يدرك العالم الغني أن ملايين اللاجئين الذين لن يكون لهم خيار غير الاتجاه شمالًا، السيناريو الذي تحقق في بنغلاديش منذ سنوات في غرق جزر متعددة في خليج البنغال، قادمون لا محالة. قد يكون السبب غرق جزيرة في آسيا أو جفاف ساحق في إفريقيا، سيحاول البشر دائمًا الحفاظ على بقائهم.

رأينا في الجزء الأول كيف ارتج نظام إفريقيا البيئي الدقيق وتهاوى على سكانه. ورأينا كيف تسبب ذلك في ضياع بوصلة المجتمعات وعلاقتها ببعضها. هنا نجول في علاقة القارة بالدول الاستعمارية في الماضي والحاضر، بل في المستقبل أيضًا.

هل صنعت الحرب الباردة بقصر نظرها دولًا مصممة خصيصًا لتكون فاشلة؟ وما التداعيات التي ستنتج عن استمرار قصر النظر هذا؟


الهلع القاتل

طبقًا للمصادر التي يوردها كريستيان بارينتي- الصحفي الاستقصائي والأكاديمي بمجال الاقتصاد والجغرافيا صاحب الاهتمام الأبرز بالبيئة والمناخ- بالتفصيل في كتابه «مدار الفوضى»، فإن التخطيط للتعامل العسكري مع تبعات كوارث تغير المناخ يحمل سمة التخطيط لحرب حقيقية. وبينما يعرض بارينتي منهجين للتعامل مع الأزمة فإن الولايات المتحدة حتى الآن قد اتجهت إلى معسكر أسماه بارينتي بـ«قارب النجاة المسلح» في مقابل منهج تنمية المناطق المتضررة والالتزام بمكافحة تسليح هذه المناطق واندلاع الحروب فيها ومساعدتها على التكيف مع تبعات تغير المناخ وتخفيف مأساته.

تقرير شفارتز وراندول

في الواقع لا يقتصر الخطر فقط على اللجوء. يشير بارينتي إلى أن الأجهزة التي ستوكل إليها حماية الشمال ستلجأ رويدًا رويدًا إلى التضييق على حريات مواطنيها أنفسهم خوفًا من الانزلاق إلى نفس الهاوية التي سقطت فيها الدول الأكثر فقرًا. ستتحول المناطق التي تمتلك قوت يومها –وبعض السلع الترفيهية- إلى فاشيات بسبب الرعب. لن يطول ذلك حتى يتم استنزاف مواردها الداخلية بين الاستهلاك وبين التحصين حتى تنهار هي أيضًا على نفسها. الأمر الذي لا يبدو أن دعاة منهج «قارب النجاة المسلح» المهتمين بتسليح الحدود وبناء «الحوائط» بينها وبين الدولة غير المستقرة قادرين على استيعابه.

وبينما يصبح قمع دول الشمال لشعوبها خوفًا مستقبليًا قد بدأ في التحقق على استحياء، فإن قمع هذه الشعوب لحركات التمرد في إفريقيا –ومعها آسيا وأمريكا الجنوبية- كان تاريخًا ومازال حاضرًا بقوة. تعلمت الدول بسرعة أن الجيوش الجرارة لم تعد قابلة للاستخدام في هذه البيئات السائلة والعنيفة، وهكذا أصبح يتم تمويل الميليشيات لقمع الميليشيات. وأصبحت إفريقيا مسرحًا لحرب عصابات لا تنتهي.


مشاهد من قارة مكلومة

تؤدي ندرة الموارد في مرحلة حرجة إلى تفسخ المجتمعات الإنسانية بمفهومها الحديث. من هذه النقطة تبدأ الحروب الأهلية على نمط حروب الشوارع في الاندلاع. تتراكم آثار عجز الحكومات الدكتاتورية عن توفير أي بنى تحتية حتى يتلاشى معنى وجود دولة من الأساس. لم تبدأ مشكلة إفريقيا من الاحترار العالمي، ما تعانيه إفريقيا هو انعدام قدرتها على مجابهة هذه التغيرات المناخية. لماذا؟

تمثل حرب أوغادين مثالًا واضحًا على ما عانته دول القارة وشعوبها من تلاعب أفقدها أي إمكانية للعمل نحو تطوير نظم بدلًا من الزراعة والرعي. في مثال اّخر للمصائب التي تسببت فيها أوروبا وتمزيقها للخرائط وما عليها من مجتمعات، استعرت الحرب بين الصومال وإثيوبيا على منطقة أوغادين الإثيوبية التي كان يسكنها صوماليون لم تشملهم اتفاقية التوحيد عند إعلان استقلال الصومال.

بينما كانت الحرب ظاهريًا بين دولتين إفريقيتين إلا أن الواقع كان أن أرض المعركة حملت تجهيزات ودوافع دولتين تتناطحان في حرب أخرى، السوفييت وكاسترو من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى.

أنفق المعسكران المتناحران بلايين الدولارات لتسليح طرفي الصراع الذي لم يخمد إلى الآن حتى بعد الهزيمة التي مني بها الطرف الصومالي. تلك البلايين التي لم يتم صرفها لمساعدة الصوماليين في أي من محاولات تدشين دولة حقيقية قادرة على الوقوف في وجه سياد بري الذي نشرت أسلحته في أرجاء المنطقة في أيادي القبائل. ومع استمرار الترنح، لم تكن الصومال قادرة نهائيًا على التفكير في الاحترار العالمي وتأثيره على بيئتها.

