أ. د. وليد عبد الحي

الإطار النظري للحروب الأهلية

تعددت نظريات تفسير النزاعات الدولية والحروب الأهلية، فقد لجأت بعض أدبيات الصراع لتفسيرات نفسية (وعزت الأمر إلى طبيعة التركيبة النفسية المتناقضة للإنسان)، ولتفسيرات اقتصادية وسياسية (التنافس الاقتصادي والطبقي، والنزوع للقوة، وتباين النظريات والأيديولوجيات … إلخ)، وتفسيرات اجتماعية (نظرية التجزؤ الهرمي، والأقليات، والأديان، والإرث الثقافي، واللون … إلخ)، والتفسيرات الجيو–استراتيجية والجيو–سياسية (الربط بين السلوك والجغرافيا بمعناها الواسع).

لكن الأدبيات السياسية الخاصة بتفسير التنازع الداخلي، الحروب الأهلية خصوصًا، في المجموعة العرقية نفسها أو الدينية كانت هي الأقل، فإذا ذهبنا للمجموعة اليهودية فسنجد أن دراسات تنازعها الداخلي أكثر ندرة قياسًا بغيرها من المجتمعات، وهو ما سنحاول رسم ملامحه التاريخية لتحديد الاتجاه التاريخي الأعظم له، لا سيما وأن «إسرائيل» تشهد حاليًّا توترًا داخليًّا داخل المجموعة اليهودية ذاتها.

وربما تكون نظرية «لويس كوسر» هي النظرية الأكثر جدوى لموضوعنا، إذ قسَّم كوسر الصراعات الاجتماعية إلى نمطَين هما الصراع الخارجي؛ وهو خارج نطاق موضوعنا هذا بالرغم من تداخله أحيانًا معه، والصراع الداخلي؛ الذي ينتج عن أن النسق الاجتماعي كثيرًا ما ينطوي على تباينات في مكوناته، مثل تباين الأصول العرقية بين اليهود، أو تباين اللون، أو التباين الطبقي … إلخ، وهو ما يفرز تباينًا في الأهداف والقيم والمصالح، وهنا تتدافع العوامل المشتركة، مثل الدين اليهودي، التي تؤدي للتماسك والترابط الفردي والمجتمعي، مع العوامل المتباينة المشار لها، مما يوجد توترًا نتيجة الخلاف على ترتيب سُلَّم القيم والمصالح.

هنا يجري اختبار قوة النسق في الحفاظ على تماسكه وفي تأكيد مشروعيته لمن هم في إطاره، وينبِّه كوسر إلى أن التنازع الداخلي يميل للعنف إذا توفَّر له شرطان هما: أولًا، «الارتباط العاطفي والأهداف المتسامية»، أي كلما كان الأفراد أكثر ارتباطًا وجدانيًّا بالهدف المنشود تكون احتمالات العنف أعلى (نتيجة غياب الحساب المنطقي والعقلاني لحساب الانفلات العاطفي)، وبالطريقة نفسها كلما كانت الأهداف المنشودة ذات طبيعة متسامية، أي تميل نحو قيم مطلقة، ازدادت احتمالات العنف لتحقيقها. وهو ما نلاحظه في خطابات قادة وجماهير الأصوليات الدينية في إسرائيل من تغليب للخطاب العاطفي من ناحية وطرح مطالب ذات طبيعة مثالية متعالية.

