دائمًا ما تثير مسألة إفساد السينما للذوق العام جدلاً واسعًا، ودائمًا ما تبرز هذه المشكلة بعد منع عرض أحد الأفلام المثيرة للجدل، أو رفع أحد المحامين دعوى قضائية بشأن فيلم تم عرضه تسبّب في خدش الحياء، أو انتهاك الآداب العامة، أو ازدراء الأديان، أو إهانة رموز وطنية، وغيرها من المصطلحات المطاطة التي تم صياغتها منذ زمن لخدمة أغراض سياسية، ثم بدأت تنتقل إلى عامة الجمهور تحت مسمى الدعوة إلى صناعة «سينما نظيفة»، فأصبحت شعارات رنانة يرددها البعض من فئة المحافظين من المحامين، والإعلاميين، والمثقفين، وأصبحت تستخدم من قبل بعض النخب بدون مبرر، أو للمزايدة على الغير وإبراز بطولاتهم، والتأكيد على حبهم للوطن ودورهم كحراس للقيم والأخلاق المجتمعية.

وتستهدف السينما المصرية الجمهور المصري والعربي من حيث النطاق الجغرافي، أما فيما يتعلق بفئات الجمهور، فهي تخاطب فئة الشباب من بين الشرائح العمرية المختلفة، وتركز اهتمامها بصفة خاصة على شرائح الحرفيين، والعمال، والبسطاء الذين يقبلون على مشاهدة الأفلام، وبخاصة في مواسم الأعياد والعطلات الرسمية، ويستقيم ذلك مع الهدف التجاري الربحي لهذه الأفلام الذي يمثل الدافع الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، في صناعة أغلب الأعمال السينمائية المصرية.

أحجية الفيلم الناجح

يعتبر الجمع بين عنصري الترفيه، والموضوعية، أحد مقومات الفيلم الناجح، فعلى مستوى صراع الأفلام بين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، استطاعت السينما الأمريكية أن تجذب المزاج الجماهيري العالمي بسبب عدم إغفالها عنصر الترفيه، في الوقت الذي سخّرت فيه السلطات الحاكمة لنظام شمولي مثل «الاتحاد السوفييتي» ترسانتها من وسائل الدعاية، والأسلحة التثقيفية، لجذب الجمهور إليها، ولكنها لم تستطع التغلب على رغبات الجمهور الذي يهتم بالترفيه، ولا ينظر إلى الأفلام الجادة التي تقدمها السينما السوفييتية والتي وصلت لأوج مجدها في الستينيات. [1]

ولذلك فالفيلم الجيد هو الذي يحترم العقول لا يلغيها أو يغيِّبها، مع الأخذ في الاعتبار عنصر الترفيه، وتتعدد أدوار ومسئوليات السينما تجاه المجتمع، فإمّا تتحيز للجمهور والمواطنين وتقوم بكشف وتعرية الواقع، فيصبح دورها تنويريًا إصلاحيًا، أو أن تُستخدَم كأداة للإلهاء أو التضليل، فيصبح دورها هدّامًا تجهيليًا.

بين التنوير ورغبات الجمهور

كان المخرج السينمائي الراحل «حسن الإمام»، والذي قام بإخراج عدد كبير من الأفلام الشعبية التي حققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا وانتشارًا واسعًا، يسخر من رأي النقاد السينمائيين الذين ينتقدون أفلامه أو يلومون عليه، ويرد عليهم بمقولة: «الجمهور عاوز كده»، التي صار يُضرب بها المثل في الأوساط السينمائية، ويتداولها الآن العديد من صنّاع السينما أصحاب الأفلام الرديئة.

وبعد رحيل المخرج «حسن الإمام» رأى النقاد أنه كان يتمتع بموهبة خاصة، ولكنه قرر أن تظل كامنة، ولم تظهر بطريقة واضحة لعامة الجمهور في أفلامه، ولكن من الممكن أن نلمس ملامحها في بعض أعماله، وقد كان في إمكانه أن يصنع أفلامًا أكثر نضجًا ورقيًا من النواحي الفكرية في حالة أنه لم يرضخ لرغبات الجمهور. (2)

