يقسِّم الشافعية الإكراهَ إلى نوعين، الأول: إكراهٌ بغير حقٍ، قد يكون عذرًا شرعيًا يقطعُ الحكمَ عن فعلِ الفاعل، وقد لا يكون عذرًا شرعيًا فيبقى الحكمُ منسوبًا للفاعل. والثاني: إكراهٌ بحقٍ فلا يعتدُّ به، وهو لا يقطعُ الحكمَ عن فعل الفاعل. وفي «التلويحِ» ورد أن: «القاعدةَ التي قرّرها الشافعي- رحمه الله- في باب الإكراهِ هي: أن الإكراهَ إما يحْرُمُ الإقدامُ عليه، وهو الإكراهُ بغير حق، أو لا، وهو الإكراهُ بحقٍ». [1]

وفي كُتبِ الفقه الشافعي نطالعُ تأصيلًا فريدًا للفرق بين الإكراه على قولٍ، والإكراه على عملٍ. فالأولُ تتوقف صحته على «قصدِ المعنى»، والثاني تتوقف صحته على «الاختيار». والإكراهُ يفسد القصدَ والاختيار معًا. وبالقياس فإن «الإكراهَ القولي» فيه عدوان سافر على حرية التعبير، بل قد يكون فيه عدوان على مكنونات القلب ومقاصد المُكرَه بما أنه يتوقف على «قصد المعنى». و«الإكراه على عملٍ» فيه عدوان سافر على حرية التصرف، بل قد يكون فيه عدوان على حريات الآخرين بتعدية العمل المؤثَّم- أو غير المرغوب فيه- إليهم تحت الضغط والإجبار. ونسبة الحكمِ للفاعل المكرَه بلا رضاه إلحاقٌ للضرر به، قال الشافعية: «وهو غير جائز لأنه معصوم محترمُ الحقوق، والعصمةُ تقتضي أن يدفعَ عنه الضرر ممن دون رضاه، لئلا يفوِّت حقوقه من دون اختياره». [2]

يؤكد الشافعية في اجتهاداتهم أيضًا أن تصرفاتِ المُكرَه باطلةٌ على العموم؛ يستوي في ذلك عندهم أن يكونَ التصرف يحتمل الفسخ كالبيع والإيجار، أو لا يحتملُ الفسخ كالزواج والطلاق، وذلك تأسيسًا على أنه إذا انعدم الرضا فلا عبرةَ بالاختيار. جاء في نهاية المحتاج للرَّملي الشافعي: «لا يصِحُّ إقرارُ مكرَهٍ بما أُكرِهَ عليه بغير حقٍ؛ لقوله تعالى: إلا من أُكره وقلبُه مطمئنٌ بالإِيمان [النحل:106]، جعل الإكراهَ مُسْقِطًا لحكمِ الكفر، فمن الأولى ما سواهُ؛ كأن ضُربَ لِيُقرَّ» [3]. ونقل الرَّمْلي أيضًا عن القَفَّال قوله: «ويُسنُّ ألّا تشهدَ حيثُ دلت قرينةٌ على الإكراه… وأخذ السبكي من كلام الجرجاني حرمةَ الشهادة على مقيدٍ أو محبوسٍ». [4]

وهذه الأمثال الشارحة واضحة تمام الوضوح في دلالتها على عنياتهم بحريات الأفراد، ونزع الشرعية عن أي إجراءات قد تنال منها، وبخاصة الإجراءات السلطوية المتعسفة واللجوء إلى وسائل التعذيب. واجتهادات الشافعية في مجملها تشكل– بدورها- أطروحة كاملة المعاني في صميم رعاية الحريات بأصولها وتفاصيلها، وهي أمور قريبة من هموم الناس وانشغالاتهم، وبعيدة عن السفسطات الفلسفية المحلقة في الخيال أو الغارقة في التهاويم.

