تحددت ملامح الحياة في المجتمع المثالي بالفكر الفلسفي الإغريقي في قيام كل فرد بالوظيفة التي تتناسب مع قدراته التي حبته إياها الطبيعة، ومن هنا بدأت معالم التمييز الطبقي كأساس لوجود المجتمع المثالي عند اليونان القدماء، فالأمر لا علاقة له بالتقسيم الوظيفي بقدر ما يرتبط بما سماه «بولانتزاس»: «السلطة كممارسة طبقية»، فالفكر النظري اليوناني كانت تشغله التأملات النظرية عن العدالة وممارسة الحكم والحقوق السياسية وفن الخطابة السياسية، ونزل بالعمل اليدوي لأدنى الدرجات، حيث ترك الزراعة والصناعة للطبقات الدنيا وللرقيق من الأمم المهزومة، وكذلك كانت الثروة معيارًا للمواطنة، فمن يفقد ثروته يفقد امتيازاته معها بل وحتى حريته، فكان الدين بضمان شخص المدين، وهو التشريع الذي أبطله المشرع اليوناني «سولون».

في ثنايا هذا البحث سنعرض لأبرز مقولات المفكرين والفلاسفة الإغريق مثل: «ثيوسيديدس» و«أفلاطون» و«أرسطو»، والتي تناولت التقسيم الطبقي كشرط لنشأة المدينة المثالية «Ideal City»، وكوسيلة لممارسة الحكم والسلطة.


أولًا: المجتمع الحر عند الإغريق

اهتم الفكر السياسي عند الإغريق بالمجتمع الذي يحكم نفسه «Self- Governing Society»، وقد أدرك المفكرون الإغريق أن المجتمع لكي يكون حرًا، وليتحول إلى نظام اجتماعي متطور يضمن تنافسية واستدامة النمو الاقتصادي؛ لابد من ثلاثة عوامل أساسية هي: حكم القانون، وثبات الدولة ومؤسساتها، وسيطرة سياسية متماسكة على مصادر العنف الاجتماعي. وهنا تبرز الفروق بين ما يعرف باسم الدولة الطبيعية «Natural State»، وهي الدولة التي يبرز فيها عنصر النسبية، فإذا كانت المجموعات الأقوى بالمجتمع لديها عوائد من ممارسة العنف، فتفرد لهم الحوافز للتعاون عن طريق تحجيم المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تكون وتدير الموارد، فيتلقون هذه العوائد بالتناسب مع إمكانياتهم.

وعلى العكس، يقوم المجتمع المثالي بتقييد استفادة طبقة ضيقة من المجتمع بعوائده، وبالتالي تتوزع القوة السياسية والفرص الاقتصادية، بشكل أكثر عدالة ولشريحة أوسع من السكان.


ثانيًا: أبرز أفكار الإغريق عن المجتمع الحر

رأى المفكرون الإغريق أن تنظيم وشكل المجتمع يتلازم مع أداء الدولة لوظائفها، وهنا برزت أهم الأفكار والنظريات للإغريق لتفسير هذا التلازم وأهمهم «ثيوسيديدس».

ثيوسيديدس

كان مؤرخًا ورائدًا في نظريات العلاقات الدولية، ومنظرًا للسياسة الداخلية وناقدًا ومحللًا. وكثيرًا ما انتقد ثيوسيديدس الديموقراطية الأثينية، ورأى أنها ممارسة خاطئة تؤدي بالدولة إلى الهلاك والهزيمة، كل ذلك لأن الديموقراطية الإثينية لم تفرق بين المواطنين الإثينين حسب الثراء، فرأى أن عملية صنع القرار تتم بشكل عشوائي من مجرد أناس لا يملكون الخبرة أو العلم الكافي، وأن العلاقة بين المتحدثين والمستمعين قد تغيرت من شكلها الأمثل الذي تمثل بالنسبة له في تواجد خبير سياسي فاضل يعطي النصح والتشجيع لجمهور من المواطنين المستقلين.

بشكل عام نجد أنه قد حمل هذا النموذج اللاطبقي في الحكم هزيمة أثينا الديموقراطية أمام إسبرطة الأوليغارشية في حرب البيلوبونيز (431 ق.م.- 403 ق.م.). لذا رأى ثيوسيديدس أيضًا أن تعافي أثينا من هزيمتها وتحديدًا ابتداءً من القرن الرابع قبل الميلاد يرجع إلى إدماج المجتمع الأثيني وانفتاح مؤسساته بما فيها المؤسسات السياسية أمام غير الأثينين بالتحديد، التجار الأجانب وأصحاب الثروات الغرباء والذين ساهموا في نمو للاقتصاد الأثنيني.