ومن الملاحظ عند متابعة أفلام المخرج «خيري بشارة» الذي أخرج العديد من الأعمال الناضجة فنيًا وفكريًا، مثل فيلم «الأقدار الدامية» عام 1980، و«العوامة 70» عام 1982، و«الطوق والإسورة» عام 1986، و«يوم حلو ويوم مر» عام 1988. وكانت هذه الأفلام تناقش موضوعات جادة، وتتميز بالرقي الفني، ولكن لم يذع صيت هذا المخرج بين عامة الجمهور، الذي يُمثل السواد الأعظم، إلا بعد إخراجه لفيلم «كابوريا» عام 1990، لأحمد زكي، فقد حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا وانتشارًا واسعًا مقارنة بأفلامه السابقة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى نجاح الفيلم وانتشاره، هو نجاح المخرج «خيري بشارة» في هذا العمل بالوصول للجمهور من عامة الطبقات الشعبية المختلفة، عن طريق شخصية «حسن هدهد» التي جسدها الفنان أحمد زكي، الشاب الشعبي البسيط، الذي يهوى الملاكمة، ويحلم بالوصول للأولمبياد، وقد استطاع المخرج تجسيد الطبقات الاجتماعية المختلفة، وربط بينها في قصة مشوقة تبرز الفروق الاجتماعية والصراع الكامن بينهما، مع توظيف الشخصيات جيدًا بالاستعانة بمجموعة من الممثلين الملائمين لأداء الشخصيات مثل: حسين الإمام ورغدة وسحر رامي ومحمد لطفي، وغيرهم.

وقد قام العديد من الشباب وقتها بالتماهي مع شخصية حسن هدهد وتقليده، حتى أصبح أحمد زكي هو صاحب ورائد «قَصّة كابوريا»، التي تستخدمها صالونات الحلاقة حتى الآن، كما ازداد اهتمام الشباب برياضة الملاكمة.

من السبب في إفساد الذوق العام؟

يرتبط الذوق العام ارتباطًا وثيقًا بالسلوك الإنساني، فعندما يفسد الذوق العام للفرد، يؤثر هذا الفساد في قيمه ومعتقداته، ويُفسد شخصيته، مما ينعكس على سلوكه وتصرفاته وطريقة تفاعله مع المجتمع.

وفي الواقع فإن العلاقة بين الذوق العام والسينما هي علاقة تبادلية قائمة على التأثير والتأثر، ففي الوقت الذي يلقي الإعلام والعديد من النخب الثقافية والرأي العام اللوم على الأفلام السيئة في إفسادها للذوق العام، مما انعكس على المجتمع المصري، يردّ صناع السينما التجارية بمقولة «الجمهور عاوز كده»، ويبرّرون بأنهم لن يستطيعوا أن يجنوا أرباحًا أو حتى يحصلوا على تكلفة الفيلم في حالة تقديمهم أفلامًا راقية وناضجة لا يُفضِّلها الجمهور، وأن هذه النوعية من الأفلام الجيدة التي تحترم عقلية المشاهد، تتسبب في عزوف الجمهور عن السينما، مما يؤدي إلى انهيار الصناعة.

والأفلام مثلها مثل السلع، إما أن تكون جيدة أو فاسدة، وعندما يرغب عامة الجمهور ويميلون إلى نوعية الأفلام السطحية التافهة يتسابق صناع السينما على تقديم أعمال فاسدة، فيؤدي هذا إلى زيادة إفساد الذوق العام، فللسينما دور كبير في إفساد هذا الذوق ولكن ليس هو الدور الأول أو الأساسي، بل هو دور مساعد، يؤدي إلى زيادة الإفساد، ويظهر هذا في نجاح مجموعة من الأفلام التي تفتقر إلى القصة والحبكة، وتعتمد أكثر على مشاهد البلطجة والعنف، مع الاستعانة بأغاني المهرجانات، والراقصات، وسنجد أن هذه الأفلام ساهمت في تحويل أبطالها إلى نجوم معروفين يطلق أحدهم على نفسه أنه النجم الأول (Number One)، ذلك النجم الذي استطاع أن يقترب من جمهوره على مستوى الشاشة، ولكنه انفصل عنهم على مستوى الواقع الاجتماعي والثقافي والتنويري.

ولذلك لا يمكن إلقاء اللوم على صناع السينما وحدهم، فمسئولية إفساد الذوق العام هي مسئولية سياسية واجتماعية يشترك فيها النظام السياسي، مع صناع السينما، فهي في الأساس محصلة تاريخية لحالة التجريف الثقافي، وإهمال الاهتمام بالإنفاق على التعليم، والصحة، وغياب آلية عمل حقيقية لإدارة المؤسسات التعليمية والصحية والاستفادة منها بطريقة جيدة، وتفعيل آلية حقيقية للرقابة على المؤسسات الرسمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفقر، وتحسين أحوال المواطن.

المراجع
  1. عدنان مدانات، “أزمة السينما العربية”، صادر عن سلسلة أفاق السينما، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007، ص 38.
  2. المرجع السابق، ص 37.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.