يُعاني كوكب الأرض تدهوراً بيئياً ومناخياً خطيراً، حيث ارتفاع درجات الحرارة وقلة هطول الأمطار عاماً بعد آخر، مما أدى إلى انتشار الجفاف والمجاعات، وصلت إلى حروب بسبب قلة الموارد في بعض المناطق.

ولم يقف هذا التلوث عند ظاهرة الاحتباس الحراري فقط، بل خلّف وراءه أطناناً من المُخلفات الصلبة التي تحتاج إلى قرون لتتحلل، والتي انتشرت في جميع ربوع هذا الكوكب، الذي بدأ ينهار أمام توحش النظام الرأسمالي والتوسع الاقتصادي في الإنتاج والاستهلاك اللا نهائي للسلع، بغض النظر عن أي أبعاد بيئية أو إنسانية.

وقد آن الأوان لتبني نظاماً اقتصادياً بديلاً للاقتصاد الخطي القائم على الارتفاع اللا نهائي في الناتج المحلي، حيث تقوم الشركات باستخدام الموارد وتحويلها إلى منتجات يستخدمها العملاء ويتخلصون منها، مُخلِّفين وراءهم أطنان من النفايات غير قابلة للتحلل دون إعادة تدويرها. وصار من الضروري التحول إلى نموذج أكثر رفقاً واستدامة، يُعرف باسم «الاقتصاد الدائري».

 

ما هو الاقتصاد الدائري؟

إذا نظرت إلى دورة الحياة الطبيعية على الأرض ستجدها تسير في نظام دائري في الأساس، نباتات تنمو تتغذى عليها كائنات أخرى، ثم تبدأ السلسلة الغذائية حتى تنتهي بموت آخر عضو في هذه السلسة، ويتحلل في التربة ويتحول إلى سماد تتغذى عليه النباتات لتبدأ رحلة حياة دائرية جديدة ومستمرة.

وهذا ما تقوم عليه فكرة الاقتصاد الدائري، هو نظام اقتصادي قائم بالأساس على تصميم منتجات قابلة للاستخدام المستمر طويل الأمد وإعادة التدوير. تستخدم الأنظمة الدائرية إعادة الاستخدام وإعادة التصنيع والتصليح وإعادة التدوير لإنشاء نظام مغلق، مما يُقلِّل من استخدام مُدخلات الموارد وخلق النفايات، وإنتاج سلع ومنتجات أكثر استدامة وصديقة للبيئة، فهو أسلوب حياة جديد يمكن أن يُساعد العالم على التكيف مع التحديات التي نعاني منها حالياً، دون حدوث مشاكل اقتصادية أو بيئية.

وفقاً لتقرير أعده «المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤسسة إلين ماك آرثر»، والذي قدّر أن قيمة «الاقتصاد الدائري سوف يصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2025»، وسيُولِّد 100 ألف وظيفة جديدة خلال خمس سنوات. توقع أيضاً تقرير المفوضية الأوروبية بأن الاقتصاد الدائري سيحدّ من انبعاثات الكربون في الاتحاد الأوروبي بما يقارب 450 مليون طن سنوياً، وسينتج عنه منفعة تصل إلى 4.1 تريليون يورو.

الاقتصاد الخطي في مقابل الاقتصاد الدائري.

إن الاقتصاد الدائري ليس مجرد عبارة رنانة أو نظرية حديثة يستخدمها الاقتصاديون، بل هي خطة إنقاذ ينبغي على صُنّاع القرار أن يتبنوها للسيطرة على التدهور البيئي الحالي.

ومع توقع أن يقترب عدد سكان العالم من 9 مليار شخص بحلول عام 2030، فإننا سوف نستخدم موارد أكثر مما يستطيع الكوكب توفيره، ويعتمد مستقبلنا على إعادة استخدام ما لدينا بطريقة مستدامة. ولحسن الحظ، فإن أحد هذه الموارد غير المحدودة هي الابتكار. فعلى سبيل المثال، أدى نقص التصنيع والتوريد في قطاع الصحة أثناء جائحة كورونا إلى دفع الابتكار الدائري.

