على مدار التاريخ الإسلامي، تعرضت كثير من الأقطار لكوارث طبيعية ناتجة بالأساس عن تغيرات مناخية، كان لها تداعيات سلبية على جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

قحط وجفاف ومجاعات وأوبئة

القحط والجفاف والمجاعات ثلاث ظواهر مرتبطة ببعضها البعض، فلا يحل الجفاف بديار قوم إلا ويأتي القحط، وإذا طالت المدة صحبتهما المجاعات. ويذكر محمد عبد المعطي في دراسته «الكوارث والنكبات وأثرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في العراق والمشرق الإسلامي خلال القرن الثالث الهجري»، أن العراق والمشرق الإسلامي تعرض لعدد من هذه الأزمات، منها في سنة 281هـ/ 894م، حيث اختفت المياه بالري وطبرستان، وأصاب الناس بعد ذلك جهد جهيد وقحط، فأكلوا الجيف وغلت الأسعار، ووصل الأمر إلى أن يأكل الناس بعضهم بعضًا.

ويرتبط بالقحط والمجاعات انتشار الأوبئة والطواعين، كما أن شدة الحرارة تساعد على تفشيها، وهو ما أشار إليه أبو الحسن المسعودي في كتابه «التنبيه والأشراف»، بقوله «يقع الوباء إذا دامت المريسية بمصر، وتكون في كيهك في شدة الحر، كما يقع الوباء بالعراق إذا دامت الريح في أيام البوارح، وأيام هبوب المريسية في مصر مقابلة لأيام البوارح في العراق». والمريسية هي رياح تهب على بلاد مريس من أوائل أرض النوبة في أعالي النيل وصعيد مصر، أما «البوارح» فهي رياح شديدة تهب في الصيف على بغداد من أعالي دجلة.

ومن بين هذه الحوادث ما وقع سنة 240هـ/ 854م، فقد خرجت رياح باردة من بلاد الترك «تركستان» ومرت بعدة بلدان حتى صارت إلى العراق، فأهلكت خلقًا كثيرًا، وعرضت كثيرين لحمى وسعال وزكام.

غير أن وباء سنة 258هـ/ 871م في قرى دجلة، كان أكثر فتكًا، إذ هلك نحو 20 ألف شخص في بغداد وواسط وسامراء، وفي سنة 288هـ/ 900م وقع وباء عظيم في أذربيجان، وعدمت الأكفان من كثرة الموتى، حتى كُفنوا في الأكسية، ولم يبق أحد يقدر على دفن الموتى، فتُركوا في الطرقات لا يوارون، بحسب ما ذكر شمس الدين الذهبي في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام».

ترحيل الناس وتعطيل الصلاة

وتعد الفيضانات إحدى الكوارث الطبيعية الناتجة عن تغيرات مناخية، التي ترتب عليها تداعيات سلبية عديدة. يذكر الدكتور فوزي أمين يحيى في دراسته «الفيضانات والزلازل وأثرهما الاقتصادي والاجتماعي والصحي في الدولة العباسية»، أن بغداد تعرضت لعديد من الفيضانات في العصر العباسي الأخير، ففي سنة 580هـ / 1184م أغرق الفيضان جانبي بغداد وغطى الجسور وانقطع الاتصال بين الجانبين.

ولم يرد ذكر لفيضان خطير آخر حتى سنة 604هـ/ 1207م، عندما زاد نهر دجلة بسبب كثرة الأمطار والثلوج، ما أدى إلى ارتفاع مناسيب المياه وإغراق بعض المساجد، مثل مسجد أبي حنيفة ومنبر أحمد بن حنبل، ودخلت المياه إلى حانات بغداد حتى وصلت إلى جامع الخليفة المهدي.

