رغم أننا نعيش في عالم حاول إقناعنا مؤخرًا أن كرة القدم للفقراء، إلا أن مشاهدة أي محفل دولي بداية من كأس أمم إفريقيا مرورًا بأوروبا ووصولاً لكأس العالم، صار يستلزم من هؤلاء الفقراء دفع مقابل مادي إضافي، ليقفز تلقائيًا السؤال التالي أمامنا: هل يستحق الأمر دفع هذا المقابل؟ هل سأشاهد ما يشبعني من المتعة؟

في يناير 2019، إبان فترة تدريبه لتشيلسي، باغت المدرب الإيطالي «ماوريسيو ساري» الصحفيين بالاعتراف بعدم مشاهدة ولو دقيقة واحدة من مونديال روسيا 2018، بحجة أنه لا يجد أي شيء ليتعلمه منهم. بالتأكيد أنا وأنت لسنا على نفس القدر من المعرفة كمدرب مثله، لكن إن كان المشاهد يشك في إيجاد المتعة، والمدرب يشك بإيجاد الفائدة، فلمَ لا نكتفي بمشاهدة الأندية؟

الإجابة بكل بساطة أن مشاهدة المنتخبات تمثل جزءًا ليس بالضئيل من شغف مشاهدي كرة القدم، والشغف بالأساس هو محرك كل شيء في تلك الصناعة. لكن بمرور الوقت، أخذ الشغف ينحسر أمام مد هائل من الفتور، فإن كنت أحد هؤلاء الذين ضربهم المد، سنحاول معك اكتشاف مصدره، لأننا على الأغلب قد علقنا معًا في دائرة مفرغة.

نمط اللا إقناع

دعنا نبدأ بـ «يورو 2020»، حيث النسخة الثانية تواليًا بعد زيادة عدد المنتخبات المشاركة إلى 24. هل تعلم أن انتهاء دور المجموعات يعني انقضاء (71%) من إجمالي مباريات المسابقة؟ أي أنك لو لم تحصل على ما يكفي من الاستمتاع من النسبة العظمى، فعليك الرهان مضطرًا على النسبة الصغرى المتبقية.

الغريب أن مرور نسبة الـ(71%) بشكل روتيني بعض الشيء، خلق نمطًا متكررًا يتعلق بأبطال المسابقات خلال العقدين الماضيين، وهو ما لاحظه «مايكل كوكس» في مقاله بشبكة «The Athletic»، حين أكد صعوبة إيجاد بطل كان مقنعًا في دور المجموعات.

عاد «كوكس» بالزمن للوراء لتذكر ما تم إنجازه في دور المجموعات من قبل المنتخبات الفائزة. فكانت فرنسا (7 نقاط) في يورو 2000 والبرازيل (9 نقاط) في مونديال 2002 الأكثر إقناعًا على صعيد الأداء والنتيجة. لكن في الفترة بين عامي 2004 و2018 (8 بطولات دولية)، لم يقنع أحد باستثناء إسبانيا (9 نقاط) في يورو 2008، رفقة المدرب الراحل «لويس أراجونيس».

دعنا نذكرك أن الإقناع هنا يقصَد به لفت الأنظار عبر تقديم أداء متماسك يتناسب مع جودة الأسماء، وقياسًا على قوة المنافسين في المجموعة، ولا يتعلق بتصنيف الأداء دفاعًا وهجومًا وفقًا لحب أو كره أي منهما.

يشير التاريخ الحديث إلى أنه بينما يتم الثناء على الأداء الهجومي اللافت في دور المجموعات، إلا أنه ليس بالضرورة وصفة للنجاح.
الصحفي مايكل كوكس بشبكة The Athletic

استنتاج «كوكس» السابق ينقلنا إلى توابع ذلك النمط، وهو الشك التلقائي بالمنتخبات التي تقدم أداءً جيدًا في الدور الأول. يمكننا الاستدلال بإسبانيا وإيطاليا في يورو 2020 على سبيل المثال، نعم قد يكون السبب هو ضعف الخصوم وغياب الاختبار الحقيقي، لكن وراء ذلك السبب المنطقي شعورًا -غير معلن- بأن الإقناع منذ البداية عديم الفائدة، وأن الفائز الحقيقي يجيد ادخار مجهوده، والتدرج خلال المباريات رغم حاجته لخوض (6) مباريات فقط لبلوغ النهائي.

