خبر سعيد زفته الخرطوم للعالم أواخر يونيو/ حزيران الماضي يفيد بأن قادة الحرب في دولة جنوب السودان – أحدث دولة في العالم – توصلوا أخيرًا لصيغة سلام فيما بينهم تحت رعاية الرئيس السوداني عمر البشير، ولو صح هذا الخبر فهذا الاتفاق سينهي مأساة إنسانية نالت الملايين من شعب الدولة حديثة الاستقلال وآخر دولة تنال شرف الانضمام للأمم المتحدة قبل سبع سنوات من الآن.

خذل القادة الجنوبيون شعبهم بعد أن وعدوهم بأن تتحول دولة الجنوب لسويسرا أفريقيا، كذلك خذل القادة الجنوبيون حتى إسرائيل وأمريكا اللتين تبنيتا قضية الجنوب طوال فترة الحرب، لم تستطع أمريكا نقل قاعدتها العسكرية أفريكوم إلى جنوب السودان كما كانت تتمنى وتأمل بعدما زاحمتها الصين في جيبوتي.


لماذا قاتل الجنوبيون بعضهم؟

أفراد من جيش تحرير شعب السودان.

سؤال يطرحه كل العالم ويطرحه حتى المثقفون الجنوبيون أنفسهم، ما الذي تغير ليقتل الجنوبي أخاه الجنوبي بعد أن كانوا جميعًا موحدين في اللحظة الوطنية في التاسع من يوليو/ تموز عام 2011 وهم ينزلون علم جمهورية السودان من على القصر الرئاسي في جوبا ويرفعون علم دولة الجنوب.

تفسيرات كثيرة قدمها مثقفون جنوبيون كلها تدور حول المؤامرة، يصور فيها شخصٌ كشيطان والآخر كملاك، فيقول المؤيدون لسلفاكير إن ما حدث هو مؤامرة دبرها نظام الرئيس عمر البشير عبر عميله رياك مشار نائب الرئيس سلفاكير المنحدر من قبيلة النوير أو مؤامرة قامت بها إثيوبيا والولايات المتحدة بالتعاون مع مشار المتزوج من أمريكية لإسقاط حكومة سلفاكير بانقلاب لأنه من قبيلة الدينكا بينما يقول آخرون من المعارضة إن ما حدث هو مؤامرة أمريكية إسرائيلية مصرية لاستهداف قبيلة النوير وتهجيرها، لأن مناطقها تحتوي الثروات وحفر قناة جونقلي لتحويل أرض النوير لصحراء جرداء.

لكننا لن نصدق أي من روايات الطرفين سواء كانت رواية الحكومة أو المعارضة، ليس لأننا لا نؤمن بنظرية المؤامرة ولكن لأن الصراع في دولة الجنوب هو عرقي أولًا وأخيرًا، وأنه لم يكن في صالح أي طرف في المجتمع الدولي، فنظاما السودان وإثيوبيا هما أكثر من تأثر مما حدث في دولة الجنوب بسبب التدفق الهائل للاجئين وما صاحب ذلك من مآسٍ يصعب التعامل معها، والولايات المتحدة كان فشل مشروعها في جنوب السودان محبطًا لدرجة أنها تصالحت مع غريمها «الديكتاتور» عمر البشير رئيس السودان من أجل أن يسارع بالقيام بدور إيجابي لحل النزاع الجنوبي بعد أن حملتها كثير من القوى مسؤولية الفوضى في الجنوب بسبب دعمها الانفصال، ومن ذلك وزير خارجية الاتحاد الروسي سيرغي لافروف عندما اتهمها صراحةً أنها ضغطت على السودان بورقة المحكمة الجنائية من أجل الانفصال، وأما إسرائيل ومصر فلم يستفيدا أبدًا من الحرب الأهلية في جنوب السودان سوى في زيادة عدد اللاجئين إليهما، وهو الأمر الذي يخلخ التوازن الديمغرافي للكيان الصهيوني، وأما مصر فإن حكومة الجنوب كانت أعجز عن القيام بأي دور إيجابي لها في قضية مياه النيل.