وبحسب «يحيى»، بذلت الخلافة العباسية جهودًا عظيمة بالتعاون مع أهالي بغداد لدرء أخطار هذا الفيضان، وذلك بترميم النوافذ الهشة، وترحيل الناس القريبين من النهر إلى أماكن بعيدة، حتى تمت السيطرة على هذا الفيضان.

وبعد مضي عشر سنوات على هذا التاريخ حدث فيضان آخر سنة 614هـ/ 1216م، أغرق أيضًا جانبي بغداد وعددًا كبيرًا من المحال التجارية والدور القريبة من المجاري المائية، وتعرض جامع أبي حنيفة النعمان للغرق وانقطعت الصلاة فيه وفي عديد من المساجد الأخرى بسبب كثرة المياه وشدتها، كما تهدمت عديد من السدود، وأُتلفت المزارع والبساتين حتى بلغ الماء باب البصرة.

الهجرة من الأماكن المنكوبة

وتركت الكوارث المناخية آثارًا سكانية واجتماعية على أهالي المناطق المنكوبة، تمثلت في إحداث تغييرات في توزيع السكان، عبر الهجرة من المناطق المنكوبة إلى أخرى، بخاصة عند حدوث جفاف، بحسب ما ذكر محمد حمزة صلاح في دراسته «الكوارث الطبيعية في بلاد الشام ومصر (491 – 923هـ / 1097 – 1517م».

فعندما حدث جفاف ومجاعة في مصر سنة (596- 598هـ/ 1200- 1202م)، نزح عدد كبير من السكان إلى بلاد الشام والعراق والحجاز وبلاد المغرب العربي، وكذلك الأمر سنة (694- 695هـ/ 1295- 1296م)، إذ نزح عدد كبير من المصريين إلى بلاد الشام.

ولما حدث جفاف في بلاد الشام سنة 704هـ / 1304م، نزح سكان القرى إلى مناطق أخرى، ومنها مصر، التي لم يحدث جفاف بها في تلك الحقبة، وتكرر الأمر في سنة 706هـ/ 1307م.

وفي أوقات أخرى حدث نزوح لمناطق أخرى داخل الإقليم، فعندما حدث جفاف في بلاد الشام سنة 748هـ/ 1347 نزح عدد كبير من سكان مدينة دمشق إلى مدينة حلب، وعندما تعرضت الأخيرة إلى مجاعة سنة 775هـ/ 1373، نزح عدد كبير من السكان إلى مدينة دمشق.

إعاقة النمو السكاني

ومن بين الآثار أيضًا حدوث تغيرات كبيرة على النمو السكاني، إذ سجل عدد الضحايا في بعض الأحيان مئات الآلاف من الموتى، ومثّل الأطفال نسبة كبيرة منهم، مما كان له أثر كبير على تدهور وإعاقة النمو السكاني.

ويروي «صلاح»، أنه عندما حدثت مجاعة في مصر سنة (597- 598هـ/ 1201- 1202م) بلغ عدد الموتى الذين تم إحصاؤهم رسميًا في مدينة القاهرة وحدها خلال هذه المجاعة حوالي مائة وأحد عشر ألف شخص.

ولما حدث الوباء والمجاعة في بلاد الشام ومصر سنة (694 – 695هـ/ 1295 – 1296م)، قُدر عدد الموتى خلال مدة بقاء هذا الوباء بنحو مائتي ألف نسمة على أقل تقدير.

اضطربات وفوضى سياسية

ويذكر «صلاح»، أن بعضًا من الكوارث المناخية أدت إلى اضطرابات داخلية وفوضى، بخاصة عند حدوث حالات جفاف ومجاعات، فعندما حدثت مجاعة مصر سنة (591 – 592هـ/ 1194- 1195م) حدثت بعض عمليات الفوضى من العامة نتيجة فقدان المواد الغذائية الرئيسية من الأسواق، وعدم توفير الدولة لها بأسرع وقت.