أفلاطون

في كتابه «الجمهورية» والذي كان بحسب البعض أطروحة واقعية مضادة لمدينته المثالية في المحاروات، فأفلاطون يقوم بطرح العجالة بالمجتمع من خلال عنصر تنظيمي يتعلق بقيام كل فرد مقيم بوظيفته، بحيث لا يخرج عن مجال نشاطاته ليتدخل في نشاطات الآخرين، لكن بحسب بعض الباحثين فإن عنصر التفرد هذا يقود إلى تقسيم المجتمع بشكل عام إلى: منتجين وعسكر وحكام، فيما يشبه الحكم القبلي، كما يدفع بذلك «كارل بوبر»، فهو قد نادى بتكوين طبقة من الحرس الخاص مكونة من محاربين محترفين، وطبقة نخبوية من الحكام الفلاسفة.

وقد أدرك أفلاطون خطورة تمايز هاتين الطبقتين وما قد يتبع امتلاكهم وتحكمهم في وسائل إدارة العنف من تحكمهم في عوائد المجتمع الاقتصادية، بحيث إن طبقة العسكر التي تحتكر وسائل استخدام العنف، وطبقة الحكام الفلاسفة التي تملك الخبرة السياسية، يكون اتحادهما طبيعيًا ويهدد رفاهة المجتمع ككل، إلا أنه مع ذلك رأى أن ذلك يمكن تجنبه بنوع من التعليم الخاص، وبتنظيم مؤسسي صارم يختص بشؤون الملكية و الأسرة، وهو ما يقود إلى هيكلة مستمرة لدوافع هاتين الطبقتين، وبما يحفظ توازن المجتمع والمتمثل في تحقيق رفاهية جميع أفراده.

أرسطو

انطلق أرسطو من فكرة أن العنف المقترن بتغيير الأنظمة السياسية هو أكبر تهديد للاستقرار، لذا فقد عرض في كتابه «السياسة» عدة توصيات عملية تهدف لتحسين استقرار النظم السياسية، فكان يرى أن على المواطنين المشاركة بفاعلية في أن يَحكموا وأن يُحكموا، وهو ما يقود بشكل مزدوج إلى استدامة وعدم شخصنة نظام الحكم بالدولة، فتركزت مقترحاته بشأن استقرار نظام الحكم على تصميم مؤسسات جهاز الدولة، بحيث تقلل من إمكانية إخضاع المجتمع أو استغلاله من قبل أي مجموعة ذات نفوذ وتأثير، سواءً كانت أقلية ممثلة في النخب أو أكثرية ممثلة في الجماهير. وأن يقوم كل المواطنين بأداء الخدمة العسكرية بالتناوب، وكل المواطنين لابد أن يمتلكوا قطعتين من الأرض واحدة منها قرب حدود الدولة، وبالتالي يتواجد الحافز الدائم لصد أي تدخل خارجي.

لكن مفهوم المواطنة لدى أرسطو وإن اختلف عن نظيره لدى أفلاطون والذي كان قائمًا على الوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها الفرد داخل طبقات المجتمع، إلا أن أرسطو صنف المجتمع أيضًا بين مواطنين وهم أصحاب الأرض الأصليين والبالغين من الذكور الإغريقيين، وبين غير مواطنين وهم النساء والأطفال والحلفاء المقيمين والعبيد.

وبناءً على قصر أرسطو للحكم واحتكاره من جانب هؤلاء المواطنين تنشأ بحسب البعض نوع ما يسمى بأرستقراطية الذكور البالغين، والتي ترتبط قدرتهم في القيام بوظائف الحكم والدفاع بالتفرغ الكامل للتعليم والنشاط السياسي، وبالتالي تصبح باقي الطبقات عمليًا في سبيل تلبية احتياجاتهم.

الخاتمة: أراد المفكرون الإغريق صياغة نظرية تقلل من مساوئ حكم الغوغاء وتكرس لحكم نخبوي مستنير ومستقر، وذلك بغض النظر عن الشكل الذي يمكن أن يأخذه أثناء الممارسة السياسية، كما أننا لا يمكن أن نغفل أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي أحاطت بتلك الفترات كان لها أثر كبير في تبنيهم لهذه الأفكار، فأفلاطون شاهد معلمه «سقراط» و هو يعدم رافضًا الهرب وملتزمًا بحكم القانون، كما أن كلًا من «ثيوسيديدس» و«أرسطو» شاهدا تفوق النموذج الطبقي المحكم لأسبرطة الأوليغارشية على حساب أثينا الديموقراطية، وهو بالتأكيد ما كرس لفكرة التمايز الطبقي المحكم في سبيل ممارسة النخبة المستنيرة لمهام الحكم، ولترجمة ذلك في صالح رفاهية الجميع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.