أما الشرط الثاني للصراع الداخلي؛ فهو مستوى وعمق شبكات الترابط الداخلي العابرة للتنوعات الاجتماعية الفرعية (الدين، واللغة، والقومية، واللون، والجندر … إلخ)، ويرى كوسر أنه كلما كان التكلس الاجتماعي أعلى كانت احتمالات نشوب الصراع الداخلي أعلى؛ مثل قلة الزواج المختلط، أو قلة الشراكات التجارية المشتركة، أو التجاور الجغرافي للمجموعة نفسها بدافع الحفاظ على الخصوصية لثقافتها الفرعية، وتفرد المناسبات الاجتماعية المشتركة (الأعياد … إلخ)، ولعل الجيش الإسرائيلي هو المؤسسة الأكثر عناية في «إسرائيل» بمحاولة الصهر الاجتماعي على الرغم من أن بعض التشققات بدأت تلوح في الأفق، ولعل التركيز على المخاطر الخارجية واحتمالات الحروب مع جهات متعددة، إيران والمقاومة … إلخ، هو أمر متسق مع تصورات كوسر لتوظيف دور الخطر الخارجي في لجم الصراع الداخلي، وهنا لا بد من دمج منظورَين آخرَين لفهم ديناميكيات الصراع الداخلي، وهما:

1. نظرية التجزُّؤ الهرمي:

والتي تعني أن الفرد ينتمي لأنساق مختلفة يعلو بعضها بعضًا، مثلًا نجد في المجتمع الإسرائيلي فردًا هو: يهودي دينًا، لكنه سفارديمي من أصول يمنية عرقًا، وأسود لونًا، وفقير طبقيًّا، وترى هذه النظرية أنه كلما تنازع الولاء الأعلى مع الولاء الأدنى انحاز الفرد إلى الولاء الأدنى غالبًا، وهو ما يدفع المجتمعات إلى التشظي، وكلما كانت التنوعات أكثر كانت القدرة على الاندماج أكثر تعقيدًا، كما هو الحال في «إسرائيل» وأغلب المجتمعات الاستيطانية.

2. نظرية دوركهايم حول تقسيم العمل:

وتتلخص فكرة دوركهايم في أن الفرد له ولاءات عضوية وهي مصالح اقتصادية أو مالية أو تجارية أو طبقية … إلخ، وولاءات «آلية» وهي الانتماء الديني أو العرقي أو اللغوي أو الطائفي … إلخ، ويرى دوركهايم أنه كلما اتسعت دائرة الولاءات العضوية ضمُرت أهمية الولاءات الآلية، وهو ما يتضح في أن أكثر من 53% من يهود العالم يعيشون خارج «إسرائيل» ولا يحملون الجنسية الإسرائيلية بفعل وزن الروابط العضوية مع مجتمعاتهم الأصلية التي يعيشون فيها على حساب وزن الروابط الآلية مع يهود «إسرائيل»، كما أن استمرار الجيتوهات الاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي، كما يتضح من بناء المستوطنات الحدودية على أسس إثنية؛ يعزز نزعة الروابط الآلية التي تقوم على تحويل العلاقات الاجتماعية من «لعبة غير صفرية إلى لعبة صفرية»، وهو ما يؤسس لتوترات اجتماعية لاحقة.

نظرة تاريخية للصراع الداخلي في المجتمع اليهودي

ليس ثمة مؤشرات كافية على أن المجتمع اليهودي تاريخيًّا كان أكثر تضامنًا وتكافلًا من غيره من المجتمعات، ذلك يعني أننا بحاجة لرصد التنازع والصراع الداخلي في المجتمع اليهودي عبر التاريخ اليهودي لندلِّل على أن «إسرائيل» ليست خارج النمط العالمي في الصراعات الداخلية، وسنوظِّف ما نستنتجه للتـأسيس لطرح فرضيات مستقبلية حول الصراع الداخلي في المجتمع الإسرائيلي المعاصر.

أولًا: جذور التنازع الداخلي في التشكُّل التاريخي للمجموعة اليهودية:

يُمكن تقسيم التاريخ اليهودي – طبقًا للأدبيات اليهودية تحديدًا – إلى مراحل عدة، وهي:

1. مرحلة الآباء:

وهي المرحلة التي تمتد من القرن 19 قبل الميلاد إلى حدود القرن 13 قبل الميلاد، وتغطي فترة الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وربما تتمثل أبرز جوانب الصراع الداخلي في هذه المرحلة البدائية؛ في الشِّقاق الأُسري العميق بين أبناء النبي يعقوب وخصوصًا بالتآمر على النبي يوسف عليه السلام من قبل إخوته، إضافة إلى الموقف من أبناء زوجات النبي إبراهيم إلى حدِّ وصف التوراة (المحرفة) لإسماعيل عليه السلام بأنه «إنسان وحشي» (التكوين: 12-16).

