فور انتهائي من قراءة رواية «مُدن السور» للكاتبة المصرية «هالة البدري»، سارعتُ إلى تسجيل انطباعاتي الأولية عنها باعتبارها نموذجًا لرواية «الديستوبيا المثالية». وربما تُمثل هذه العبارة تناقضًا ظاهريًّا؛ لأن الديستوبيا تبتعد عن النظرة المثالية المتفائلة، وتقترب من النزعة العدمية التشاؤمية، وتستشرف واقعًا مريرًا، وتُفكك سرديات التقدم والتنوير، وتُصوِّر بدلًا من ذلك أشكالًا متقدمةً من القمع والتمييز.

أوهمتني الرواية في البداية أنها تدور حول صراع طبقي في مصر في مُستقبل مُتخيل بعد بناء مدينة السور (مدينة الفوقيين) بعيدًا عن القاهرة القديمة (مدينة البدائيين)، لكن سرعان ما تبيَّن لي أن الرواية تتطلع إلى تصوير قضية الحرية والعبودية في الذاكرة التاريخية العالمية، الحقيقية والمُتخيَّلة.

وهذه بالطبع مهمة مستحيلة أثقلت الرواية باستطرادات معلوماتية، وتأملات فلسفية، وهموم اجتماعية وسياسية من منظورات سردية متعددة لعالمٍ يتشكل رويدًا رويدًا من لفائف الماضي، وتقارير بحثية، وحوارات بين الشخصيات، وأحاديث داخلية، وتقارير ذهنية، ومُلخصات بحثية، ووثائق مُحرَّرة، وقفشات جنسية من المخزون الفكاهي المصري القائم على التورية الساخرة والترويح الكوميدي، وذلك في إطار فنتازي وغرائبي عن فريق البحث العلمي الذي يعكف في السراديب على فحص قصص الحياة الماضية.

في هذه الديستوبيا لا تتطور الأحداث ولا الشخصيات، بل تتولَّد الأسئلة وتتناثر في كل صفحة من صفحات الرواية حتى إنها تطغى على رسم الشخصيات وتطوير الأحداث والفكرة الرئيسية، وهكذا تتعدد أحداث الرواية وشخصياتها في كتابةٍ شَذْرِيَّةٍ تعترف بطابعها المُتشظِّي وتدافع عنه، وإن كانت تنطوي على أفكار محورية، مثل الفردانية وعبثية التضحية، والاستنساخ والعبث بالجينات والأدمغة، والتطور الهائل في فنون المراقبة وأثرها في العلاقات الإنسانية، وهي أفكار يتم توظيفها في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بين الفوقيين داخل الأسوار (السادة) والبدائيين خارج الأسوار (العبيد)، وكذلك الطبقة الثالثة غير النقية الناتجة عن العبث بالجينات (البزرميط).

واللافت للنظر أن هذه الديستوبيا الكابوسية تقوم على التشبث بالأمل، والإيمان بالقدرة على الفعل البشري، والنظرة المثالية المتفائلة، والإيمان بقدرة الإنسان على التغيير، والثقة في المستقبل.

هذه الانطباعات الأولية تتماشى مع طبيعة الكتابة ما بعد الحداثية المتمردة على الكتابة التقليدية، والتي تحرص على الالتزام بتقنيات وسمات تقليدية من قبيل الوحدة العضوية، والتطور الخطي للأحداث، وتحولات مصائر الشخصيات. فهي كتابةٌ شَذْرِيَّة تحتفي بالتناثر والتشظي وتفكيك نظامية البدايات والنهايات، احتجاجًا على الواقع الذي يدِّعي النظامية والعقلانية والتماسك والاتساق.

لكن السمات ما بعد الحداثية في هذه الرواية لا تقتصر على أسلوب الكتابة الشذرية، بل تمتد إلى المنطلقات الفكرية والفلسفية لما بعد الحداثة، وإن كانت مُفعمة بالأمل والتفاؤل والتحدي، وسأوضح تلك السمات في المحاور التالية:

أولًا: الفردانية وعبثية التضحية

لا تقتصر التحولات من الحداثة إلى ما بعد الحداثة على العالم الغربي، بل تمتد إلى مناحٍ كثيرة من حياة الإنسان في العالم العربي والإسلامي. ومن بين هذه التحولات الانتقال من التمركز حول أفكار تكريس الذات والنضال والبطولة والتضحية والخلاص الجمعي، إلى التمركز حول الذات واللذة والخلاص الفردي، خاصةً عند إدراك عبثية التضحية ومفارقاتها في عالم تحكمه حسابات معقدة على المستويين المحلي والدولي.

