عام 1911، التي اهتمت أيضًا بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وكان «العيسى» من بين مؤسسي الحركة الوطنية الفلسطينية، وقد كانت أول حركة فلسطينية معاصرة معنية بالدفاع عن قضايا الفلسطينيين، كما كان للمسيحيين دور مركزي في تأسيس المجلس الإسلامي المسيحي، الذي تطور لاحقًا ليصبح ما عُرف بالبرلمان الفلسطيني وعقدت أولى جلساته عام 1919.

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

كانت نكسة عام 1967 لحظة فارقة في تاريخ حركات المقاومة الفلسطينية، التي أسفرت عن سقوط آخر ما تبقى من فلسطين إضافة للجولان السورية وسيناء المصرية، حيث شهد منتصف ستينيات القرن الماضي تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية» على يد «أحمد الشقيري» وحظيت بدعم معظم الأنظمة العربية، التي وقف على مسافة منها «جورج حبش» حيث كان لا يؤمن بقدرتها على تحقيق أهدافها.

«جورج حبش» هو أحد مؤسسي «حركة القوميين العرب» التي أعلن عن قيامها عام 1951، وهي حركة يسارية قومية عروبية، تلخصت أهدافها في التخلص من الاستعمار الغربي واسترداد فلسطين المحتلة عبر الوحدة العربية، ولكن الحركة لم تدم طويلًا بسبب خلافات سياسية بين الأنظمة العربية يطول الحديث عنها.

وبرغم عدم اقتناع «حبش» بشكل كامل بقدرات «منظمة التحرير الفلسطينية»، وضع تلك الخلافات جانبيًا بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وقرر إنشاء «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» كجزء من «منظمة التحرير الفلسطينية»، برفقة رفيق دربه المسيحي «وديع حداد»، وعدد من قيادات المقاومة، وقد ظل «جورج حبش» الأمين العام للجبهة منذ تأسيسها وحتى تنحيه عن المنصب عام 2000.

وقد كانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بمثابة الجناح العسكري لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث تأثرت بالتجارب الثورية المسلحة العالمية كالتجربة الفيتنامية والتجربة الكوبية، وتركز نشاطها على العمل المسلح الشعبي ضد المحتل الصهيوني كخيار أخير بعد هزيمة الأنظمة العربية في نكسة يونيو/حزيران المشؤومة.

كما كان الكاتب والمفكر المسيحي «نايف الحواتمة» أحد المؤسسين الرئيسيين «للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، إلا أنه انشق عنها لاحقًا عام 1969، مؤسسًا «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، الذي لا يزال يشغل منصب أمينها العام حتى الآن، وقد ترك «الحواتمة» عشرات الكتب والأبحاث التي تدور جميعها حول القضية الفلسطينية ومأساة الشعب الفلسطيني.

المسيح أول الثوار

ربما يعود الجزء الأكثر إثارة من قصتنا إلى دور رجال الدين المسيحيين في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فغالبًا ما عرف عن الكهنة المسيحيين الزهد والترفع عن الحياة السياسية والاجتماعية العامة، أو هكذا أحبوا أن يصوروا أنفسهم أمام الرأي العام، ولكن تلك الصورة النمطية عن رجال الدين المسيحيين لم تمنعهم من مناصرة قضيتهم الوطنية في مقاومة الظلم والقهر وتحرير أراضيهم من الاحتلال.

يأتي في مقدمة قائمة رجال الدين المناضلين الأب «إبراهيم جبر عياد» الكاهن بالكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، الذي لم يتوانَ في خدمة القضية الفلسطينية، فكانت بصمته على مقاومة الاحتلال كبيرة، فقد بدأ نضاله بكتابة المقالات المناهضة للصهيونية في مجلة «رقيب صهيون» التابعة للبطريركية اللاتينية في القدس، حتى عُيّن رئيس تحرير لها عام 1933، فحولها إلى منبر لفضح المخططات الغربية والصهيونية.

ولم تقتصر إسهاماته النضالية على الكتابة فقط، فقد كان للأب «عياد» دور رئيسي في شراء أراضي منطقة تياسير الواقعة شمال شرقي جنين، استجابة لطلب مفتي فلسطين «أمين الحسيني»، حتى لا تقع في أيدي اليهود الذين كانوا يسعون لشرائها، فقد شجع «عياد» البطريركية اللاتينية على شراء الأرض بمبلغ 7  آلاف جنيه استرليني، الذي كان ثمنًا باهظًا خلال ثلاثينيات القرن الماضي.

واستمرت سيرته النضالية حتى وقع عليه الاختيار ليكون مستشار «منظمة التحرير الفلسطينية» للعلاقات مع الفاتيكان عام 1973، وقد أسهم بقوة في تبني الفاتيكان نهجًا مناصرًا للشعب الفلسطيني لاتصالاته النافذة مع كبار المسؤولين في الفاتيكان.