2. مرحلة التأسيس الديني:

يمكن اعتبار هذه المرحلة التي تبدأ بظهور النبي موسى عليه السلام في القرن 13 قبل الميلاد هي مرحلة التأسيس للتاريخ الديني اليهودي، فبعد الخروج اليهودي من مصر بقيادة موسى توزَّع اليهود إلى قبائل بعدد أبناء يعقوب، وحملت كل قبيلة اسم أحد الأبناء، وتولى كل قبيلة قائد يحكمها، وأُسميت هذه الظاهرة في التاريخ اليهودي بـ «فترة القضاة»، وانفردت واحدة منها وهي «قبيلة لاوي» بأمر الكهانة. وجرت محاولات لتوحيد هذه القبائل، على يد شاؤول، لينتهي الأمر عند تشكيل مملكتَين بعد انتهاء فترة داود وابنه سليمان عليهما السلام، ولكن الصراع الداخلي نشب وبقوة بين المملكتين سنة 928 قبل الميلاد، وكان جوهر النزاع حول «من يتولى الحكم»، أي صراع سياسي محض. ففي المملكة الجنوبية، التي أُسميت يهودا، لم تكن بالحجم الكبير أو الثراء الذي يولد صراعًا، وبقيت إلى أن دمرها نبوخذ نصر سنة 586 قبل الميلاد، أما المملكة الشمالية، السامرة، فكان الصراع الداخلي هو السِّمة الأبرز فيها إلى أن استولى عليها سرجون الثاني وهجَّر سكانها إلى آشور في سنة 721 قبل الميلاد.

3. مرحلة الدولة الحشمونية/المكابية بقيادة شمعون المكابي:

التي توسعت من يهودا إلى مناطق مختلفة جنوبًا وشرقًا خلال الفترة من 142-70 قبل الميلاد، ولكن صراعًا دمويًّا وقع بين أخوين حول عرش والدتهما «شالوم إلكسندره»، ودار صراع مرير بين الأخوين (هيركانس الثاني وأريستوبولوس الثاني) انتهى بزوال الدولة سنة 63 قبل الميلاد على يد القائد الروماني بومبيوس.

4. مرحلة ظهور المسيح:

وقد تباينت مواقف اليهود من المسيح إلى أن وصل الأمر إلى المطالبة بصلبه بوشاية من أحدهم، وهو يهوذا الأسخريوطي، واستمر الخلاف بين اليهود حول المسيح والمسيحية كما سيتضح.

ثانيًا: الحروب الأهلية في التاريخ اليهودي:

عرف التاريخ اليهودي القديم سلسلة من الصراعات الدموية الداخلية، وعلى الرغم من تباين المصادر التاريخية في تحديد بداية الظهور الديني اليهودي، والخلاف حول تقسيمات اليهود المجتمعية، فإن البُعد الذي يهمنا هو الصراع الداخلي بين اليهود، والذي تكرر في مناسبات عدة. وكان من أبرز هذه الصراعات:

1. نشأت حرب أهلية بين «إيلي بن يفني» من سلالة إيثامار وبين أبناء «فينحاس» في القرن الـ 11 قبل الميلاد، وتمثَّل السبب الرئيسي للحرب في محاولة إيلي بن يفني اغتصاب الكهنوت الأعلى من أحفاد فينحاس.

