يكثُر الكلام عن ضرورة الاجتماع وأن الإنسان مدني بطبعه كما يقول الحكماء؛ ولكن ما يقِل الكلام عنه – وهو مُبرَّر في ظل الحالة السياسية العربية الراهنة – هو ضرورة الدولة ككيانٍ يُنظِّم ويُحافظ على هذا الاجتماع.


نتاج اللادولة والأمة البرجوازية

يقول د. عزمي بشارة إن «مجرد فصل المجتمع عن الدولة يعني تطابقه مع الاقتصاد (أي سياسات السوق الحُر) من جهة، ومع الأمة (أي كقوميةٍ شمولية) من جهةٍ ثانية، أي أنه يعني الأمة البرجوازية».

ويُوضِّح بشارة مدى بشاعة هذا الشكل من الاجتماع فيقول:

المجتمع من دون دولة هو المجتمع بكل تخلّفه، وشيفونيته، وتعصُّبه، وانغلاقه، وذكوريته، وكُرهه للأجانب ولغير المألوف، واحتقاره للمرأة والطفل، وتجاوز الحق العام من قِبَل المصالح الخاصة

ويؤكد أنه في مثل هذه الحالة تكون الدولة أكثر مدنيةً من المجتمع!

فالدولة ضرورية لإنتاج المجتمع (المدني)، وهو نتاج تحديد العلاقة بين الدولة المحتكرة للقوة، وبين مجتمعٍ المفترض أن يكون مصدر شرعيتها.


الدولة كأزمة بعد أن كانت ضرورة

يصبح المجتمع في تلك الحالة بين نارين، بين أمرين أحلاهُما ليس مُرًّا فحسب، بل مُميتاً!

فالمجتمع يقع بين اختيار اجتماع مُتزَمِّت مريض غير واضح المعالم، وبين اختيار الدولة المُستبدَّة الديكتاتورية، وهي في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن تلك الأمة البرجوازية؛ فالتخلُّف، والانغلاق، وكُره غير المألوف، وتجاوز الحق العام من قِبَل المصالح الخاصة وغيرها من السلبيات أمور يزخر بها تاريخ الدولة العربية.

تم تأسيس مصر الحديثة بناءً على طموح رجل – محمد علي – ولم تُؤسَّس بناءً على عقدٍ اجتماعي أو نحوه، وشكل التجنيد الإجباري الوحشي – والذي كان يفر منه المصريون بتشويه أجسادهم – عصب هذه الحداثة، ولم يكن للتجنيد أن يتم إلا بالسيطرة التامة على المساحات وأجساد الناس، وهو الأمر الذي قامت به بيروقراطية الدولة الحديثة على أتمّ وجه.

يقول د.خالد فهمي عن البيروقراطية وما فعلته – وتفعله – بالمصريين:

تأميم الدولة للسياسة والحريات، وظاهرة هجرة/ هروب الشباب، والاعتقال، والقتل، والإحباط، وحالات الانتحار، مفردات من السخافة تناولها بمزيد إيضاح أو تدليل؛ فقد أصبحت مفردات مرادفة أو ذات علاقة وثيقة على الأقل بمفردة – كلمة – الدولة في أذهاننا.


العشيرة/ القبيلة كجماعة وسيطة

تم ضغط الناس والأشياء ليكونوا على مقاس مكانٍ (مُسجَّل)، خانة يفرضها عليهم دفتر أو خريطة أو كشف التمام. لا شيء يُمثِّل طغيان الكلمة المكتوبة وأثرها على الأشياء أكثر من مصطلح (قيد)، وهو مصطلح مُحمَّل بأفكار السلطة والتحكم ويتضمن أفكار الخضوع والعبودية.

يختلف المفكرون حول علاقة العشيرة بالمجتمع المدني، فبحسب د. برهان غليون فإن «البنى الاجتماعية ما قبل الدولتية مثل (العشيرة) بقيمها التكافلية وعصبيتها، تُشكِّل جزءًا من المجتمع المدني الذي يبقى بعد تأسيس الدولة».

