إعادة تشكيل العقل المسلم تتمثل بإعادة بناء مجموعة المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها النسق المعرفي الإسلامي، فالمفاهيم ليست ألفاظًا كسائر الألفاظ، وما هي مجرد أسماء أو كلمات يمكن أن تُفهَم وتُفسًر بمرادفاتها، أو بما يُقرِّب في المعنى إليها، بل هي مستودعات كبرى للمعاني والدلالات كثيرًا ما تتجاوز البناء اللفظي، وتتخطى الجذر اللغوي لتعكس كوامن فلسفة الأمة، خاصةً وأن الأمة تعاني أزمة مفاهيم، فلقد تم تشويه الوعي العربي تمامًا خلال العقود الأخيرة، حتى صار لا يجيد التعاطي مع المفاهيم المجردة، ما جعله يستعيض عن فهم عمق المفهوم برفض بساطة المصطلح، ربما لأن في الأول قلق الفكر، وفي الثاني اطمئنان اليقين. [1]

أمة الثنائيات

انتهى بنا الوضع إلى أن أصبح لدينا ثنائيات مفاهيمية لا تنتهي، بدءًا من العقل والنقل، والتراث والحداثة، والدين والعلمانية، الحجاب والتبرج، الجبر والاختيار… إلخ.

وثنائية المفاهيم تلك انعكست على الواقع، فالمواجهة بين الأفكار تنعكس على الواقع بوضوح من خلال طائفتين تشكلان المجتمع؛ طائفة تثقّفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة، وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة؛ لا يسمعون عن كانط وهنري برجسون، ولا عن أدباء أوروبا وشعرائها، ولا علمائها وأبحاثهم، إلا أسماء تُذكَر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة، لا تغني فتيلًا ولا تستوجب علمًا.

وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة، يعرفون آخر ما وصلت إليه نظرات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة، ويتبعون تطورات الأدب الأوروبي الحديث، وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا؛ ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل؛ فإن حدَّثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل، أشاحوا بوجوههم وأعرضوا عنك، وإن ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا، قالوا: إن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم. [2]

الحضارة والثقافة

وهذه الثنائيات يمكن إرجاعها لأزمة مفهوم الحضارة والثقافة، فقد اتفق المؤرخون على أن الانطلاقات السياسية أو العسكرية الكبرى لا تشكل حضارة، فلابد أن يكون وراءها فلسفة، أيديولوجية معنوية وأدبية واجتماعية، وعندما يكون هناك انطلاقات محرومة من هذه الفلسفة أو الثقافة، فإنها تشبه «غابة لصوص»، سرعان ما تنتهي، فالتتار قديمًا ملكوا العالم يومًا، ولكنهم ملكوه في معارك وحشية سريعة، فتخلص منهم العالم خلال معارك سريعة أيضًا، لم يتركوا أثرًا لأنه ما كان يُسيِّرهم شيء أو فكر، ومحمد علي باشا كاد أن يمتلك الخلافة التركية العثمانية، ولكن لأن المسألة كانت قوة عسكرية فقط، ما وصل إلى شيء. [3]

وإذا نظرنا إلى روسيا السوفيتية، نجد أنها كانت قوة عسكرية عظمى، ولكنها لم تصنع حضارة، فقد أنجبت علماء طبيعة، وعلماء ذرة، وسياسيين، ولكن لا شعراء، ولا رسامين، ولا مؤلفي موسيقى، فليس في الاتحاد السوفييتي فيلسوف واحد يستطيع أن يقف جنبًا إلى جانب مع فلاسفة مثل «هيدجر» أو «ماركيوز» أو «سارتر». [4]

فالحضارة كما يُعرِّفها «ويل ديورانت»، هي: نظام اجتماعي يُعيِن الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. [5]

وهذا يعني أن الثقافة منتج حصري لأي حضارة، وهذا المفهوم يجعل الحضارة والثقافة وجهين لعملة واحدة، إذا ضعف أحدهما ضعف الآخر تلقائيًا. فالثقافة هي التي تعطي الحضارة هويتها وشخصيتها، وتجعلها تضع بصمتها الحضارية على أي منتج في العالم، وفي المقابل فإن الحضارة القوية هي التي تمنح الثقافة قوتها.