2. كانت أشهر الصراعات بين اليهود في القرن الثامن قبل الميلاد بين مملكة يهودا وما يسمى مملكة إسرائيل الشمالية، واللتين تشكلتا بعد انتهاء فترة حكم سليمان وداود عليهما السلام في حدود القرن العاشر للميلاد، وكانت الحرب بينهما قد تواصلت خلال 17 عامًا، ولعل أدمى مشاهد الصراع بين المملكتين هو الذي دار بين ملك يهودا رحبعام وخصمه في مملكة الشمال يربعام، وتذكر أغلب المصادر أنهم قتلوا من بعضهم الآلاف.

3. الصراع اليهودي السامري: ثمة خلاف ديني عرقي آخر هو موقف اليهود من اعتبار السمرة «مختلفين عن اليهود»؛ حيث يرى السمرة أو السومريون أن توراتهم ليست محرَّفة كما هو حال توراة اليهود، كما أن اليهود يرون أن السامريين هم من قبائل آشور وليسوا يهودًا، ويعودون لمرحلة السبي الآشوري في القرن الثامن قبل الميلاد.

ثمّ ظهرت مشكلة التزاوج بين المجتمع اليهودي الشمالي والآشوريين مما عمَّق الخلاف بين الطرفَين، ولم يعُد السومريون يعترفون إلا بأسفار موسى فقط دون كل النصوص الدينية اليهودية الأخرى.

4. صراع الحشمونئيم – السامري (113-110 قبل الميلاد): ففي سنة 113 قبل الميلاد، شرع هيركانوس في حملة عسكرية واسعة اجتاح خلالها منطقة السامرة ودمَّرها وحوَّل أهلها إلى عبيد، ثم تواصلت حملته شمالًا باتجاه شكيم التي حوَّلها إلى قرية بعد القتال فيها، ثم توجَّه نحو جبل جرزيم ودمَّر فيه معبد السامري، واستغرقت هذه الحرب نحو ثلاث سنوات.

5. شكَّلت الدعوة من بعض التيارات اليهودية، وأبرزها حركة الغيورين أو الزيلوتس، للتخلص من السيطرة الرومانية، في القرن الأول الميلادي موضع نقاش وخلاف حاد بين هذه الحركة، وخصوصًا جناحها المتطرف والمسمى «السيكارى» (حملة الخناجر للاغتيال)، مع تيارات أخرى أبرزها الفريسيون والهيروديون والصدوقيون، خصوصًا حول موضوع شريعة موسى وحول الموقف من المسيح. وكانت هذه الفرق الدينية اليهودية ذاتها مختلفة مع بعضها حول هذه الموضوعات، كما هو الحال في أحلام استعادة مملكة داود عند الفريسيين، واستعادة عرش يهودا عند الهيروديين، وهذه الخلافات هي السمة التي صبغت بنية المجتمع السياسي اليهودي في القرن الميلادي الأول.

6. المتمردون السيكاريون والمتعصبون، 6-73م، شَكَّلَ السيكاري مجموعة انشقت عن اليهود المتعصبين الذين استخدموا العنف ضد اليهود والرومان في مقاطعة يهودا الرومانية. وعملت مجموعة السيكاريين على تحريض السكان على الحرب ضد روما. وعملوا على تدمير الإمدادات الغذائية مستخدمين التجويع لإجبار الناس على القتال ضد الحصار الروماني، بل داهموا القرى العبرية التي مالت نحو التفاوض مع الرومان وذبحوا مئات الأهالي من سكانها لإجبارهم على القتال ضد الرومان، وهو ما يتسق مع بعض الدراسات التي تصفهم بأنهم كانوا مجموعات متخصصة في عمليات الاغتيال، كما أن هناك دراسات تربط بينهم وبين موضوع قلعة «مسعدة»، والتي يتشكَّك فيها العديد من علماء الآثار والمؤرخين اليهود المعاصرين؛ مشيرين إلى أن الأمر لم يكن انتحارًا جماعيًّا بل إن اليهود قتلوا بعضهم بعضًا.