ولا يبتعدُ الحنابلة كثيرًا عمّا ذهب إليه أئمة المذاهب التي سبقتهم في شأن مسألة الإكراه وعلاقتها بالحرية. صحيحٌ أن الحنابلةَ لا يخصصون في مدوناتهم الفقهية بابًا أو كتابًا مستقلًا بعنوان «الإكراه»، ولكنهم يتناولونه في سياق عددٍ كبير من مسائل الفروع مثل: العِتق، والطلاق، والبيوع، والشهادة، والإقرار. وحتى لا تؤدي رخصة «دعوى الإكراه» إلى عكس المقصود منها، ولكي لا تضرَّ بالحريات الفردية أو الجماعية، احترز الحنابلةُ من هذا الاحتمال بوضع شروط الإكراه المعتبر شرعا، وطالبوا بإثباتات ودلائل وقرائن على حدوث هذا الإكراه. قال في العُدَّة: «لا يكون الرجلُ مكرهًا حتى يُنال بشيءٍ من العذاب: الضرب والقيد والحبس… أو إذا هُدد بشيء من ذلك ممّن يقدر». [5]

وقد ضرب الحنابلة كثيرًا من الأمثلة الشارحة التي أرادوا من خلالها إبلاغ رأيهم وما انتهى إليه اجتهادهم، ومن ذلك قولهم: «إذا أَكرَه رجلٌ رجلًا على القتلِ فقتلَ، فالقصاص على المكرِه والمكرَه جميعًا… لأن الإكراهَ لم يسْلبه اختياره، ولا ضعَّفَ قصدَه؛ بل هيَّجَ دواعيه وكثَّرها، ولا يقال: إنَّه (أي المكرَه) ينزل بمنزلة الآلة، فإن الآلة لا تأثمُ، وهذا يأثمُ، والآلة ليس لها قصدٌ، وهذا له قصدٌ… فيجب عليه القِصاص ويصيرُ كما لو قال له: اقتله وإلا قتلتك غدًا فقتله، فإنه يجبُ عليه القِصاص». [6]

وتتجلى براعة الحنابلة في الدفاع عن الحريات بجملتها في هذا المثال الشارح المتعلق بدعوى الإكراه على القتل؛ وعلة تشددهم في هذا الفعل هي أن إزهاق النفس يدمرُ جميع الحريات والحقوق، وأولها الحق في الحياة، وحرمة البدن الإنساني نابعة من أنه بنيان الله، وأنه أشرف الأجساد في هذا العالم، على حد قول الفخر الرازي في مفاتيح الغيب؛ ملعون من هدمه بغير حق ثابت، وملعون من أهانه بدعوى مزيفةٍ أو بتهمةٍ ملفقة.

وعليه؛ فإن دعوى الإكراه حتى تكون صحيحة عند الحنابلة، يجب أن تكونَ مصحوبة بأدلة إثبات أو قرائن كافية للإثبات، وفي ذلك يقولُ صاحب «شرح منتهى الإرادات»:« وتُقبل من المُقرِّ دعوى إكراهٍ على الإقرارِ بقرينة تدل على الإكراه… كترسيمٍ عليه (المعادل المعاصر للترسيم بمفهومه القديم هو: تحديد الإقامة، أو مصادرة الأملاك، أو المنع من التصرف)، أو سجنه، أو أخذ ماله، أو تهديد قادرٍ على ما يهددُه به من ضربٍ أو سجنٍ أو أخذِ ماله… (أما) منْ أُكره ليقرَّ بدرهمٍ فأقرَّ بدينارٍ، صحَّ اقرارُه؛ لأنه أقرَّ بما لم يُكرَه عليه، كما لو أقر بذلك ابتداء» [7]. ولك أن تقيس على ذلك ما يقع في ظل أنظمة القمع والديكتاتوريات المعاصرة.