وتتميز ديستوبيا «هالة البدري» بالإصرار على التشبث بالأمل والمقاومة من أجل مُستقبل أفضل، لكن تكمن المفارقة في أن التصوير الفني للتشبث بالأمل ينصب على الكشف عن عبثية التضحية وعدم جدواها، في عالم تُهيمن عليه سلسلةٌ معقدة من الطبقية الحادة، والعبودية الجديدة، والمراقبة المتقدمة، وما يصاحب كل ذلك من خوفٍ دائم، وقلقٍ حاد، وشكٍّ قاتل.

ورغم أن ما بعد الحداثة، وخاصةً الفردانية السائلة، تستبعد من قاموسها فكرة الرهبنة، لأنها ترتبط بسردية كبرى تَحُضُّ على تكريس الذات في سبيل الخلاص الجمعي، فإن الفكرة الرئيسية الذي تتناثر منها شذرات الرواية تكشف عن وجه الشبه بين حياة الباحثين في أسرار الحياة الماضية في السراديب وحياة الكهنة والرُّهبان في الأديرة والمعابد. وتكشف علاقة آدم وميرا عن طبيعة حياة الباحثين في قصص الحياة المؤرشفة، حيث يُكرِّس آدم حياته للعلم والانعزال الاعتكافي، ويقبل شرط عدم الزواج كأنه راهب. وترى ميرا أن حياة الباحثين أشبه بحياة الكهنة الموهوبين للرب، والمنذورين له:

في أحيان كثيرة، أتصور نفسي أحد رهبان السيرابيوم في الإسكندرية في العصر الفرعوني، أول من حبسوا أنفاسهم للتعبد للرب، أو أكون مع باخوميوس وسط رهبانية المتوحدين أبني الأديرة، أو في قلاية في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون، أو إحدى خادمات المعبد في مدينة أور في عصر سيدنا إبراهيم، أو في أحد معابد بابل، أو من بين رهبان التبت المخلصين.

تُمثل ميرا صوتًا مثاليًّا في الغابة المادية الداروينية؛ فهي تحتفي بتسخير الحياة من أجل العلم والآخرين، وتعي أهمية عملها وطابعه الجمعي، وتدرك مآلات العقل الأداتي النفعي الاستغلالي الذي أفضى إلى طبقية حادة:

كُرِّم الإنسان بعقله… عقله الذي أودى بنا إلى ما نحن فيه من طبقية حادة، وأوجد مَنْ يؤمن بها كرغبة إلهية… هذا صحيح، لكن العقل الذي كُرم كان تكريمه بسبب قدرته على الفرز، وبالتالي قدرته على المقاومة، وهذا ما نفعل الآن.

وهكذا يُستدعَى العقل النقدي ما بعد الحداثي ليكشف عن الوعي الزائف للعقل الحداثي الأداتي ويواجهه بمآلاته غير الإنسانية. وهذا هو جدل التنوير أو جدل العقل بالمعنى الفلسفي، أي: تلازم التقدم في السيطرة على الطبيعة مع التقدم في السيطرة على الإنسان نفسه، بل وتفكيكه، والتعامل معه على أنه مادة نافعة أو غير نافعة وفق تقسيم الفوقيين (السادة) والبدائيين (العبيد).

ثانيًا: الاستنساخ والعبث بالجينات والأدمغة

يعثر أحد أفراد فريق البحث على وثيقة تشير إلى الجنس غير النقي (البزرميط). وكان اكتشاف هذه الهويات غير النقية يمثل فضيحةً لأصحابها، ويُحدِث صدمةً بالغة عندما يكتشف المرء أن مهاراته الجسدية والعقلية والفنية ليست موهبةً طبيعية، وليست إحدى المعجزات التي وهبها الله للبدائيين، والذين تفوقوا فيها بالجهد والتدريب والصبر والمثابرة.