7. مرحلة القائد الروماني كومانوس (48 ميلادي): والتي شهدت اعتداءات السامريين على بعض اليهود في أثناء توجههم من السامرة إلى القدس، وتم قتل عدد من اليهود، فكان رد فعل اليهود إحراق قرى سامرية، فتصدى لهم كومانوس، وتمكن من قتل الكثيرين وأسر آخرين منهم، وبالرغم من أن بعض القادة اليهود في القدس تمكنوا من عقد هدنة بين المتصارعين، فإن نوعًا من حروب العصابات استمرت بينهم، وتركزت الخلافات بين الطرفين حول بعض الطقوس الدينية؛ مثل السَّفَر للقدس وتقديم الذبيحة وبعض العبادات الدينية.

8. كان باركوخبا من القادة اليهود الذين ثاروا ضد روما، وهو ما أدى به إلى الاصطدام مع جماعات يهودية تقبَّلت بعض النصوص المسيحية مثل «الآيبونيين» و«النصرانيين» الذين فروا إلى القدس بسبب اضطهاد أنصار باركوخبا لهم.

ثالثًا: الترابط بين العنف الداخلي قديمًا وحديثًا في المجتمع اليهودي:

يقول الحاخام «لانس سوسمان» إن التاريخ اليهودي يؤكِّد أن الصراع الداخلي لا الوحدة المجتمعية، هو السِّمة التي تغلب على الكثير من الخبرة التاريخية اليهودية، فالتفكك بين السامرة ويهودا والصراع بينهما، إلى جانب الخلاف حول الموقف مع الرومان، ناهيك عن الخلاف حول الموقف من المسيحية؛ مؤشرات على أن صورة التضامن المجتمعي ليست بالمستوى الذي تحاول الرواية اليهودية ترويجه، ويدلِّل سوسمان على رأيه بالإشارة إلى بعض أجزاء التوراة المسماة (فاييتشي) من سفر التكوين، التي يرد فيها الإشارة لتوترات كبيرة بين القبائل العبرية، وتقديم أوصاف عنيفة لبعض الأسباط بأنهم «غير متوازنين»، أو أن القرابة بين بعضهم هي «أسلحة عنف» وبعضهم «أفعى» والآخر ذئب … إلخ، سفر التكوين الآيات 4-27، ليصل في الخاتمة للقول «بالكاد تقدم التوراة صورة للتناغم الأسري عشية التحرر من العبودية المصرية أو عشية التعايش السلمي في إسرائيل (القديمة)».

ويربط ذلك كله بصورة التباين حول تعريف اليهودي في الوقت المعاصر، ثم يربط بين آثار إدراج سياسيين من اليمين المتطرف حاليًّا؛ مثل آفي ماعوز من حزب البهجة أو النعيم، وبتسلئيل سموتريتش من حزب الصهيونية الدينية، وإيتمار بن جفير من حزب القوة اليهودية، وبين اتساع دائرة الاحتقان الحالي، ليس فقط بشأن الحفاظ على قدر ضئيل من الوحدة اليهودية، ولكن حول الطبيعة الديموقراطية و«العلمانية» للمجتمع الإسرائيلي، مما يوصله إلى الاستنتاج بأنه «ليس من المستغرب أن يكون اليهود قد عانوا من صراع مع بعضهم البعض عبر تاريخهم أكثر من كونهم تمكنوا في أي نقطة أو في أي قضية من التوصل إلى أي شيء قريب من الإجماع».

ويكفي التأمل في أي قضية خلافية؛ مثل الصراع بين قوى المجتمع الإسرائيلي المعاصر حول مصير المستوطنات، واليهودية، والتسويات السياسية، والحدود، وتعريف اليهودي وغيرها من الموضوعات.