وفي العام الذي تلاه سافر إلى تونس ليكون المفوض الفلسطيني العام لدول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وقد أقام عديدًا من المحافل الدولية لتعريف شعوب العالم بالقضية الفلسطينية وكسب مزيد من الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي تلك السنة بالذات، عام 1974، انتزعت «منظمة التحرير الفلسطينية» اعترافًا رسميًا بها من قرابة 140 دولة عضوًا في الأمم المتحدة.

أما بطل قصتنا الثانية من سير الكهنة المناضلين هو الأب «هيلاريون كابوتشي» أو «جورج» وهو اسمه الأصلي قبل أن يختار أن يسمي نفسه «هيلاريون» تيمنًا بالناسك الذي عاش بغزة خلال القرون المسيحية الأولى، الذي يعد من بين أشهر من ناضلوا من رجال الدين المسيحيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يكن فقط مقاومًا بالكلمة، بل بالسلاح أيضًا!

حيث يروي في مذكراته أنه عقب سقوط القدس الشرقية عام 1967 بثلاثة أيام، بصق عليه جندي إسرائيلي عندما كان يمر بأحد شوارع القدس، وهو مطرانها عن كنيسة الروم الكاثوليك منذ عام 1965، فضرب الأب «هيلاريون» الجندي بعصاه، ووصف انطباعه عن تلك الواقعة قائلًا: «اقتنعت أن هؤلاء الغزاة لا ينفع معهم إلا السوط، ولا بد من العنف لكسر شوكتهم وشراستهم».

عاش الأب «هيلاريون» داخل القدس المحتلة، لكنه رفض بشكل تام كافة أشكال التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، حتى إنه كان يغيب دومًا عن المناسبات والفعاليات البروتوكولية لوجود الاحتلال الإسرائيلي طرفًا فيها، وبالطبع لم يكتفِ الأب المناضل، صاحب مقولة: «المسيح هو الفدائي الأول»، بالمقاومة عن طريق المقاطعات والمناوشات، حيث كانت له مساهمات حاسمة في النضال المسلح.

فقد استغل الأب «هيلاريون» منصبه كمطران للقدس وما يسمح به من نفوذ لمساعدة رجال المقاومة الفلسطينية، كان ذلك من خلال التعاون مع حركة فتح لإدخال الأسلحة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عن طريق سيارته الخاصة، قبل أن تتمكن قوات الاحتلال الإسرائيلي من كشف تعاونه مع المقاومة عام 1974، فاعتقل وحكم عليه بالسجن لمدة 12  عامًا قضى منها 3  سنوات و3 أشهر فقط في الأسر، وأُفرج عنه بعد تدخل من بابا الفاتيكان وانخراطه في مفاوضات مع سلطات الاحتلال استمرت شهورًا، فأُطلق سراحه عام 1977 ولكن بشرط مغادرة فلسطين إلى الأبد.

ورغم مغادرته للأرض التي ناضل من أجلها رغمًا عنه، ظل قلبه متعلقًا بها حتى يوم مماته، فقد استمر الأب «هيلاريون» في فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي مستغلًا علاقته بالفاتيكان، كما شارك في الحملات المطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة عام 2009، وكان حاضرًا بنفسه على متن سفينة مرمرة التركية التي اتجهت إلى قطاع غزة لكسر الحصار عنه عام 2010، وهاجمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي آنذاك.

اقرأ أيضًا: هيلاريون كابوتشي: شهيد القدس وبطل القضية الفلسطينية

والحقيقة أنه لو أردنا الحديث عن تاريخ مفصل لدور المسيحيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لن يكفينا مئات وربما آلاف الصفحات، فالقصة قديمة قدم الاحتلال الغاشم، والتضحيات كبيرة بحجم السعي نحو الحرية والاستقلال والكرامة، فبخلاف المذكورين يمكننا أيضًا ذكر أسماء العديد من رجال الدين المسيحيين الذين كانت لهم مواقف قوية ضد الاحتلال الإسرائلي، فعلى سبيل المثال وليس الحصر الأب «ميشيل صباح» والأب «إيمانويل مسلَّم» والأب «أنطونيوس حنانيا» والبطريرك «ثيوفيلوس الثالث»، وغيرهم العشرات.

وربما يكون آخر الوجوه المسيحية المعروفة بالنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي يعود للصحفية الشهيدة «شيرين أبو عاقلة» التي استشهدت برصاص الاحتلال الإسرائيلي وهي تؤدي عملها الصحفي ودروها في فضح جرائم الاحتلال ضد المدنيين من الشعب الفلسطيني، ولم تشعر سلطات الاحتلال بالرضا الكافي من قتلها، فهاجمت جثمانها وهو في طريقه إلى مثواه الأخير، ومن دافع عنها وهي ميتة كان أبناء وطنها من المسلمين، كما دافعت عنهم وهي حية.

وأظن أنه سيكون أنسب ما نختتم به رحلتنا السريعة في تاريخ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ودور المسيحيين فيها، ما قالته «شيرين أبو عاقلة»، وظل يتردد صداه بعد رحيلها، ليكون بمثابة شعار جامع للنضال من أجل الكرامة، ومن أجل الحرية:

بدها طول نَفس، خلي المعنويات عالية