وقد تدفع الصدمةُ المرءَ إلى الهذيان والشعور بأنه «مجرد صنيعة معمل مثل فئران التجارب»، وأن موهبته «أكذوبة كبرى» و«مجرد أوهام» يُسكِّن العبيد بها ضمائرهم ويقبلوا الخضوع للسادة. ويتبدى ذلك في وثيقة مُسرَّبة عن فنان وراقص تانجو أرجنتيني يُدعى «سنتياجو بيرون لاكوت»، والذي لم يتحمل الصدمة عندما علم أنه صنيعة أحد معامل الأجنَّة، حيث اتجه من فوره في حالة من الهذيان إلى ميدان «بلازا دي ماي» الثوري ليصرخ في وجه الاستعباد الجديد، ثم ركض نحو الرمز الوطني الأول «هرم ماي» ليتحسَّر على فقدان الكرامة أمام هرم الوطن قائلًا:

إن الوطن حالة أكبر بكثير من مجرد مكان… ماذا يعني المكان دون كرامة… الوطن هو الثمن المدفوع لنبقى بشرًا أحرارًا. ما يجمعنا الآن هو الفساد… الفساد هو عابر الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والقوميات أيضًا… الفساد هو عابر التقسيم الطبقي للفوقيين والبدائيين، هو الوحيد الذي يجمعنا.

وبالطبع تمت تصفية الرجل في الحال بفضل أجهزة المُراقبة المتقدمة عقابًا له على هذيانه الثوري.

تتضمن الرواية إضاءات سردية بديعة لخيالات علمية مثيرة في عالم الاستنساخ، ومن أروعها متابعة آدم وميرا لمباراة الدور النهائي بين المتنافسين في الاختيار من بين عدة أنواع وفصائل للكائنات، كأساس للتكوين البشري من أجل مستقبل أقوى.

ففي إيقاع سردي سريع يلائم الحدث يعرض المتنافسان قدرات خارقة لكائنات ومخلوقات عجيبة تضمن البقاء بالدفاع عن نفسها، بل تُجدِّد أعضاءها، ومِن ثَمَّ تحقق حلم الخلود الذي يُراود البشرية، وإن كان اكتساب هذه القدرات يوحي بأن العالم سيتحول لا محالة إلى ساحةٍ داروينية يكون فيها البقاء للأقوى. فثمة كائنات شفافة تختفي من أعدائها، وتمتلك طاقة كهربائية، وتُطلِق فقاعات بمستوى حرارة الشمس، وتمتلك لكمات سريعة، وتتلون بسهولة، وتتسلق أي شيء، وتقذف بمواد سامة حارقة. والأهم، ثمة كائنات أو مخلوقات تمتلك القدرة على التجدد، ومِن ثَم إمكانية الخلود.

إن الديستوبيا التي ترسمها «هالة البدري» تُظهِر الإنسان راغبًا في اكتساب قدرات خارقة تتمتع بها كائنات عجيبة، مهما كانت عنيفة وعدوانية ووحشية، مثل «الأخطبوط المُقلد» و«السحلية الوزغة» و«الخنفساء القاذفة» و«ثعبان الماء الرعاش» وغيرها من الكائنات العجيبة، بينما تُشير ديستوبيا «إبراهيم نصر الله» في (حرب الكلب الثانية) إلى قيام كثير من الحيوانات والحشرات بتقليد البشر وعاداتهم وأخلاقهم السيئة، ومِن ثَمَّ تخلي الطبيعة عن براءتها ونظامها انتقامًا من الإنسان المُفسِد لنفسه ولغيره من الكائنات. ويبدو أن الاستنساح المادي الفيزيائي ليس المشكلة الوحيدة، بل استنساخ النموذج الدارويني الاستعبادي القائم على مقولة البقاء للأقوى.

في منتصف الرواية تقريبًا يظهر مرة ثانية التقرير السري الذي اطَّلع عليه القارئ في صدر الرواية (وسيلتقي القارئ به في صيغة مشابهة للمرة الثالثة كإحدى النهايات المتعددة للرواية)، وهو تقرير يتحدث عن مسيرات التطهر أو الانتحار الجماعي، والإشارة إليها بأنها فعل جنوني أو فعل خرافي قد يؤدي إلى إفناء البشر بالقدر الذي يسمح بوجود فصيل من العبيد لقضاء مصالح السادة.

وكانت من قائدات مسيرات الانتحار طبيبة حاولت إجراء تغييرات على ابنها أثناء حملها لتحويله إلى كائن فوقي، لكن اتضح أن الطبيب نصَّاب ومُحتال، أصاب جنينها بتشوهات جعلته ينتمي إلى الجنس المشوَّه وغير النقي (البزرميط).