رابعًا: «إسرائيل» بين الإرث التاريخي ومظاهر العنف الداخلي المعاصرة:

من الضروري التوقف عند حادثتين لهما دلالاتهما في التاريخ الإسرائيلي الحديث والمعاصر:

1. الحادثة الأولى: في يونيو/حزيران من سنة 1948 جلبت منظمة «آرغون إيتسيل» التي كانت يقودها مناحيم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، سفينة «آلتالينا»، وكانت محمَّلة بالأسلحة والمهاجرين وقادمة من فرنسا، وطلبت الحكومة الإسرائيلية حينها والتي يقودها بن جوريون تسليم السلاح للدولة رغبة منها بعدم استفزاز بريطانيا التي اتفقت معها على بعض الإجراءات الأمنية، ولكن بيجن رفض تسليم السلاح مصرًّا على أن يزود منظمته ببعض منه، فدارت معارك ومطاردات بحرية بين الجيش الإسرائيلي وقوات إيتسيل انتهت بمقتل 19 من الجيش الإسرائيلي ومن عناصر إيتسيل.

2. اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين: في نوفمبر/تشرين الثاني 1995 قام شاب يميني متطرف هو «ييغال عامير» باغتيال رئيس الوزراء رابين احتجاجًا على ما عده تنازلات من رابين عن «حقوق يهودية» من وجهة نظره. وتشير الدراسات الإسرائيلية إلى أن «الفتاوى الدينية» من الحاخامات الإسرائيليين بخصوص دعوة الجنود الإسرائيليين للامتناع عن إخلاء المستوطنين من المستوطنات، وإلى تبرير قتل رابين باعتباره مارس سياسات تلحق الأذى باليهود؛ تُعزِّز فكرة أن الدِّين في المجتمع الإسرائيلي يُعد عاملًا مركزيًّا في اللجوء للعنف الداخلي.

خامسًا: تحديد الاتجاهات التاريخية في الصراع الداخلي:

يتبين لنا من الوقائع التي أشرنا إليها، أن السبب «المركزي» لانفجار العنف بين اليهود هو ذو طابع ديني، سواء كان بسبب التفسيرات للنصوص الدينية اليهودية ذاتها، أم في الموقف الديني اليهودي من الأديان الأخرى، أم حول مكانة الدين في الحياة اليومية وعلاقته بالدولة، وخطورة ذلك أن الدين هو الجامع الوحيد بينهم، فهم متباينون لونًا وعرقًا وطبقة، فإذا تأثر الجامع المشترك فإن خطورة العوامل المتباينة أصلًا ستزداد بشكل طبيعي، وقد شكَّل الدين بشكل عام سببًا عبر التاريخ في الحروب الدولية والأهلية قدرته موسوعة الحروب بنحو 6.87% من مجموع الحروب في التاريخ.

ولما كانت نسبة القوى الدينية تتزايد بشكل واضح وخصوصًا منذ سنة 1977 في المجتمع الإسرائيلي، فإن ذلك يعني أن المتغيِّر المركزي للصراع الداخلي قد يفعل فعله كما هو الحال في الخبرة التاريخية الإسرائيلية القديمة، الحروب الأهلية التي أشرنا لها، أو الوقائع المعاصرة، والتي تتزايد مظاهرها كما أشرنا في دراسة سابقة لنا. فإذا أضفنا إلى ذلك صدارة القوة في منظومة القيم اليهودية، فإن ذلك يجمع الدين «كمتغير مركزي في التنازع الداخلي» مع القوة كآلية لتسوية النزاعات، وهو ما يهدِّد التضامن الداخلي في المجتمع الاستيطاني، وهو ما يتناقض مع بعض الأطروحات الأكاديمية الإسرائيلية عن التناغم بين الدين والدولة في المجتمع الاسرائيلي. فقبل ثماني سنوات، قدَّم رئيس «إسرائيل» السابق «رؤوفين ريفلين» محاضرة تحدث فيها عن رؤية مستقبلية للتحولات التي ستصيب المجتمع الإسرائيلي، مشيرًا في ذلك إلى ما أسماه «النظام الإسرائيلي الجديد»، وأبرز ملامح هذا النظام الجديد تتمثل في المظاهر التالية:

1. بينما كان هناك أغلبية علمانية واضحة وحازمة في «إسرائيل» منذ التأسيس إلى نهاية القرن العشرين، فإن هذه الأغلبية سوف تتضاءل، وسيتم استبدال «نظام إسرائيلي جديد» بها خلال السنوات القادمة.

