يزداد التداخل والتشابك يومًا بعد يوم بين التهديدات التقليدية والمناخية. بينما تؤثر التهديدات الأمنية والعسكرية على تماسك الدول من خارجها، تأتي التهديدات البيئية والمناخية لتؤثر على تماسك الدولة داخليًّا. فالمجتمعات والأفراد الذين تنالهم أضرار الكوارث البيئية يصبحون نواةً للصراعات الداخلية والإرهاب، وبؤرة نشطة تهدد استقرار الدولة لأنهم يكونون في حالة صراع دائم على الموارد.

كيف يؤثر تغيُّر المناخ على حقوق الإنسان؟

في بيان لها أوضحت المفوضة السامية لحقوق الإنسان أن تغير المناخ يؤثر على حق الإنسان في الحياة وتقرير المصير والتنمية والصحة والغذاء والمياه والصرف الصحي والسكن اللائق. إذ إن الجفاف والفيضانات والأحوال الجوية المتطرفة التي يسببها التغير المناخي ستضر 78% من فقراء العالم، 800 مليون فرد يعيشون في مناطق ريفية ويعتمدون على الزراعة. وقالت منظمة الصحة العالمية إنها تتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية إلى وفاة 250 إلى 300 ألف إنسان في الفترة بين عامي 2030 و2050، إذا ظلت وتيرة التغيرات المناخية كما هي حاليًّا.

وتذهب تقارير البنك الدولي إلى أن التغيرات المناخية ستؤدي لزيادة عدد اللاجئين والنازحين. فمن المتوقع أن يرتفع منسوب مياه البحر في البحر المتوسط تحديدًا. ما سيؤدي إلى نزوح 3.8 مليون شخص من سكان المدن الساحلية والدلتا إلى المناطق الداخلية. ويتوقع البنك انخفاض المحاصيل الزراعية بنسبة 30% في مصر والأردن وليبيا، بسبب تبخر كمية كبيرة من المياه المستخدمة للري. وأكد المنتدى العربي للتنمية أن 12% من الأراضي الزراعية المصرية ستتعرض لمخاطر مختلفة قد تنتهي كلها بجعلها أراضي غير صالحة للزراعة.

ما هو التغير المناخي؟

المقصود بتغيُّر المناخ هو التغيرات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس. بعض التغيُّرات قد تكون طبيعية، فتحدث مثلًا بسبب التغيُّرات في الدورة الشمسية. لكن منذ دخل العالم العصر الصناعي، ومنذ بدايات القرن التاسع عشر، فالأنشطة البشرية باتت هي المصدر الرئيسي لتغير المناخ، بسبب حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم والغاز والنفط.

حرق تلك الأنواع من الوقود يؤدي إلى خلق ما يُعرف بالغازات الدفيئة. تعمل تلك الغازات كأنها غطاء يلتفُّ حول الكرة الأرضية، يحبس هذا الغطاء حرارة الشمس فيرفع درجة حرارة الأرض. وهو ما يُعرف بتأثير الصوب الزجاجية، المصممة في الأصل لحبس الحرارة. ارتفاع درجة الحرارة ليس منتهى التغير المناخي. الأرض نظام متصل بعضه ببعض. التغير في نقطة واحدة في الكرة الأرضية يخلق تغيرًا في كل النقاط الأخرى.

ما هي الغازات الدفيئة؟

الغازات الدفيئة هي المتهم الأكبر في التغييرات المناخية. الكلمة تشمل تحتها بخار الماء وثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروز والميثان والأوزون والكلوفلوركاربو. هذه الغازات لم تكن شريرة في أصلها. فالحرارة التي تصل للأرض من الشمس تؤدي إلى تبخير المياه وتحريك الهواء أفقيًّا وعموديًّا. لكن تفقد الأرض الحرارة التي تكتسبها من الشمس عبر الإشعاع الأرضي للفضاء، بالتالي ما تكسبه الأرض من حرارة مساوٍ لما تفقده.