ولما حدث جفاف في بلاد الشام سنة (760هـ / 1359م)، نقصت المياه بشكل حاد، بخاصة في دمشق وحوران، فحدثت بعض الفوضى والاضطرابات نتيجة اقتتال الناس على موادر المياه.

وتكرر الأمر عندما وقع جفاف ومجاعة في بلاد الشام خلال السنوات من (797 – 799هـ/ 1394 – 1396م)، إذ احتكر بعض رجال الدولة الكبار السلع في مدينة دمشق، ومن ثم فُقدت المواد الغذائية فيها، فثار عامة الناس وأحدثوا الفوضى والاضطرابات العنيفة، مما أدى إلى مقتل أحد كبار المحتكرين ويدعى ناصر محمد بن النشو.

خلل القطاع الاقتصادي

ومن بين تداعيات الكوارث المناخية أيضًا إحداث خلل كبير في النظام الاقتصادي للدولة، تمثل في انخفاض الإنتاج الزراعي بدرجة كبيرة، وموت عدد كبير من الفلاحين الذين هم عماد هذا النشاط.

ويروي «صلاح»، أن الجفاف الذي عاشته بلاد الشام ومصر سنة (518 – 519هـ/ 1124- 1125م) أتلف كميات كبيرة من المزروعات بسبب شُح المياه، وتكررت نفس النتيجة عندما تساقط البرد على مدينة دمشق سنة (533هـ / 1139م).

ولما تعرضت مصر لمجاعة سنة (597هـ / 1201م)، مات فيها عدد كبير من الفلاحين، مما كان له أكبر الأثر على انخفاض الإنتاج الزراعي، وزيادة حدة المجاعة.

وكان للكوارث الطبيعية آثار سيئة على تطور وتقدم التجارة والصناعة، إذ هلك فيها عدد من الصناع وأصحاب المهن المختلفة، وأعاق بعضها الآخر طرق التجارة التي كانت تُقطع نتيجة حدوث بعض الكوارث الطبيعية كالسيول والثلوج، مما أى إلى عدم وصول البضائع في الأوقات المناسبة إلى الأسواق، وبالتالي غلاء الأسعار، فضلًا عن فقد التجار لبضائعهم نتيجة حدوث الفيضانات وغيرها، إضافة إلى أن بعض الناس فقدوا مصادر دخلهم بعد خراب الأسواق والحوانيت، بخاصة عند حدوث سيول.

فلما حدث الجفاف والمجاعة في بلاد الشام ومصر سنة (694 – 596هـ/ 1295- 1296م) مات عدد كبير من أصحاب الحرف المختلفة، فتدهورت أغلب المهن والصنائع، مثل مهنة الحياكة، بخاصة في مدينة الإسكندرية، التي كان يوجد بها 12 ألف نول تعمل بالقماش، فلم يتبق منها إلا دون الألف نول.

ولما تعرضت مناطق الشرقية والغربية والمنوفية لتساقط البرد الشديد سنة (741هـ /1341م)، أحدث ضررًا كبيرًا بالغلال المخزنة، ما سبب خسائر فادحة للتجار.

ويذكر «صلاح»، أنه لما حدث وباء سنة (749هـ/ 1348م) في بلاد الشام ومصر، مات عدد كبير من أصحاب المهن المختلفة، مما أدى إلى إغلاق عدد كبير من الورش والمصانع، ومن ذلك إغلاق دار الطرز (تُصنع فيها ملابس السلطان والأعيان التي تكون مطرزة بالذهب) لعدم وجود صُناع.

ويروي، أن بعض الصُناع تركوا مهنتهم وعملوا بمهن أخرى، ومنها مهنة بيع الأمتعة المتخلفة عن الموتى في هذا الوباء، كما عمل بعضهم في القراءة أمام الجنائز، وبعضهم في مهنة تغسيل وحمل الموتى، مما أدى إلى تدهور الصناعة والقطاع الحرفي بشكل كبير جدًا، ومن ثم تدهور التجارة لتدني المبيعات.