ينكر الليبراليون أي التزامات تجاه الآخرين، فهم يتنصلون من أي مسئولية تجاه أقرانهم في المجتمع، إلا أنهم يؤمنون بأنه لدى الأفراد أينما كانوا – ما عدا بعض الحالات الاستثنائية – واجبات مفروضة عليهم تجاه الآخرين، وهي أن لا يُسبّبوا لهم الأذى في حياتهم أو حرياتهم أو صحتهم أو ممتلكاتهم. وعلى حد تعبير «جون لوك»، فلأن الناس جميعهم متساوون ومستقلون، فلا يحق لأي كان أن يلحق الأذى بغيره ويمنعه من التمتع بهذه الممتلكات، فهذه الحقوق والواجبات مترابطة فيما بينها، ولأنها عامة فإنها تحت ظروف معينة تسمح بأن يتمتع بها الجميع وفي الوقت نفسه.

إن الأساس الذي تستند إليه النظرية الليبرالية الكلاسيكية هو القاعدة العامة التي تُوصي بحقوق الناس وعدم جواز قتلهم أو جرحهم أو سلبهم، فيذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أن الالتزامات الخاصة في ظل الظروف الطبيعية على أقل تقدير يجب أن تتم بالموافقة أو القبول ولا يمكن فرضها من جانب واحد على الآخرين، فالمساواة في الحقوق تعني أنه لا يحق لبعض الناس فرض الالتزامات على آخرين بكل بساطة، لأنهم بذلك ينتهكون الأسس الأخلاقية كما ينتهكون حقوق الآخرين أيضًا.

من ناحية أخرى، تذهب الجماعانية (وتعني نزعة تميل إلى الاهتمام بالجماعات ومصالحها العامة على حساب الأفراد والمصالح الشخصية) إلى أننا نُولد جميعًا بالتزامات معينة كثيرة، مثل إعطاء هذا الكيان من الأشخاص الذي يُطلق عليه الدولة (أو بشكل أكثر غموضًا الأمة أو المجتمع أو الناس) الكثير من الطاعة والمال أو حتى حياة المرء، ويتصور الجماعانيون أن مثل هذه الالتزامات يمكن أن تُفرض بالقوة في الحقيقة.

وفقًا لـ «تشارلز تايلور» و«مايكل ساندل»، فإن الإنسان لا يتشكل بواسطة حقائق النشأة والتجارب فحسب، بل بواسطة مجموعة الالتزامات المعينة المفروضة عليه. إذن، فإن الخلاف الحقيقي بين الليبراليين الكلاسيكيين والجماعانيين ليس حول الفردانية بحد ذاتها، بل حول مصدر الالتزامات المعينة، ما إذا كانت إلزامية أم اختيارية.

الجماعة في مواجهة الفرد

بالنسبة إلى الجماعاني مايكل ساندل، فإنه يرى أن الهروب من أثر محيطنا مستحيل، وأن الاستقلال المطلق للذات عند كانط هو وهم ليبرالي، فلا وجود لذات تستطيع البقاء خارج المجتمع أو خارج التجربة، فنحن عبارة عن سلسلة من الرغبات والأهواء بحيث لا يبقى لنا أي مجال يتيح لنا السكن بعالم نوميني (هو عند كانط عالم العقل المحض، عالم مستقل تمامًا عن شروط التجربة الحسية).

كذلك يقول الفيلسوف الأسكتلندي «ألسدير ماكنتاير»:

إن الذات التي ليس لديها محتوى اجتماعي وليس لها بالضرورة هوية اجتماعية يمكن ألا تكون شيئًا، ويمكن أن تفترض أي دور أو تأخذ أي وجهة نظر لأنها لا شيء، فمن خلال انتماء الفرد لمجتمعات مختلفة فإنه يحدد نفسه ويتم تحديده بواسطة الآخرين، فأنا أخ أو عم أو حفيد، عضو في هذه الأسرة، هذه القرية أو القبيلة، فهذه ليست خصائص تنتمي إلى الأفراد عن طريق الصدفة ليتم التجرد منها من أجل اكتشاف ذاتي العميقة، ولكنها جزء من جوهري، وتحدد -جزئيًا على الأقل وفي بعض الأحيان – كل التزاماتي وواجباتي. (1)

أما بالنسبة لنظريات عصر التنوير والليبرالية، فإنها تدرس الفردية المجردة حيث تحث الناس على العيش كالغرباء، وأن يكون لهم شيء خاص بهم وتكون لهم حقوقهم الخاصة الآمنة، حيث يعتبر المجتمع مجرد جهاز لحماية هذه الحقوق دون أن يتجاوزها. ويرى هيجل أن فكرة عصر التنوير بخصوص الحرية الذاتية بداخلها تناقض، وأنه يمكن من خلال عقيدة متماسكة التغلب على هذا التناقض، حيث تكون الحرية والمجتمع متناسبين معًا بصورة عقلانية، ومن ثَمَّ يمكن إعادة الذات المتحررة إلى الأرض وإلى الحياة السياسية المعقولة والمُرضية. (2)

التزامات مجتمعية

يتصور مايكل ساندل أن الجماعة يمكن وصفها على أنها ليست مجرد مشاعر، ولكنها نمط الفهم الذاتي الذي يُشكّل جزئيًا هوية الفاعلين، فيقول:

