مدنية الدولة ارتقاء للسلوك الإنساني والفكري، وتطور واضح لانتقال الإنسان من مرحلة بدائية فكريًا إلى مرحلة أكثر نضوجًا وإدراكًا لتطور الإنسان والمجتمعات حوله.

والرفض القطعي لتدخل العسكريين بكل أشكاله وصوره هو ضرورة لإقامة مجتمع مدني راقٍ، ودولة تسودها إرادة الإنسان الحرة يكون فيها هو الحاكم والمحكوم.

فالعسكرية في أي دولة -وكما تكفل لها القوانين- هي المنوط بها احتكار القوة لردع العدو وحماية المجتمع، فتمثل سياجًا خارجيًا يسهر على أمن الوطن وسلامته، أما حينما تتدخل هذه القوة في العمل السياسي، فهي بصورة غير مباشرة قد أقرت مقاييس أخرى للعبة السياسية، ثم لا يُؤمن بطشها وتصرفها، فالقوة دائما عبر التاريخ في يد العسكريين أداة للقتل في ساحة المعارك، أما في الساحات السياسية فهي أداة للقهر والإرغام.

وتقرر التجربة التاريخية أن تغلغل التطلع للسلطة في عقل الجنرالات يؤدي في الغالب إلى فساد المجتمع وتشرذمه، حيث تظل شهوة السلطة تضغط على الذهن العسكري بما تمليه القوة وزهو القوة والغرور بها، فتنزع بالجنرال في نهاية الأمر إلى القيام بانقلاب عسكري يدمر المدنية ويمزّق الحياة السياسية.

ثم إذا وصل الجنرال للحكم فهو لا يقبل اعتراضًا ولا توبيخًا ولا مساءلة ولا مراجعة ولا أي صورة من صور الرفض، ذلك لبنائه العصبي القائم على السمع والطاعة دون مراجعة حفاظا على القوة والوحدة، وهو أسلوب القيادة المتبع داخل الوحدات العسكرية والذي لا يناسب المدنيين.

ومن يعترض فللجنرال أساليب عدة عبر تاريخه في قمع مخالفيه من السياسيين المدنيين، تبدأ بالتشويه الشخصي وتنتهي بالاتهام بالخيانة والعمالة وأحيانًا بالإرهاب.

السياسة في مجملها لا تثبت على حال، ويتحكم فيها الموقف والمصالح التي تقررها الأحزاب المدنية حسب رؤاها ومصالحها السياسية

ثم قواعد اللعبة السياسية لا تتناسب وعقلية العسكري المبنية على أساس رصين من الأمر وتنفيذه دون نقاش أو جدال، فالسياسة في مجملها لا تثبت على حال، ويتحكم فيها الموقف والمصالح التي تقررها الأحزاب المدنية حسب رؤاها ومصالحها السياسية، إضافة إلى أنها فن الممكن وليس ما يجب أن يكون، وأيضا هي فن التفاوض والتنازل حسب المصالح السياسية القريبة والبعيدة.. إلخ. فكيف يستقيم هذا وذاك!

ولا يخفى ما في ذلك من فساد أزلي ظهر في البلاد ذات الحكم العسكري من سيطرة مجموعة من الجنرالات على مفاصل الدولة وتحكُّمها العنيد في مقدراتها، ثم لا أحد منهم يخضع لمساءلة، لذا اُعتبر الحكم الشمولي العسكري من أسوأ أشكال الحكم التي من الممكن أن يتواجد تحت ظلالها إنسانٌ مدني.

وليس ترفا أن نذكر أن جنرالات إسبانيا إبان انقلابهم، وتحديدا عام 1905، «نشرت إحدى الصحف القطلانية مقالات أغضبت العسكريين، فهجمت ثلة من الضباط على مكتب الصحيفة ودمرته تدميرا»، كما يذكر العقاد في بعض كتبه.