هنا يأتي دور تلك الغازات. فهي في الأصل تجعل الأرض دافئة بقدر مناسب لجعل الحياة على سطحها ممكنة. لأنها تمتص قدرًا من الإشعاع الذي ترسله الأرض للخارج. فهي السبب في جعل درجة حرارة الأرض 15 درجة على مقياس سيلزيوس، بينما من دونها كانت حرارة الأرض ستصبح 18 درجة على نفس المقياس، لكن تحت الصفر.

إذن، ليست الغازات هي الشريرة في تلك الرواية، بل زيادتها بفعل النشاط البشري هو الجانب الشرير في رواية التغيُّر المناخي.

هل يؤثر تغير المناخ في السياسة؟

للتغير المناخي تأثيرات سياسية حقيقية. نختار منها ما حدث على مقربة منا في نطاق الشرق الأوسط. مثلًا قبل عام 2011 شهدت سوريا موجة جفاف أدت إلى تدمير الأراضي الزراعية في شرق سوريا. أراضٍ ينتفع منها قرابة 800 ألف شخص، ونفقت 85% من الثروة الحيوانية. تسبب ذلك في نزوح سكان المناطق الريفية لتكوين حزام حول المدن الكبرى مثل حماة وحمص ودرعا. وحين بدأت الثورة السورية، وبدأ نظام بشار الأسد في استخدام القوة العسكرية، كانت تلك التجمعات العشوائية حول المدن الكبرى مركزًا مهمًّا في تفجر الأوضاع ضد الأسد.

كذلك في دارفور بالسودان انخفض معدل سقوط الأمطار بنسبة 30%، وتراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 70%، وارتفعت درجات الحرارة بمتوسط 1.5 درجة. كل تلك الأحوال أدت إلى تفجر صراع أهلي بين القبائل التي تعتمد على الرعي والقبائل التي تعتمد على الزراعة، بسبب التنازع على أماكن رعي الماشية.

بل تُرجع دراسة صادرة عن معهد السلام الأمريكي أن نشأة تنظيم بوكو حرام في نيجيريا راجع في الأصل للتغيُّر المناخي. بالبحث نجد أن تأسيس ماروي محمد للتنظيم في الثمانينيات ارتبط بكثرة ضحايا الكوارث البيئية وافتقارهم للمسكن والطعام. كما كانت قبلة الحياة للتنظيم بسبب التصحر في تشاد. فبعد أن يأس مزارعو تشاد من إمكانية زرع أراضيهم التي أصابها الجفاف والتصحر هاجر قرابة 200 ألف لنيجيريا، استقبلهم الرجل وجنَّد عددًا كبيرًا منهم ضمن مقاتليه.

يذهب مركز المناخ والأمن بواشنطن لأبعد من ذلك. ففي دراسته الصادرة عام 2013 يقول بأن الربيع العربي لم يزدهر إلا بسبب فشل الحكومات العربية في مجابهة التغيُّرات المناخية وتوفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. ما دفع عددًا كبيرًا من غير المهتمين بالسياسة النظرية للمشاركة في احتجاجات الربيع العربي. وبجانب الربيع العربي فإن دول الشرق الأوسط شهدت عددًا من الاحتجاجات هي في الأصل من أجل البيئة.  مثل العصيان المدني في الجزائر احتجاجًا على استخراج الغاز الصخري في مدن ورقلة وعين صالح.

ما هو حاجز الـ 1.5 درجة مئوية؟

أصبح رقم 1.5 هو هاجس العالم أجمع، الحكومات والمنظمات والنشطاء. يقول العلماء إن درجة حرارة الأرض ارتفعت بمقدار 1.1 درجة مئوية عما كانت عليه قبل بداية العصر الصناعي. ويقولون كذلك كي لا تصل الأرض إلى كارثة يجب أن يكبح الزيادة عند 1.5 درجة كحد أقصى. لا يعني أن 1.5 هو رقم جيد، لكنه أقل السيناريوهات سوءًا، أما الارتفاع لدرجتين كاملتين فيقول العلماء إنه كارثة.