لكي نقول إن أعضاء المجتمع مرتبطون بحس الجماعة أو الشعور بالانتماء للمجتمع، لا يمكن ببساطة أن نقول إن عددًا كبيرًا منهم يعتنقون مشاعر جماعانية ويسعون وراء أهداف جماعانية، لكن لابد أن يدركوا أن هويتهم وذواتهم – وليس فقط تطلعاتهم ومشاعرهم – تتحدد من خلال المجتمع الذي هم جزء منه أو ينتمون إليه، فالمجتمع بالنسبة لهم ليس علاقة نختارها ولكن انتماء يكتشفونه، ليس مجرد سمة ولكن مكون لهويتهم، بخلاف التصورات الأداتية والوجدانية للجماعة، ونحن ربما نصف هذه الرؤية القوية على أنها تصور تكويني. (3)

وبالتالي، يقر الجماعانيون بمجموعة من الالتزامات المفروضة علينا نتيجة انتمائنا لمجتمع معين، ويرون أننا ندين لهذا الكيان بالمال والطاعة وحتى الحياة، لذلك فإن فعل التضحية مفروض علينا، وهي ليست تضحية فردية وإنما تضحية مشتركة، فيرى الجماعانيون أنه بالنظر إلى العائلة فإنه لا يمكن التفكير فيها بصورة صحيحة كمجرد جمعية للأفراد يتقابلون معًا لأغراض مشتركة، فنحن نُولد في عائلات لا نستطيع اختيارها، فسواء أحببناها أم لا فإننا لا نستطيع تغييرها، فـ «أنا سأظل دائمًا ابن هذا الشخص وأبًا لشخص آخر ولا يمكنني التراجع عن هذه الحقائق، فإن ما يربطنا بهذا الفرد من الناس بدلاً من غيره ليس مجتمعًا مُغرِضًا ولكن مجتمع شعوري، ومع ذلك فإننا بالطبع لدينا مهن واهتمامات خارج عائلاتنا ومع ذلك فإن العائلة نفسها لها مطالب علينا، فنحن بالطبيعة مخلوقات متشكلة عائليًا ونحن علاوة على ذلك متشكلون بواسطة عائلاتنا».(4)

وترى الجماعانية أننا لم نُخلق وعلينا واجبات عامة، ولكن يجب أن نتعلمها حيث إننا نكتسب احترام هذه الواجبات من أهلنا وأساتذتنا والشخصيات الدينية والقادة الروحيين ورؤساء الحركات الاجتماعية، أي من جميع الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقة خصوصية قوية، ويتصورون كذلك أن دور المجتمعات في إدخال وتدعيم التزاماتنا الأخلاقية يساعد على تعزيز النظام الاجتماعي.

التزامات طوعية

أما الليبرالي فيمكن أن يقول إنني كائن مستقل بذاتي لست ملزمًا بالارتقاء بالخير العام، وإن حدث وأنني قد ساهمت في تعزيز الصالح العام فإن ذلك يتم ليس عن طريق مباشر وإنما من خلال تحقيق مصلحتي الخاصة، أو ما يشير إليه «آدم سميث» باليد الخفية، بمعنى أنه ومن خلال تحقيق مصلحتي الخاصة يمكن أن أحقق المصلحة العامة، أما المطالبة الصريحة بالالتزام بالرفاه العام، فيرى الليبرالي أنه غير مشروع.

في التاريخ السياسي، توجد فكرة أن الالتزام السياسي الذي يعتمد على الموافقة كان لها دور مهيمن. فطبًقا لإعلان الاستقلال الأمريكي، فإن الحكومة قد استمدت سلطتها من موافقة المحكومين، وذلك لأن فكرة أن الشعب يجب أن يوافق على التزامه للحكومة مدعومة بنظرية ليبرالية سياسية كبيرة لقيمتي الحرية والاستقلالية، ويؤكد الليبراليون على الالتزامات الطوعية ويرفضون أي التزام قسري.

يرى الفيلسوف الأمريكي «رونالد دوركين» أن المجتمع السياسي مثل الأسرة يُولِّد التزامات معينة، حتى بين من لم يختاروا أن يكونوا أعضاء فيه، ويرى مايكل ساندل أنه بالنسبة للعدالة الليبرالية فإنها تتطلب أن نحترم حقوق الناس، وفيما يتعلق بما إذا كان يتعين علينا أن نهتم بمصالح الآخرين فإنه يتوقف على ما إذا كنا قد وافقنا على ذلك معهم، مما يعني ضمنًا أنه لا يوجد التزام سياسي بالمعنى الدقيق للكلمة. (5)

إذن، ووفقًا للجماعانية، فإنه لكي أكون مواطنًا يعني أنني مرتبط بغايات وأهداف وروابط اجتماعية لم أخترها، وكنتيجة لذلك فأنا مدين بالكثير لهذا الكيان المسمى بالمجتمع وخاصة المجتمع المحلي، ومدين لغيري من المواطنين، فأنا لا أختار صفاتي ولا علاقاتي ولا المجتمع ومع ذلك فأنا مُلتَزم تجاهه، وذلك بعكس الرؤية الليبرالية لكانط ورولز التي ترى أنني ملزم فقط للأشياء التي اخترت الالتزام بها.

المراجع
  1. Alasdair Macintyre, “After Virtue: A study in moral theory”, Indiana, University of Notre Dame Press, 1984. pp 32-33.
  2. Charles Taylor, “On the revival of Hegelian political thought: Hegel and modern society”, Cambridge, Cambridge University Press, 1979. pp 155-170.
  3. Michael Sandel, “Liberalism and the limits of Justice”, Cambridge, Cambridge University Press, 1982. pp 143-150.
  4. Gordon Graham, “Contemporary social philosophy”, Oxford, 1998. P 14.
  5. Michael Sandel, “Justice: What’s the right thing to do?”, New York, Farrar, Straus and Giroux, 2009. p 116.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.