وقد شهدنا كيف أن الجائحة منحت حياة جديدة لأدوات التعقيم المستخدمة لتطهير أقنعة N95، ومختبرات التصنيع المحفزة (Fab Lab) التي تتحد معاً لابتكار نماذج أولية من التصاميم للاستخدام الطبي مثل: واقي الوجه وأجهزة التنفس الصناعي. وأدركنا مدى هشاشة النظام الاقتصادي الحالي والحاجة إلى نظام اقتصادي جديد يساعد على مواجهة انخفاض الدخل وتقليل العبء على المستهلكين.

تطبيقات الاقتصاد الدائري في الصناعة

تقوم العديد من الشركات بتطوير طرق مبتكرة للحد من هدر الموارد وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، منها شركات عملاقة بدأت تستخدم الاقتصاد الدائري في جزء من عملياتها، وأخرى ناشئة تُقدم خدمات ومنتجات مبنية في الأساس على فكرة الاقتصاد الدائري.

من ضمن هذه الشركات التي تبنت الاقتصاد الدائري في جزء من عملها، شركة Timberland، التي دخلت في شراكة مع شركة Omni United لتصنيع إطارات السيارات، والتي بمجرد وصول الإطارات لنهاية عمرها الافتراضي يُعاد تدويرها وتحويلها إلى الصورة الأولية للمطاط، والذي يُستخدم في النعل الخارجي لأحذية Timberland.

وهناك شركة Aquazone الفنلندية، التي طورت طريقة لإعادة تدوير مياه الصرف الصحي إلى سماد، حيث تتم معالجة مياه الصرف كيميائياً، ويتم فصل المواد الصلبة عن المياه. ويمكن استخدام المياه للري أو يمكن إعادة تدويرها إلى مياه للشرب؛ أمّا المواد الصلبة الغنية بالعناصر المفيدة فيتم تحويلها إلى سماد عضوي.

سماعات رأس عالية الجودة مُكونة من أجزاء قابلة للفك والتركيب بسهولة.

أيضا شركة Gerrard Street، الهولندية التي وجدت أن العالم يتخلص من 85 مليون كيلو جرام من سماعات الرأس كل عام، بسبب عطل فني بسيط أو بسبب التطور التكنولوجي، لذلك صمّمت هذه الشركة سماعات رأس عالية الجودة مُكونة من أجزاء قابلة للفك والتركيب بسهولة لتسهيل الإصلاح والتجديد والتطوير، يقوم العميل بدفع اشتراك سنوي مقابل الحصول على سماعة الرأس بجانب الحصول على خدمات التصليح والترقية مجاناً، وذلك يساعد على تقديم منتج أكثر استدامة، مع الحصول على ربح جيد لاستمرار الشركة.

وقد تمكنت شركة Johnson Controls من تصميم بطارية قابلة لإعادة التدوير بنسبة 99٪، وهو إنجاز ضخم لمنتج مُعقد وخطير كيميائياً. من خلال تشجيع مستهلكين البطاريات التقليدية على إعادة التدوير، حيث تلقت الشركة ما يكفي من المواد لمنع مئات الملايين من البطاريات من الانتهاء في مدافن النفايات.

هذه بعض الأمثلة البسيطة لشركات قررت أن تتحمل المسئولية تجاه مجتمعاتها، وتنضم لهذا النظام الاقتصادي الجديد، وقد تكون جائحة كورونا هي فرصة لدفع نموذج الاقتصاد الدائري للأمام والاعتماد عليه بشكل أساسي، فقد تأثر الاقتصاد العالمي بسبب اعتماده على سلاسل التوريد المتشابكة بشدة، حيث يعتمد على أكثر من 100 مليار طن من المواد الخام تدخل النظام كل عام.

وأنت أيضاً عزيزي القارئ هناك العديد من الطرق لكي تكون جزءًا من الاقتصاد الدائري، سواء أكان ذلك من خلال تطبيقات مشاركة ركوب السيارات، أو شراء الأزياء المُعاد تدويرها، أو استخدام المنتجات القابلة للتحلل البيولوجي. ففي كل مرة فيها، فإننا نُشجِّع المزيد من الشركات على التحول والانضمام لهذا النظام الجديد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.