مشكلة معقدة

ما يشعرنا بالملل تارة، أو يصيبنا بالارتباك في تقييم المنتخبات تارة أخرى، يقودنا في نهاية المطاف للمشكلة الحقيقية في كرة القدم الخاصة بالمنتخبات الوطنية، وهي أن البطولات تأتي في نهاية موسم مرهق، مع عدم وجود وقت كافٍ لتطبيق عدد أكبر من الأفكار التكتيكية، ليصبح الأمر برمته أشبه بمحاولة التكيف، ليس فقط مع الجودة المتاحة، لكن مع مدى إتاحتها بالأساس.

في أثناء تصفيات كأس العالم في مارس 2021، طلب أحد المدربين البارزين من أحد لاعبي خط الوسط الضغط بطريقة معينة، لأن أسلوب لعبه يعتمد على ذلك. لكن سرعان ما اكتشف المدرب أن لاعبه بالكاد يستطيع فعل ذلك لمدة 20 دقيقة. لم يكن لاعب الوسط مهيأً بدنيًا للعب بهذه الطريقة، لأن ناديه أعده ليناسب أسلوب لعبهم.
الصحفي ميجيل ديلاني

في مقال بعنوان: لماذا تُعد كرة المنتخبات مختلفة تمامًا عما اعتدنا عليه؟ بصحيفة «إندبندنت» البريطانية، أوضح «ميجيل ديلاني» أن مرحلة التكيف لمدربي المنتخبات صارت أكثر تعقيدًا، لأنهم يدفعون ثمن التطور الحاصل بالكرة التي تقدمها الأندية. إذ يرى «ميجيل» أن الادعاء بتأخر كرة المنتخبات وراء كرة الأندية من الناحية التكتيكية ليس دقيقًا، لأن بالفعل كل منهما اتخذ طريقًا مختلفًا للتطور، بالكاد يتقاطعان.

يلمح «ديلاني» هنا إلى أبرز ما تطور في أسلوب لعب الأندية وهو الضغط، بدايةً من الضغط العالي ونصب مصيدة الضغط مرورًا بالضغط العكسي بمجرد فقد الكرة، إلى أن أصبحت اللعبة أكثر هوسًا بالتحولات وأكثر حدة بدنيًا وذهنيًا. في المقابل، اتجهت المنتخبات إلى اتجاه مغاير، حيث الإيقاع الأبطأ وإعطاء الأولوية للهيكل الدفاعي.

يمكن الاستدلال على وجهة النظر تلك بمنتخبي البرتغال وفرنسا، والأسلوب الذي فازا به بيورو 2016 ومونديال 2018. كذلك بنظرة سريعة على منتخبات يورو 2020، سنجد أن أقرب من قدم أداءً مشابهًا للأندية هما إيطاليا وإسبانيا، لأن خبرة المدربيّن «لويس إنريكي» و«روبيرتو مانشيني» كانت بالأساس مع الأندية (يمكن إضافة روبيرتو مارتينيز وبلجيكا أيضًا).

ولأن معظم مدربي الأندية يشعرون بالملل من تدريب المنتخبات، فإن المثالين غير صالحين للتكرار. وبالتالي، ستبدو الصورة كاملة أكثر إحباطًا، لأن أجندة الأندية لن تنحصر، كما أن حدة البطولات مرشحة للزيادة في ظل التفكير ببطولة مثل السوبر ليج، والتي عجلت بنظام جديد -أكثر إرهاقًا- لدوري الأبطال سيبدأ في 2024، لنصبح جميعًا أمام حل وحيد للخروج من هذه الدائرة المفرغة وإنعاش بطولات المنتخبات، وهو الرهان على الوطنية!