مأساة جنوب السودان إذن كانت من عمل الجنوبيين أنفسهم عندما سقطوا في وحل القبلية وتصفية الحساب وقت قيام الرئيس سلفاكير بإقالة نائبه رياك مشار عندما أعلن عن نيته الترشح لرئاسة الجنوب وأتبع ذلك بمحاولة اعتقاله أو تصفيته بالزعم أنه تعرض لمحاولة انقلاب عسكري، لتبدأ من بعد المذابح المروعة بين الطرفين والتي كان ضحيتها المواطن الجنوبي والاقتصاد الجنوبي بتوقف إنتاج النفط الذي يمثل مدخوله من 98 – 99 % من صادرات الجنوب.

اليوم وبعد خمس سنوات قاسية قرر قادة الجنوب العودة إلى الحل الأفضل للدولة وهو قبول الرئيس سلفاكير بتعيين رياك مشار في منصب نائب رئيس الجمهورية من جديد، وهو الأمر الذي تهرب منه كير في اتفاق 2016م بضغوط من مجالس قبلية. إذن تجرع الرئيس كير السم بتعيين رياك صاحب الفلجات، كذلك تجرع رياك مشار السم بالعمل مع سلفاكير بعد حرب تسببت في سبعة ملايين مشرد نصفهم لاجئ في العراء في دول الجوار.


اتفاق الكل مستفيد

أفراد من جيش تحرير شعب السودان
أفراد من جيش تحرير شعب السودان
جنوب السودان
النازحون من جحيم الحرب في السودان الجنوبي

اتفاق سلام جنوب السودان لو تم تنفيذه على أرض الواقع سوف يحسن من وضع المواطن الجنوبي الاقتصادي وربما سيكون هذا هو البلسم الذي قد يداوي جروح الحرب، فمع ارتفاع أسعار النفط واتفاق حكومة الجنوب مع حكومة السودان على إعادة استخدام خطوط الأنابيب من المتوقع أن يرتفع معدل إنتاج النفط الجنوبي ليلامس 400 ألف برميل، مما يوفر مداخل دولارية كبيرة على دولة الجنوب، يمكن أن تنعكس على الشعب في شكل تنمية تساعد على نسيان مرارة الحرب.

وهو ما سينعكس إيجابًا حتى على جيران دولة الجنوب خصوصًا السودان المرتبط معها باتفاقات اقتصادية هامة، بالإضافة إلى أوغندا التي ترتبط كذلك باتفاقات اقتصادية هامة مع جوبا. اهتمام الرئيس السوداني والأوغندي بإنجاح الاتفاق ربما يشكل شبكة أمان له كون الأول صديق لرياك مشار، والثاني صديق لسلفاكير.

لكن كل هذا يجب ألا ينسينا أن الحرب أفرزت أشكالًا مختلفة من الميليشيات ورغم أن أكثر الميليشيات مؤيدة لسلفاكير أو لرياك مشار لكن هناك ميليشيات الخيار الثالث وهم غير معنيين باتفاق الخرطوم الأخير وراغبين في الاستمرار بالقتال حتى النهاية، وهؤلاء هم التحدي الحقيقي، وتجربة حرب دارفور خير مثال على وجوب عدم الاستهانة بأي معارض لاتفاقات السلام مهما كان وجوده العسكري ضعيفًا، فرغم أن قوات عبدالواحد محمد نور لم تكن تمثل سوى فصيل صغير لكن عدم توقيعها على اتفاقي أبوجا والدوحة كان كافيًا لإبقاء لهيب الحرب مشتعلًا في دارفور إلى يومنا هذا، على الرغم من أن عبدالواحد لا يسيطر سوى على مربع جغرافي صغير في منطقة جبل مرة.

أمراء الحرب الذين استفادوا من الحرب وحازوا السلطة على أراض وسكان تحت مسمى مناطق محررة لن يقبلوا بسهولة بإلقاء السلاح والانخراط في الجيش الجنوبي وتجرع السم، فهل الرئيسان السوداني والأوغندي الضامنين للاتفاق قادران على لجم هذه المجموعات المتفلتة بالتعاون مع المجتمع الدولي أم سيكون اتفاق 2018 شبيهًا بأخيه اتفاق أديس أبابا 2015 عندما عجزت القوات الدولية صاحبة المهام غير القتالية عن إيقاف الميليشيات من قصف بعضهم بعضًا في جوبا في يوليو/ تموز 2016؟