وكان هناك أستاذة جامعية متخصصة في الفلسفة تعتقد أن الانتحار الجماعي للكبار سوف يهب الشباب فرصة حياة أفضل، ويوفِّر لهم فرص عمل، فلا يعود ابنها يحتاج إلى مغامرة انتحارية في ألعاب الصفوة. و«عازفة كمان» تحاول الحصول على تصريح لابنتها بإنجاب طفل آخر بعد أن مات الأول.

وفي مشهد غرائبي، تنطلق مسيرات التطهر أو الانتحار الجماعي من أجل الالتحام والانصهار بالضغط على المصهر في لحظة واحدة، في سبيل نقاء المجتمع أو إنقاذ البشرية. وتواصل ميرا عملها وتكتب تقريرها عن سيدة تعرضت لصدمة شديدة نتيجة وجود طفل مشوه لها وسط الأليفين بعد أن سرَّبه معمل الأجنَّة، حتى لو لم تستطع الأم إثبات ذلك. ورغم اتهام الأم بجنون الارتياب، فقد أدركت هذا الدفع الاستغلالي إلى الانتحار الممنهج والمخطط له من جانب الفوقيين الذين يسعون إلى الاستفادة القصوى بموارد الكوكب بتشجيع مسيرات الانتحار.

لا يقتصر الاستغلال على تشجيع مسيرات الانتحار، بل يمتد إلى محاولة السيطرة الكاملة على العقل البشري. وهنا يقرر المجلس الأعلى للقبو الاضطلاع بالمسئولية والمشاركة في مظاهرات لمنع الشركات من توصيل الإعلانات والمعلومات إلى أدمغة البشر ليلًا ونهارًا، وحذَّر العالِمُ الأكبر من استغلال البدائيين من جانب الفوقيين والسلطات الحاكمة قائلًا:

سنخضع لأحط أنواع العبودية، سيطرة كاملة على العقل البشري، ليقبل ببساطة استغلاله من السلطات الحاكمة للعالم دون مقاومة، وربما بسعادة.

يكشف هذا التحذير عن الجمع بين المراقبة القمعية والمراقبة الإغوائية، أو الجمع بين المراقبة القائمة على فكرة الفيلسوف الإنجليزي «جيرمي بنثام» عن البانوبتيكون (السجن الكبير الخاضع للمراقبة) في عصر الحداثة الصلبة، والمراقبة الجديدة القائمة على فكرة «زيغمونت باومان» عن المراقبة السائلة والعبودية الطوعية في زمن الحداثة السائلة. لكن تظهر من جديد نبرة التفاؤل المثالية في ديستوبيا «هالة البدري» عندما تنجح المعارضة في إجبار الشركات على إنتاج برنامج يسمح للشخص بالتحكم في استقباله للمعلومات والمواد المعلنة.

ثالثًا: أثر المراقبة المتطورة في العلاقات الإنسانية

تتسم الديستوبيا الغربية الكلاسيكية بالتركيز على سطوة المراقبة على العلاقات الإنسانية في المجالين العام والخاص على السواء، وقد انتقلت هذه التيمة إلى الديستوبيا العربية المعاصرة.

وفي ديستوبيا «هالة البدري» يتعرض أبطال الرواية إلى مُراقبة ثلاثية: أولًا، المراقبة من منظمة القبو نفسها للتيقن من التزامهم بشروط الالتحاق بها، وخاصةً رصد العلاقات التي قد تتحول إلى رغبة في الزواج وإنجاب الأطفال؛ وثانيًا، المُراقبة من جانب الفوقيين عبر خلايا المُراقبة الطائرة التي تأتي بها الريح، والتي تدفع الباحثين إلى إخفاء تساؤلاتهم حتى عن أنفسهم، بحيث لا تستشعرها أجهزة المراقبة المتقدمة؛ وثالثًا، المراقبة الواردة في قصص الحياة والتقارير المكتشفة، مثل التقرير الجُوَّاني لطارق الجنايني الذي يقع في يد آدم في أثناء بحثه في مصائر الثوار:

أكره حياتي وأكره ضعفي وأكره كل لحظة عشتها مذلولًا بالموافقة على العبودية آآآه… لن أكون عبدًا بعد اليوم. أشعر أني مُراقب في كل لحظة، حتى أفكاري مُراقبة، لا أحد يصدقني في هذا حتى حبيبتي… هل هذه هي سماؤنا التي نعرفها؟ هل هي السماء التي عرفها كل البشر قبل التحول الرهيب الذي حدث؟ هل هي الفضاء المطلق الذي يحمل الكواكب السيارة؟ أم أنها مجرد سجن كبير شفَّاف يقفون وراءه، يراقبوننا دون أن ندري؟ لم أستطع أن أعوِّد نفسي أن أكون عاريًا أمام هذه العيون… أتذكرها حتى في تلك اللحظة الخالصة التي لي ولزوجتي أثناء التحامنا… تنزعني فجأة معرفتي أنني في قفص كبير تحت الفحص والملاحظة.