2. سيتألف المجتمع الإسرائيلي في النظام الجديد من أربع مجموعات لكل منها هوية رئيسية، لكن هذه المجموعات ستكون متساوية في الحجم إلى حدٍّ ما، مع عدم وجود مركز مهيمن لأي منها.

3. تتمثل هذه المجموعات الأربع في: اليهود الأرثوذكس (الحريديم)، واليهود المتدينين القوميين (الأرثوذكس الحديثين)، واليهود العلمانيين، ثم العرب.

4. ترتبط هذه المجموعات بثلاث استراتيجيات استنادًا للرواية التي تؤطر فيها المجموعة ذاتها، هذه الاستراتيجيات هي:

  • التقسيم: والذي يتجلى في التجزُّؤ القومي والديني.
  • الاغتراب: ويتجسد في الاغتراب الأرثوذكسي المتطرف بالابتعاد عن المشروع الصهيوني والدولة.
  • التنازل: ويعني مظهرًا من مظاهر التمرد على التقاليد، ورفض المنفى الذي ميَّز توجهات بن جوريون وجيله.

وقد سمحت هذه الاستراتيجيات الثلاث لكل قطاع من المجموعات الأربع التي أشرنا لها بالالتزام بسرد التأطير الخاص بكل منها، دون الاضطرار إلى التعامل مع تداعيات روايات المجموعات الأخرى على الهوية الجمعية الإسرائيلية. وخلال السنوات الثلاثين الأولى من تأسيس «إسرائيل»، كانت هذه الاستراتيجيات ناجحة نسبيًّا في ذلك الوقت، حيث بذل الإسرائيليون جهدًا للحفاظ على إجماع واسع بين المجموعات المختلفة وكانوا حريصين على عدم إخراج الآخرين من هذا الإجماع، لكن الأمر بدأ يختلف منذ ذلك الحين، حيث إن تقليد الإجماع بدأ ينهار وازداد الضغط على كلٍّ من الثلاث الاستراتيجيات المشار لها.

وفي هذا الإطار لا بد من العودة لدراسات «ديفيد باسيج» أستاذ الدراسات المستقبلية الأبرز في «إسرائيل»، ففي كتاباته، يحاول أن يحدد الاتجاهات التاريخية في تطورات المجتمع اليهودي ودورها في فشل اليهود في التحول نحو الأمة ذات السيادة، كما هو الحال في كتابه «الفشل الخامس». ثم يسعى إلى تحديد كيفية تجنب تكرار الفشل اليهودي في المستقبل استنادًا لمعالجة الخلل في الاتجاه التاريخي، كما هو الحال في كتابه «2048»، الذي ينطوي على نظرة مستقبلية حيث تكون «إسرائيل» قد بلغت من العمر مائة عام.

ويبدو أن باسيج لم يتمكن من حل المعضلة التاريخية للوجود السياسي اليهودي، فمن ناحية أدرك دور الحس الديني في تكرار النزاعات في المجتمع اليهودي تاريخيًّا، ولكنه أدرك من زاوية أخرى التطور التكنولوجي ورصد آثاره المستقبلية لا سيما على المنظومات الدينية وخصوصًا تنامي العلمانية كاتجاه تاريخي أعظم، ومن هنا فإن التشبث الإسرائيلي بالمنظومة الدينية التاريخية سيجعلها مفارقة للبيئة الدولية المعاصرة والمستقبلية من ناحية، ولكن اندماجها في تطور المنظومات العقلية والتقنية المعاصرة سيفقدها تدريجيًّا الرباط التاريخي بين اليهود كمجتمع من ناحية مقابلة، وهو ما ينطوي على انغلاق للمستقبل.