والتزامًا بالرؤية الفقهية الأساسية التي تنطلقُ من أن «الحريةَ» فطرةٌ، وأن المهمَّ هو إزالة الموانع التي تحول دون التمتعِ بها؛ يفسرُ الحنابلةُ مفهومَ «الإغلاق» في مسألة الطلاق بأنه يعني «انتفاءَ الحرية»، أو أنه يعني تعذر الاختيار الطوعي، وعلةُ ذلك كما قالوا هي: «أن المُكرَه مغلقٌ عليه في أمرِه، مضيقٌ عليه في تصرفِه، كما يُغلقُ الباب على الإنسانِ». وقالوا أيضًا: إن الإغلاق «قولٌ حُمِلَ عليه بغيرِ حقٍ، فلم يثبت له حكمٌ، ككلمة الكفر إذا أُكره عليها». [8]

وبالقياس فإن انتزاع الاعترافات تحت سياط التعذيب، أو تحت التهديد بالتعذيب، أو بإلحاق الأذى بالأقارب وذوي الأرحام، كله يقع باطلًا، ولا يُعوَّل عليه في ترتيب أثر شرعي أو قانوني ملزم للمكرَه. وحب الحصيد في فقه الحنابلة هو أن: الإكراه يمنع من نسبة الفعل إلى الفاعل. [9]

وبنظرةٍ مقارنة، يؤكدُ العلامة السنهوري أن الإكراهَ يختلف في الفقه الإسلامي- كما يختلفُ في الفقه الغربي- باختلاف أحوالِ الناس، من سنٍ، وجنسٍ، وقوةٍ، وضعفٍ، ومنصبٍ، وجاهٍ، وما إلى ذلك. وسنرى فيما بعد كيف أن للإكراه مستويات وأنواعًا في التصرفات القولية، تؤثرُ على الحريات الفردية والجماعية، ومن ثم تنتهك الحريات فردية كانت أو جماعية.

وكلما أمعنا النظر في أطروحات روادِ الإصلاحِ والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، يتبينُ لنا أن تلك الأطروحات لم تستوعب أغلب الاجتهادات الفقهية التي أشرنا إليها، ويتأكد أيضًا أن اجتهادات فقهاء المذاهب في مسألة الإكراه وصلتها بالحرية والاختيار وشعور الرضا لا تزالُ بعيدة البعدَ كله عن الثقافة السائدة في مجتمعاتنا المعاصرة، ولا أظنُّ أنها كانت شاحبة أو غير مؤثرة في مجتمعات الأمة في عصورها السابقة كشحوبها وعدم تأثيرها في واقعنا الحاضر، وهذه نقطة تحتاج إلى بحث وتنقيب في المصادر التاريخية إلى جانب المصادر الفقهية.

وتقع مسئولية التقصير في نشر تلك المعرفة الفقهية في مسألة الحرية- وفي غيرها من المسائل المهمة- على الهيئات العلمية التي ترعى العلوم الشرعية، وتقع كذلك على الدعاةِ الذين يخاطبون الجمهور العام، وعلى المجامع الفقهية التي لا يكاد يسمعُ عنها أحد من خارج الدائرة الضيقة للمتخصصين في علوم الشريعة. وحديثنا مُسْتَطْرَدٌ- إن شاء الله تعالى- في الاجتهادات الفقهية بشأن «الإقرار» وصلته بمفهوم «الحرية» في أصولها وفروعها.

المراجع
  1. سعد الدين التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح، وبأعلى الصفحة كتاب: التوضيح حل غوامض التنقيح للمحبوبي، (القاهرة: مكتبة صبيح بمصر، ب.ت) ج2/391.
  2. المرجع السابق، ج2/391.
  3. شمس الدين الرملي (ت1004هـ)، كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المناهج، وعليه حاشيتان (بيروت: دار الفكر، 1404هـ/1984م)، ج5/71.
  4. المرجع السابق، 5/71.
  5. أبو الخطاب الكلوذاني، الهداية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد اللطيف هميم، وماهر الفحل، (مكتبة غراس للنشر، 1425هـ/2004م) ص120.
  6. أبو محمد بهاء الدين المقدسي (ت 624هــ)، العدة شرح العمدة، (القاهرة: دار الحديث، 1424هـ/2003م)، ص541.
  7. محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي ابن النجار (ت 972هـ)، معونة أولي النهى شرح المنتهى، تحقيق عبد الملك بن دهيش، (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 1429هـ/2008م). ج11/ص511، 512.
  8. المرجع السابق، ج9/ص384.
  9. زين الدين التنوخي الحنبلي، الممتع في شرح المقنع، تحقيق عبد الملك بن دهيش، (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، ط3. 1424هـ/2003م) ج4/243.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.