في خضم المراقبة الكابوسية يؤمن آدم وميرا أن الحب هو السبيل الوحيد للخلاص، وأن الحب يأتي من السماء ويقهر القدر. لكن ذلك الإيمان بقدرة الحب على تجاوز الصعاب يصاحبه وعي دائم يتوجس خيفةً من المراقبة وعواقبها. وهنا يخاطب آدم ميرا قائلًا: «كوني حريصة في تفكيرك في كل مكان حتى في السراديب».

كما تتبدى الفردانية الصلبة باعتبارها طريق الخلاص الجمعي واليقين الوحيد في عالم اللايقين، فلا يمكن تغيير الكون والعيش في الأفكار الكبرى إلا عندما يعرف المرء نفسه أولًا. تقول ميرا مخاطبةً آدم:

الآن أنا على يقين أنني لن أعرف الناس وأحبهم إلا حين أعرف نفسي وأحبها… عِدني إذا ما خيَّروك أن تختار العلم، وسأفهم تضحيتك بي… وإذا ما اخترته، فعليك أن تُكمل ما بدأت، هذا أنفع لنا جميعًا.

لكن آدم يتعلق بميرا ولا يقدر على التخلي عنها لأنها الشعلة التي أيقظت نور الروح: «لا أستطيع، سيكون على غيرنا أن يلعب هذا الدور… أثق في البشر، وأثق في المستقبل، ولن أضحي بكِ مهما حدث». هكذا يتبدى الحب سرديةً صغرى وفردانيةً صلبة لا يمكن بدونها تحقيق أية سردية كبرى تتعلق بالخلاص الجمعي.

يغلِّفُ هذه السردية عالم مسيرات التطهر أو الانتحار الجماعي، وتكشف تقارير ذهنية لمشاركين في المسيرات عن رغبة عارمة في الوصول إلى معنى الحياة بالتضحية الكبرى، علاوة على شعور بالاغتراب عن النفس، ومحاولة إثبات وجود الذات عن طريق التضحية. كما صدر قرار بنزول باحثي القبو إلى المسيرة والاختلاط بأهلها وجمع المعلومات.

ورأى آدم أن الشباب أيضًا ينضمون إلى مسيرة التطهر أو الانتحار الجماعي، ورأت ميرا أن هذه الفكرة تنمو مثل سرطان لا يرحم، وأنها لا تقوم على مناقشة أو تفكير، بل على إيمان بأنها الحل الوحيد الممكن لإنقاذ البشر.

وهنا يسود الرواية الهم السياسي حول الثورة والثورة المضادة، والسعي إلى إجهاض الثورات، وتشويه سمعة الثوار، وتبديل رغبات الشعوب بإرادتها وبتصديق منها، وترويج فكرة ختم الانتحار الجيني المكتوب على جبين البشر.

وفي خضم هذا الهم السياسي، يوافق المجلس الأعلى على زواج آدم وميرا، لكن سرعان ما يصلهما قرار الفصل المتوقع. ويرى آدم في مسيرات التطهر أو الانتحار الجماعي مخططًا دوليًّا ضمن الصراع على موارد العالم، ويختفي آدم وسط هذا الاضطراب بسبب غواية التساؤل والبحث، ويُمنع النشر في موضوع اختفائه، ويؤكد الأحرار أن المقاومة لن تتوقف في منظمة القبو لمعرفة مصير آدم.

تتعدد نهايات الرواية، وأغلبها نظرات من فوقيين من عالم المستقبل يستحضرون ما في هذه السردية من مظاهر إنسانية ومشاعر فيَّاضة وزمن رومانسي، وتعود بنا النهاية الرابعة إلى نقطة البدء المفترضة والمتخيلة في حلقة دائرية، تُعيد إلى ذهن القارئ مسيرة التطهر أو الانتحار الجماعي، وإن كانت البداية المفترضة والمتخيلة للرواية لم تكن بداية الحدث أو الفصل الأول، بل ربما الفصل الألف الذي يتكرر في الماضي والحاضر والمستقبل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.