لكن د. عزمي بشارة على عكسه يرى خلاف ذلك كما هو واضح من كلامه عن ضرورة الدولة لإنتاج المجتمع المدني، لكنه أيضًا يؤكد على الدور الهام الذي تقوم به العشيرة في حالات تسلُّط الدولة، فيقول:

في حالة الاستبداد، ومع انغلاق السُّبُل أمام تشكيل التنظيمات المدنية خارج السلطة السياسية، يلجأ الناس إلى الكيانات الاجتماعية، ما قبل الدولتية، الوشائجية التضامنية غالبًا كالعشيرة والقبيلة، لغرض الحماية والأمن.

فعلى هذا، فالعشيرة بين أن تكون من صور المجتمع المدني أو من الجماعات الوسيطة التي ترفض بطش الدولة وتقوم بحمايةٍ ما للمجتمع، والحقيقة أن العشيرة – كما هو الحال في مصر – جماعة وسيطة وليست من مؤسسات المجتمع المدني، فإن العشيرة لا تُقحِم نفسها في مهمة مراقبة الحكومة ولا تمايز المجالات (السياسي والاقتصادي والديني) وهما مهمتان أساسيتان للمجتمع المدني، وأيضًا فإن آليات العشيرة تختلف في كثيرٍ من الحالات مع آليات المجتمع المدني القائمة على التمايز بين المجالات المختلفة.

تظهر أهمية العشيرة في الوقت الحالي بعدما أُغلِق المجال العام – ومنه بالطبع المجتمع المدني – تمامًا في مصر، فالمجتمع المدني بخلاف العشيرة (تكمن مشكلته البنيوية الأساسية في عدم قدرته على إعادة إنتاج ذاته اجتماعيًّا؛ وبالتالي عدم تعبيره عن قوًى اجتماعيةٍ حقيقية).

أما بالنسبة لعلاقة العشيرة بالدولة فيجب أولاً الإشارة إلى العُرف – كحلّ اجتماعي يُغني عن طول الإجراءات القانونية وغُربتها الثقافية – والثأر في الصعيد كمفهوم ذي مقدرةٍ تحليليةٍ كبيرة، ففي ظل غيابٍ شبه تام للعُرف والثأر في الوجه البحري؛ يمكننا أن نفهم الوضع الخاص للعشائر في الصعيد والقبائل في شبه جزيرة سيناء وفي الواحات في الغرب.

يُعَنوِن ابن خلدون لبابٍ في مقدمته بقوله: «في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم»، وفي موضع آخر من المقدمة يتحدث ابن خلدون عن أهل الحضر الذين لا عصبية لهم – لا عشيرة ولا قبيلة -: «فقلّ أن تصيب أحدًا منهم نعرةٌ على صاحبه، فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كلّ واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفةً واستيحاشًا من التخاذل».

عندما تحمي العشيرة/ القبيلة – كجماعةٍ وسيطةٍ قوية – أبناءها والقريبين منها من بطش الدولة، فهي تحافظ على ما تبقَّى من هامشٍ صالحٍ للحياة في هذه البلد!، وتحافظ في الوقت ذاته على النذر اليسير والذي يمكن أن يسمى مجازًا – ومجازًا فقط! – برشادة الدولة.

العشيرة/القبيلة تملك وسائلها الخاصة من الرفض والتفاوض والتفاهم مع الدولة والتي لم يكن منها في يومٍ من الأيام الثورة على النظام، ولعل هذا من أهم الأسباب التي يصلُح أن يُجاب بها على سؤال (لماذا لم يثُر الصعيد؟!).

الاجتماع الذي تشكله كيانات ما قبل الدولة – كالعشيرة والقبيلة – ضروري لإعادة تأسيس وترميم ما تبقَّى من هذه الدولة، لعلَّ وعسى فى يومٍ من الأيام أن نتمكن من بناء مجتمعٍ مدني قوي يُعبِّر عن مجتمعٍ حقيقي! ولا يُعبِّر عن أيديولوجيات أو نُخَب سياسية تُقيم في المركز ولا تذكر الأطراف والمُهمَّشين إلا في الانتخابات.

المراجع
  1. عزمي بشارة: المجتمع المدني: دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط6 2012.
  2. خالد فهمي: كل رجال الباشا، دار الشروق، ط4 2014.
  3. عزمي بشارة: ليس المجتمع رديف الخير ولا الدولة رديف الشرف، العربي الجديد 14/ 12/ 2015.
  4. مقدمة ابن خلدون.