والأيديولوجيا التي كانت وراء قيام الحضارة الإسلامية هي ذلك النور الذي بدأ في غار حراء، بينما تلك الأيديولوجيا التي كانت وراء قيام الحضارة الحديثة هي «موت الإله» كما أعلن نيتشه، فالعالم الغربي أقام حضارته على المادة وطرد الدين. فكانت الحضارة الحديثة استمرارًا للحياة الحيوانية، والتبادل المادي بين الإنسان والطبيعة، وهذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. [6]

فكان من الطبيعي أن يكون إنسان الحضارة الغربية، إنسان نيتشه الذي أطلق عليه «الإنسان الأعلى»، هو إنسان متحرر بالكامل من الأخلاق والأديان، من كافة الأفكار المسبقة، حتى إن نيتشه دعا إلى القيام بأفعال خارجة عن نطاق الأخلاق للحصول على «التحرر الكامل». لذا قام أتباعه بإيجاد ما أطلقوا عليه «الجريمة الكاملة»، فقد قال نيتشه:

تخلّص من الضمير والشفقة والرحمة… اقهر الضعفـاء… اصعد فوق جثثهم… هكذا تكون ابن الطبيعة.

وإنسان «جان بول سارتر» الذي رفض من خلال فلسفته أن يكون هناك نظام ما يحدد خطًا للإنسان يسير عليه، فالإنسان جاء إلى الوجود، لا من أجل أن يسير على قضبان من حديد تحدد له الطريق الذي يسير فيه، بل عليه هو أن يحدد طريقة ومصيره بيده، فما الإنسان «إلا مصنع يصنع نفسه». [7]

أمّا الأيديولوجيا التي كانت وراء الحضارة الإسلامية، فهي الدين، فجزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة حتى إذا تجلّت الروح بغار حراء، فمن تلك اللحظة، وَثَبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونًا طوالًا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي، وهذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل ولا المفكرين والفلاسفة، إنما كانت من صنع أناس بسطاء، هم صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم). [8]

فإذا كانت الحضارة الحديثة قامت على نفي وجود الله لإثبات وجود الإنسان، فإن حضارتنا قامت على أن وجود الله هو الضمان لوجود الإنسان. [9]

وأن اللَّه، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسِي اللَّه، ركيزة الكون كلها تنتهي.

«وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ»
سورة الحشر – آية 19.

فكانت الثقافة في مفهوم الإسلام هي تأثير الدين على الإنسان، فالثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي، حيث بدأت بمعرفته سبحانه وتعالى، كما يقول الفلاسفة المسلمون، بدأت في عالم الذَّر، فقد جمع الله الأرواح التي قدر لها أن تولد وسألهم:

«أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ»
سورة الأعراف – آية 172.

وهنالك عَلِمَ الإنسان أنه مختلف عن بقية الكائنات، وأنه صاحب مسئولية، وأنه حر الاختيار. [10]

لذلك عَلّمَ المولى عز وجل آدم الأسماء كلها تعليمًا، ليساعده في مهمته الخلافية العمرانية، ولم يدعه إلى نفسه، واجتهاده في سائر المفاهيم التي تتوقف عليها مهمة الاستخلاف، ومنها مفهوم الألوهية، والعبودية، والزوجية، والأبوة، والبنوة، والأخوة، وغيرها من المفاهيم الأساسية التي تتوقف الخلافة في الأرض عليها، لو ترك وشأنه ليصوغ هذه المفاهيم لاضطرب فيها، وهو ما حدث للإنسان الغربي المتحضر. [11]

وهنا يتضح جليًا أن هناك خلطًا غريبًا بين مفهوم الحضارة والثقافة في العقل المسلم وفقًا لتعريف «ويل ديورانت»، لأن الحضارة لم تزد الإنتاج الثقافي للإنسان ليصبح إنسانًا، بل جعلت من الشهوات والغرائز محركًا لدوافعه، بالفلسفة البراجماتية والنفعية والداروينية، كإنسان «سارتر» الوحيد التائه، الذي يتحوّل إلى إنسان «داروين» الذي يلتهم الضعاف من البشر، أو تلتهمه الذئاب البشرية (إنسان نيتشه)، ثم تحوّل أخيرًا إلى كلب «بافلوف» المسكين القابع في العمل لا يتحرك إلا بعد تلقي إشارات لإشباع شهواته وغرائزه. [12]

وإعادة تشكيل مفهوم الحضارة والثقافة يفسر سر العداء الدائم تجاه الإسلام، رغم أن العالم الإسلامي الآن تابعٌ سياسيًا واقتصاديًا للغرب!!