ارتفاع درجة الحرارة لدرجتين يعني موت 99% من الشعاب المرجانية، التي تؤمن سلاسل التغذية البحرية لكل كائنات البحار والمحيطات. ويعني ذوبان الغطاء الجليدي في غرب القارة القطبية الجنوبية، ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى مياه البحار لـ 5 أمتار، بالتالي غرق العديد من المدن الساحلية. وبزيادة 1.5 أو 2 ستفقد العديد من الحيوانات مواطنها الطبيعية. ويزيد معدل حرائق الغابات.

ما هو التمويل المناخي؟

عام 2009 في العاصمة الدنماركية تعهدت دول العالم بتقديم تمويل مناخي قدره 100 مليار دولار. التمويل هدفه التكيُّف مع آثار التغير المناخي، وفي تقارير أخرى استُخدمت كلمة التخفيف من آثار التغيُّر المناخي. مرَّ قرابة عقد من الزمان على تلك القمة، وضربت العالم موجات تضخم مهولة ووباء كوفيد-19، لكن مع ذلك ظلت الدول النامية تطمح للحصول على نفس الرقم، واستمرت الدول المتقدمة في المماطلة.

الإلزام بالتمويل المناخي ليس تطوعًا من دولة متقدمة لأخرى نامية. لكنه إلزام من منطق العدالة في تحمل المسئولية. فهناك 10 دول فقط تُسهم في خلق ثلثي غازات الاحتباس الحراري، على رأسهم الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بينما تصدر الدول النامية والفقيرة وقرابة 100 دولة أخرى ما قيمته 3% فقط من تلك الغازات. لكن لم تصل الدول المتقدمة لمنح 100 مليار دولار سنويًّا بأي شكل. فأكبر الأرقام المعلنة كان 79 مليار دولار عام 2019. رغم أن الخطر الداهم الذي يواجه العالم يقول إن 100 مليار دولار يجب أن تكون نقطة انطلاق التمويل المناخي، لا أن تكون السقف الذي تطمح الدول في الوصول إليه.

لهذا تُعرف الأمم المتحدة التمويلَ المناخي بأنه دعم الجهود المبذولة لتقليل غازات الاحتباس الحراري، أو لمساعدة الدول مع التكيُّف مع آثاره. يأخذ التمويل المناخي مسارين، الأول مسار عام يمر بالحكومات، هدفه الاستثمار في الأمور العامة مثل تدعيم شواطئ الأنهار لحماية السكان من الغرق إذا ارتفع منسوبها. المسار الثاني مسار خاص، هدفه دعم مشاريع الاقتصاد الأخضر. ومساعدة سكان الدول الفقيرة لاستغلال الموارد المتاحة أمامهم الاستغلال الأمثل.

السعي للتكيُّف أم التخطيط للتخفيف؟

في تعريف الأمم المتحدة للتمويل المناخي استُخدمت كلمة تكيُّف. بينما في بيانات قمم المناخ المتتابعة تتأرجح الخطابات بين التخفيف والتكيف. وهو ما يظهر أيضًا في البرامج التي تُمنح نصيبًا من التمويل المناخي. فهناك مبالغ مخصصة لإجراءات التخفيف، والمقصود بها ومنها تقليل الانبعاثات الكربونية أو تدعيم مصارف للغازات الدفيئة. أما المبالغ الأخرى فتذهب لبرامج التكيُّف، أي التأقلم مع المناخ الموجود بالفعل، والتأقلم كذلك مع التدهور الأكبر المتوقع في المناخ.