الحل ولكن؟

لا حل أمامنا سوى الرهان على انتماء اللاعبين لمنتخباتهم، الانتماء الذي يجعلهم يقدمون على اتخاذ قرار انتحاري بتحدي الإرهاق واستيعاب الأفكار التكتيكية -أيًا كانت- مع بذل أقصى ما يمكن في عدد من المباريات، لن يتجاوز السبعة، متمنين ألا يدفعوا أجسادهم لتجاوز الخط الأحمر والتعرض للإصابات العضلية.

بالتأكيد، نحن لا نملك وحدة لقياس ذلك الشيء المعنوي، بل إننا نسخر حاليًا من لاعبي المنتخب الإيطالي بسبب انفعالهم الشديد مع النشيد الوطني، لكن السخرية الحقيقية ستأتي عندما نشاهد لاعبين لا ينتمون لبلدانهم حقًا، أو اختاروا ذلك المنتخب على حساب آخر لأنه الأفضل لمسيرتهم، وليس بسبب انتمائهم له.

في يورو 2020 على سبيل المثال، يوجد (65) لاعبًا يمثلون بلدانًا لم يولدوا فيها، و(175) لاعبًا من أصل (622) يحملون جنسية مزدوجة، بينهم (23) لاعبًا يحملون ثلاث جنسيات، ولاعب وحيد يحمل أربع جنسيات وهو لاعب تشيلسي، الدولي الويلزي «إيثان أمبادو».

لدينا منتخبات أكثر من نصف قوائهما من لاعبين مزدوجي الجنسية، لقاء ربع النهائي بين فرنسا وسويسرا يضم بمفرده (33) لاعبًا مزدوج الجنسية، إذ تحتل فرنسا المركز الأول برصيد (17) لاعبًا، تليها سويسرا بـ(16)، ثم إنجلترا (15)، وويلز (14)، وفيما يخص المنتخبات الكبرى، تملك بلجيكا (11) لاعبًا وهولندا (10)، ألمانيا (9)، البرتغال (8)، إسبانيا (5) وإيطاليا (3).

أيًا كانت الظروف التي خلفت هذا العدد الضخم، من الحروب والنزاعات السياسية إلى الهجرة للبحث عن العمل، فقد أصبحت أمرًا واقعًا يتعامل معه الجميع بشكل مختلف الآن بغرض استغلاله. فصارت المنتخبات الكبرى ترصد مزدوجي الجنسية في سن مبكرة لمحاولة استمالتهم، وتحوّل اختيار المنتخب إلى ما يشبه اختيار النادي.

حيث تنظم الاتحادات اجتماعات مع أولياء الأمور، وتقدم تقارير الكشافة وخطة تطوير اللاعب مستقبلاً، وعند الضرورة يتم دعوة مدرب الفريق الأول للتدخل من أجل إتمام الصفقة. يعد صانع ألعاب بايرن ميونخ «جمال موسيالا» أحد أبرز الأمثلة مؤخرًا، والذي حسم قراره باللعب لألمانيا عقب الاجتماع بالمدربين «جاريث ساوثجيت» و«يواكيم لوف».

أمثلة كـ«موسيالا» و«إيمريك لابورت» ومن بعدهما الشاب «لوكاس نميشا» (نجم ألمانيا في بطولة أمم أوروبا 2021 تحت أقل من 21 عامًا) من المتوقع زيادتها في المستقبل بالنظر إلى العدد الضخم الموجود حاليًا، وحينها سيصبح الوضع أكثر تعقيدًا، ليس فقط لأن السخرية من انفعالات النشيد الوطني ستصبح موضوعية، لكن لأن الدائرة المفرغة التي علقنا فيها ستزداد إحكامًا، وسنعود مع كل مناسبة لتكرار أسئلة المقدمة.