والسر هنا يمكن في الأيديولوجيا التي صنعت الحضارة الإسلامية، والمنتج النهائي لتلك الحضارة، وهو الثقافة المتصلة بمصدر حضارتها، وهو الله.

وهذا يفسر أيضًا الهجوم الشرش على كل ما يرمز لثقافة الإسلام، خاصة ًالحجاب، وذلك لأنه رمز للتمسك بالهوية، وأن الإسلام رغم ضعفه لازال قادرًا على وضع بصمته الثقافية، فالحجاب رمز لمقاومة الحضارة الغربية ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فهو رفض للنموذج الاستهلاكي، نموذج الموضات، وضرورة تبني الجديد ونبذ القديم، بناءً على أوامر الفرد الأعظم في باريس أو لندن.

كما أن إعادة تشكيل مفهوم الحضارة والثقافة يقضي على ثنائيات هذه الأمة التي تعطلت نهضتها: العقل والنقل، التراث والحداثة، الجبر والاختيار. فالمعرفة التي بدأت في السماء بمعرفة الله، وتعليم آدم الأسماء كلها تُثبت أن الإنسان حر الاختيار، وأنه صاحب مسئولية، لأن له عقلًا يجب إعماله بتراثه لاستنباط ما يناسب عصره.

وأن تلك الفئة التي تثقفت ثقافة إسلامية فقط، وتنظر للحضارة الغربية على أنها شر، أبعد ما تكون عن التزام المنهج العلمي في التفكير، فإننا لا نستطيع أن نرفض الحضارة حتى لو رغبنا في ذلك، ولكن الشيء الضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها. [13]

وكذلك الطائفة الأخرى التي تثقفت ثقافة غربية فقط وتطالب بالتخلي عن الإسلام، فهي أبعد ما تكون أيضًا عن التزام المنهج العلمي في التفكير، لأنه كما لا يوجد دين خالص، ولا يوجد عِلمُ خالص، فالمسلمون يوم هاجمهم التتار، كان التتار أشد منهم قوةً، ولكن المسلمين كانوا أعلى ثقافةً، وأرفع حضارةً، ومن ثَمَّ لم يمض وقت طويل حتى ذاب الغالب (التتار) في المغلوب (المسلمين)، ودخل التتار الإسلام. [14]

بل وهذّب الإسلام هؤلاء الذين كانوا همجًا ووحوشًا، حتى بناء الإمبراطور المغوليّ «شاه جهان» أحد عجائب الدنيا «تاج محل» تخليدًا لحبه للأميرة «ممتاز محل».

فإعادة تشكيل مفهوم الحضارة والثقافة في العقل المسلم تكشف كوامن فلسفة حضارة الأمة، في أن الثقافة هي تأثير الإسلام على المسلم، مصداقًا لقوله:

«وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
سورة الأنعام – آية 153.
المراجع
  1. نصر محمد عارف، «الحضارة الثقافة المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم»، ص7.
  2. أحمد أمين، «فياض الخاطر»، مؤسسة هنداوي، ص41.
  3. محمد الغزالي، «كيف نتعامل مع القرآن»، نهضة مصر، ص224.
  4. على عزت بيجوفيتش، «الإسلام بين الشرق والغرب»، الطبعة الثانية، دار النشر للجامعات مصر، 1997، ص154.
  5. ويل ديورانت، «قصة الحضارة»، جـ1، ص3.
  6. على عزت بيجوفيتش، «الإسلام بين الشرق والغرب»، مرجع سبق ذكره، ص91.
  7. يوسف كرم، «تاريخ الفلسفة الحديثة»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص413.
  8. مالك بن نبي، «شروط النهضة»، دمشق، دار الفكر، 2006، ص51.
  9. عبد الوهاب المسيري، «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر»، ص138.
  10. على عزت بيجوفيتش، «الإسلام بين الشرق والغرب»، مرجع سبق ذكره، ص21.
  11. نصر محمد عارف، «الحضارة الثقافة المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم»، مرجع سبق ذكره، ص9.
  12. عبد الوهاب المسيري، «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر»، مرجع سبق ذكره، ص319.
  13. على عزت بيجوفيتش، «الإسلام بين الشرق والغرب»، مرجع سبق ذكره، ص93.
  14. محمد الغزالي، «المحاور الخمسة للقرآن الكريم»، ص122.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.