إن الدولة العسكرية عبر تاريخها لم تقدم للمدني إلا كثيرًا من السجون والمعتقلات والتعذيب والقهر، وفساد الحياة الاجتماعية وتمزيق المجتمع إلى فئتين عليا ودنيا، وإغراق الأخيرة في الفقر والجهل والمرض حتى تستقيم مع الشمولية.

فالجنرال عندما يحكم يولّي الأمن كل مجهوده وطاقته؛ إذ إنها المجال الوحيد الذي يبرع فيه ويتقنه، أما إذا كان الأمن مستتبا، والمواطنون مسالمين لم يشعر بوجوده وأهميته، فيلجأ لافتعال أي فوضى ليعود للمشهد من جديد متسربلا زي الساموراي المنقذ ليفرض الأمن من جديد قائلا: ها أنا ذا!.

الدولة العسكرية لم تقدم للمدني إلا كثيرًا من السجون والتعذيب وفساد الحياة الاجتماعية وتمزيق المجتمع إلى فئتين عليا ودنيا، حتى تستقيم مع الشمولية

كعبد الناصر الذي افتعل عدة تفجيرات ليوهم الشعب بالخطر المحدق بهم ليصرفهم عن الديمقراطية، وهي حيل تنم عن إفلاس الجنرال من أي خطط اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.

فإن كان الأمن من أهم سمات الدول المتقدمة، وهو عنصر رئيس للتنمية والاستثمار وتقدم المجتمع ونهضة الوطن لما يستتبعه من وضع خطط إستراتيجية اقتصادية وثقافية واجتماعية، لكن الجنرالات تقف عند الأمن طوال عمر دولتها ولا تتعداه لأي منفعة أخرى، حيث يصبح هدفا في ذاته.

أما الدولة المدنية فهي أصدق تعبير عن الإنسان المتطور الحر الذي يختار نظامه وقياداته، ويكون لصوته فعل السيف الذي يصل بنوابه إلى البرلمانات ويقطع الطريق على الآخرين.

فاللعبة السياسية لا تستقيم بأي حال من الأحوال إلا في ظل دولة مدنية يضمن نظامها المدني الحر الحفاظ على ثوابت اللعبة وبدهياتها، ويضمن نتائجها بكل شفافية ومصداقية، أما في غيرها من النظم فتجد أكثرية الشعب عازفة عن المشاركة، لأنه دائمًا يعرف النتيجة مسبقًا.

إذن لا يرفع من قيمة الشعب ويعلي من قدر صوته ويعطي صوته الاهتمام سوى الدولة المدنية، وما سوى ذلك فالقهر وادعاء المدنية المزيفة.

فلضمان مجتمع مدني قوي، وعملية سياسية ناجحة، لابد من تنحية (العسكرية) خارج إطار اللعبة السياسية وشئون الحكم، لأن العسكرية لم تنشأ أساسًا لإدارة المدنيين، ولا لتوجيه سياستهم أو تنظيم حياتهم، وقد حذر الرئيس الأمريكي أيزنهاور من هذا الخطر قائلا في رسالته الوداعية للشعب الأمريكي مع انتهاء فترة ولايته:

«يتوجب الحذر من اكتساب (المركب العسكري-الصناعي) لقوة تأثير في مجالس الحكومة، ويكمن في مثل هذا التأثير خطر كارثي، وهو خطر نشوء قدرة تحل محل جميع القدرات الأخرى، وهو خطر موجود ويمكن أن يستمر، فعلينا ألا نتيح مطلقا لقوة هذا المركب الجديد أن تهدد حرياتنا وعملياتنا الديمقراطية».

وليس ذلك حطا من شأن العسكرية، ولا تقليلا من دورها الحيوي في صيانة الدولة، فإن المسئولية الواقعة على عاتقها ليست كغيرها، وبالطبع فالشرف الذي تحوزه لا يقارن، لذا وجب الإشارة إلى أن الخطر لا يحدق بالشعب فقط ولا بالوطن ومستقبله، بل يلحق بالعسكرية ذات الآثار السلبية وإن كانت على فترات زمنية متباعدة تكون نتيجتها النهائية التأثير على كفاءة الجيوش وقوتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.