وعليه، بحث ديفيد باسيج عن المستقبل «المأمول»، وهو ما نقله إلى التفكير الاستراتيجي لا التفكير المستقبلي المحايد. ولعل هواجس باسيج نحو المستقبل هي ذاتها التي انتبه لها الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز حين أبدى خشيته على الثقافة الدينية من «الشاشة» أو التكنولوجيا بشكل عام، ومال للاعتقاد بأن ثقافة الشاشة ستتفوق على ثقافة الكتاب المقدس.

الخلاصة

أشرنا في عرض نظريات الصراع الاجتماعي إلى آليات عمل الصراع الداخلي في النسق الاجتماعي، ويبدو طبقًا للتاريخ اليهودي بشكل خاص والتاريخ العالمي بشكل عام أن هناك علاقة عكسية بين حدة الصراع الخارجي وبين مستوى وتكرار الصراع الداخلي. فإذا كان الخطر العربي توارى بنسبة مهمة في الذهن الإسرائيلي، فإن تضخيم وتكرار التركيز على الخطر الإيراني وتنظيمات المقاومة يمكن أن يشكَّل آلية ناجحة لامتصاص الاحتقان الداخلي. وقد يتم رفد هذه الصورة بالعودة مجددًا لتعزيز مقولات مناهضة السامية لتكريس صورة البيئة الدولية المعادية، وبالتالي تعزيز التضامن الداخلي.

إن المجتمع الإسرائيلي ليس محصنًا من الصراع الداخلي وصولًا للحرب الأهلية، وهو ما ظهر في مقالات ودراسات عن تزايد هذا الاحتمال وخصوصًا مع الحكومة الجديدة بقيادة بنيامين نتنياهو والقوى الدينية المساندة له، وخلال الفترة من أول مارس/آذار 2023 توالت التحذيرات من قادة عسكريين وسياسيين ومفكرين إسرائيليين من الحرب الأهلية، والتي كان البروفيسور ديفيد باسيج قد حذر من احتمالاتها في سنة 2021، بل لم يستبعد احتمال تفجرها بعد حادث اغتيال شخصية إسرائيلية مقارنًا بين «إسرائيل» وبين دول شهدت حروبًا أهلية بعد تراخي عوامل التماسك والتضامن خلال العقود الثلاثة أو الأربعة اللاحقة لنشوء هذه الدولة. كما تشير استطلاعات الرأي إلى أن 35% من الإسرائيليين يعتقدون باحتمال نشوب حرب أهلية، بينما يرى 60% أن احتمالات وقوع أي أعمال عنف بين اليهود هو أمر ممكن.

وفي ظل هذه المعطيات التاريخية والمعاصرة، فإن احتمالاتٍ ثلاثة هي الأكثر قوة في المشهد الإسرائيلي القادم في المدى الزمني القريب:

  1. امتصاص الاحتقان الداخلي بعمل عسكري خارجي يتناسب مع تقديرات الإدارة الإسرائيلية لعمق الاحتقان الداخلي، أي كلما زاد عمق الاحتقان الداخلي زاد احتمال امتصاصه بعمل عسكري خارجي.
  2. الذهاب لانتخابات جديدة تُعيد التوازنات بين القوى السياسية بهدف العودة للاستقرار، خصوصًا إذا تفاقمت الخلافات داخل الحكومة القائمة، وخصوصًا أن درجة التناغم ليست بالقدر الكافي بين مكوناتها.
  3. احتمالات ظهور مؤشرات أولية على اللجوء للعنف الداخلي من قبل شرائح يهودية خصوصًا ذات التوجهات الدينية المتطرفة، وهو ما قد يكون قابلًا للتوسع.

بناءً على ما سبق، يتوجب على صُنَّاع القرار وعلى قوى المقاومة التخطيط على أساس الاستعداد لتداعيات كلٍّ من هذه الاحتمالات الثلاثة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.