التخفيف قد يبدو هو الحل الأمثل والقاطع لحماية الأرض من الانبعاثات الكربونية. لكنه حل على المدى الطويل، لهذا فلا بد من أن يكون للتكيُّف أولوية. لأن التكيف هو ما يساعد الأفراد الحاليين على البقاء على قيد الحياة وحمايتهم من الكوارث البيئية المتوقعة.  كتوفير بذور للنباتات تقاوم الجفاف، فيصبح الغذاء مؤمنًا حتى مع دخول الأراضي في موجات تصحر.

بالطبع يكون التوسط أفضل الحلول، وإمساك العصا من منتصفها هو الأفضل، وخلق توازن بين التخفيف والتكيف هو الحل الذي لا مثيل له.

لكن الواقع يقول إن العالم فشل في ذلك. فالنسبة الكبرى تذهب إلى التخفيف طويل الأجل. بينما التمويل للتكيُّف يمثل 20% فقط من التمويل المناخي. 571 مليار دولار أُنفقت على مدى 11 عامًا لأجل التخفيف، بينما 46 مليار دولار أنفقت في نفس المدة لأجل التكيُّف. رغم أن احتياجات الدول النامية الفعلية للتكيُّف مع آثار التغير المناخي تزيد بعشرة أضعاف عن المبالغ التي تتلقاها حاليًّا.

لهذا نجد أن البنك الدولي قام بتشكيل تحالف التكيُّف. هدف التحالف التركيز على البنية التحتية والصحة والمياه في الدول النامية. ولأن البنك الدولي هو أكبر مصدر للتمويل المتعلق بالمناخ في الدول النامية فقد خصص 50% من التمويل المناخي الذي يُقدمه للدول لأجل التكيُّف مع الآثار المناخية.

فاتورة باهظة أم نهاية مأساوية؟

الخسائر والأضرار من الكلمات التي برزت في قمة المناخ رقم 27 بقوة. هي أيضًا تندرج تحت باب طلب الدول الفقيرة للتعويض عما لحق بها من آثار التغير المناخي. تلك الخسائر بلغت  نصف تريليون دولار في الفترة بين 2000 و2020، ويتوقع أن تزيد نصف تريليون آخر في العقد المقبل.

لكن تخشى الدول المتقدمة الالتزام بمبدأ الخسائر والأضرار كي لا يصبح واجبًا عليها تعويض كل دولة نامية عن كل كارثية مناخية تحصل بها. مثل باكستان التي دمرتها الفيضانات، ونيجيريا التي أغرقتها الفيضانات كذلك، وإعصار إيان الذي ضرب البحر الكاريبي مؤخرًا.

تتطوع بعض الدول بتقديم أموال للدول المنكوبة، لكن تصر الدول على عدم إقرار هذا البند داخل بنود التمويل المناخي، وهو ما أدى إلى تمديد قمة المناخ 27 في شرم الشيخ المصرية ليوم إضافي، بسبب عدم الاتفاق على صيغة واضحة لهذه النقطة، أو لإصرار الدول المتقدمة على جعل التعويض للدول الأكثر تضررًا لا لكل الدول التي تنكبها التغيرات المناخية.

مع الإصرار على ضرورة التحول من الوقود الأحفوري لمصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. تلك الحلول ستؤدي لخفض الانبعاثات المؤدية لارتفاع درجة حرارة الأرض. لكن يجب أن تبدأ الآن، لأنه بحلول عام 2030 سترتفع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية، وهو ما تخشاه كل الدول.

فإذا لم تنخفض الانبعاثات إلى النصف حاليًّا، ثم تصبح صفرًا بحلول عام 2050، فإن التغييرات المناخية ستتسارع. وفي سبيل الوصول لهذا الصفر الحميد، سيكون على الدول خفض استخدام الوقود الأحفوري بنسبة 6% سنويًّا في الفترة بين عامي 2020 و2030.

رغم ضخامة التحديات التي تواجه العالم حاليًّا، فإن النهاية المأساوية ليست حتمية. إنما هو اختيار بسيط على العالم أن يتخذه، القبول بالحلول الناجعة ودفع الفاتورة الباهظة أم الجلوس وانتظار دمار الكوكب.