في العام 1978 الذي شهد النهاية الصورية للحرب الصومالية الإثيوبية ومشارفة الحرب الزيمبابوية على الانتهاء مدشنة مرحلة جديدة الانتهاكات الإنسانية، اندلعت الحرب الأوغندية التنزانية. ولن يمر الوقت حتى تحترق رواندا والكونغو المثمرة التي جف نهرها في نفس الآتون مخلفين ملايين القتلى.

لم تدع سيول الدم هذه فرصة للدول الإفريقية لتنفيذ أي إجراءات احترازية لتخلي الدول الكبرى عنها بعد أن برد وطيس الحرب الباردة عنها وترك السوفييت والأمريكان هؤلاء الجنود السابقين ليلاقوا مصيرهم لولا بعض المساعدات من حين لآخر. انتهت الحروب الخارجية لكن بقي السلاح متوفرًا. وفي كينيا نرى مشهدًا لما يمكن فعله بهذا السلاح.


مجتمعات أنهكها الاشتعال

قد تبني الدول التي تمتلك الموارد قلاعًا افتراضية حولها، للحفاظ على هذه الموارد لمصلحتها.. ومع اندلاع المجاعات والأوبئة والكوارث المرتبطة بالطقس والناجمة عن التغير المناخي المفاجئ ستتجاوز حاجات العديد من الدول قدرتها على التحمل. سيخلق هذا شعورًا باليأس يمكنه ان يقود إلى هجوم عدواني لإعادة التوازن.. ستعاني أوروبا داخليًا، حيث تقتحم أعداد كبيرة من اللاجئين شواطئها.
يدفع الطقس المتطرف شمال كينيا نحو التصحر، وهذا يعني أن على الرعاة أن يتنافسوا على الماء والكلأ. الوضع سيئ جدًا في بعض الأماكن بحيث يقتل الناس بعضهم بعضًا من أجل الماء.. إطلاق النار للتحكم في الآبار والمراعي. ربما كان هذا المثال الأكثر مباشرة على إثارة تغير المناخ للعنف.
كريستيان بارينتي، مدار الفوضى

في دول إفريقيا التي لم تعد قادرة على توفير الأساسيات لشعوبها، تصبح قطعان الحيوانات هي كل شيء، هل الآمر الناهي والمحدد النهائي لأي طبيعة علاقة ترتبط بين القبائل المتجاورة أو بين الأفراد داخل الأسرة الواحدة. من خلال قطعان الحيوانات تنشأ التحالفات المسلحة وتنهار، وتتم إبادة القرى وتفريغ الوديان من سكانها.

يعمل 70% من سكان كينيا بالزراعة، ويعتمدون على فصلين مطيرين هما الربيع والخريف. كانت فترات الجفاف الكبير تتلو الدورات المناخية التي كانت تستغرق 10 سنوات فيما مضى، ثم أصبحت كل 7 ثم 5 ثم كل عامين. الآن أصبحت موجة الجفاف تضرب كينيا بأكملها كل عام تقريبًا.

لا ينفصل العنف في دول شرق إفريقيا عن بعضه. تعتمد قبيلة البوكوت في هجومها على الحرية –المسلحة- للانتقال عبر الحدود الكينية والأوغندية ذهابًا وإيابًا مما يسمح لها بالإغارة على توركانا كينيا والبيع لسماسرة أوغندا الذين يوفرون السلاح. ترد التوركانا على الغارات بغارات صانعة من كينيا دولة فاشلة عمليًا وتخرج الحدود مع أوغندا عن السيطرة. في الوقت ذاته يشتبك الغار ضد المورول في الصراع نفسه على القطعان بين الصومال وكينيا.

هكذا تكتلت العوامل البيئية والسياسية والتاريخية لتصنع حاجزًا بين ملايين البشر في إفريقيا وبين الحياة الآمنة. في دراسة نشرتها جامعة كولورادو بولدر الأمريكية في عام 2014، تم التحقق من وجود علاقة إحصائية حقيقية بين التغير المناخي في دول جنوب صحراء إفريقيا (متمثلًا في الجفاف والفيضانات المضطربة) وبين زيادة احتمال العنف.

وكما أسلفنا فإن هذا التأثير المناخي المذكور يتداخل مع الشبكة الإنسانية والطبيعية هناك ليتجسد في صورة تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية متطرفة تؤدي لوضع آلاف الحيوات في خطر داهم، لذا فإن علينا أن نبدأ فورًا بالإشارة إلى الفيل في الغرفة قبل أن يغرق العالم في الفوضى التي لن تكون بأي حال مقتصرة على إفريقيا أو آسيا فقط، لن يقتصر دفع ثمن التجاهل أو غياب الحكمة على سكان صحارى إفريقيا أو سواحل آسيا.

بالنسبة إلى العالم المتقدم لم تمثل انتهاكات حقوق الإنسان مشكلة في الواقع بقدر ما يُعلن أنها مشكلة. تتوافر المساعدات بالطبع لكنها لا تحرر شعبًا من طغيان نظام يدير الحرب من أجل مصالح تلك الدول المقدمة للمساعدات ذاتها. مع هذا، فإن مشكلة عدم الاستقرار بسبب التغير المناخي وتفاقم مشاكل الجوع وغرق السواحل تهدد مصالح دول العالم الأول مباشرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة. لن يستثني الوبال أحدًا.