إليك استراتيجيتي في تلك الحرب الباردة، نحن سننتصر وهم سيخسرون.
رونالد ريجان الرئيس السابق للولايات المتحدة – قمة موسكو 29 مايو 1988

هكذا كانت القصة منذ وقت طويل، طرف يفرض سيطرته على العالم حتى يحل موعد فنائه، ليخرج تنينٌ آخر محلقًا بجناحيه فوق سقف العالم. فعلها الإسكندر الأكبر وفعلتها الإمبراطورية الرومانية وفعلها العثمانيون، حتى بدأ عصر الدول التي لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا العظمى، ثم نشبت الحرب العالمية لتعود الخريطة إلى طور التشكل من جديد.

 في كتابه «الحرب الباردة» قدم لنا روبرت جيه ماكمان تاريخًا موجزًا للمعارك والصراعات التي شكلت خريطة العالم السياسية التي نعيشها الآن، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكلت تحت مظلة ما عُرف بالحرب الباردة، وهي حرب كانت المواجهة فيها بين كتلتين عملاقتين لفرض السيطرة السياسية والاقتصادية على خريطة العالم، دون الإمساك بالأسلحة وذلك بعد أن أصبحت الخشية من الخيار النووي تسيطر على الجميع.

الخصوم يستعدون للمواجهة

انتهت الحرب العالمية الثانية وخرج معها معسكر اليمين بشقيه الفاشي والنازي من الحسابات، وبدأت القوى المنتصرة في استخراج الدروس المتعلقة بما بعد الحرب اقتصاديًا وعسكريًا.

بدأت الولايات المتحدة مرحلة ما بعد الحرب في الإعداد لاستراتيجية دفاعية جديدة، تقوم في الأساس على تدعيم الجانب الاقتصادي الأمريكي المزدهر بالفعل خلال سنوات الحرب، وقد كانت ذكرى هجمات بيرل هاربر اليابانية في السابع من ديسمبر عام 1941 قد حطمت أساطير الحماية المائية المنيعة التي عاشت فيها الولايات المتحدة مؤمنةً بأن المحيطات واسعة بما يكفي حتى يمر عبرها الأعداء.

واقتصاديًا فقد كانت أمنيات التوسع الأمريكية التي صاحبت النصر تحمل طابعًا اقتصاديًا، فقد وصل حجم الوفرة الأمريكية إلى أن الولايات المتحدة قد سيطرت على ما يقارب من 50% من الصناعة العالمية في ذلك الوقت، ومن هنا بدأ التفكير في فرض نموذج الاقتصاد الحر بين العالم، والسير نحو جعل الدولار عملة موحدة بين دول العالم، وقد كان إنشاء صندوق النقد الدولي في 1944 واحدة من المفاتيح الهامة لذلك الطريق.

أما على الجانب الأيمن من الخريطة، فثمة اتحاد واسع النطاق خرج من الحرب العالمية منتصرًا على الورق، متضررًا على الأرض، وقد تبدلت كل الأوراق التي اعتاد عليها لسنوات.

كانت التوسعات العسكرية بالنسبة للاتحاد السوفيتي حائط صد – كما اعتقد السوفييت – في وجه الأعداء، لكن اجتياح يونيو/ حزيران عام 1941 والذي قام به هتلر، فسقطت مدينة ليننجراد التاريخية ودُمر السواد الأعظم منها بجانب دمار أكثر من 1700 بلدة روسية، وسقطت 9 جمهوريات من 15 جمهورية تشكل كيان الاتحاد السوفييتي.

ومن هذه النقطة بدأت مرحلة المواجهة بين الخصوم الجدد، الرأسمالية الراغبة في التوسع، والشيوعية المتأثرة بجراحها الطامعة في السيطرة من جديد.

قصر أوروبا من ورق

كانت حالة السلام المزعومة في أوروبا فترة ما قبل الحرب، وثيقة الصلة والشبه بما عايشته أوروبا بعد نهايتها، فالاتحاد السوفيتي بدأ في تقديم التنازلات لصالح المعسكر الأمريكي البريطاني لكسب مواقع ونقاط قوة جديدة، في الوقت نفسه الذي كانت فيه السياسات الأمريكية البريطانية متخوفة من السوفييت، وراغبة في إسقاطهم بأي صورة غير مباشرة.

وكما كانت هولندا هي نقطة الاشتعال نحو الحرب العالمية الثانية، كانت هي نقطة المواجهات لفرض السيطرة ما بعد الحرب، حيث اشتعل الصراع بين حكومتين بولنديتين للفوز بالسلطة وبالاعتراف الدولي، إحداها في لندن، يتزعمها القوميون البولنديون المعادون للسوفييت، على الناحية الأخرى في مدينة لوبلين البولندية وهي في الحقيقة لم تكن حكومة مستقلة بالمعنى الحرفي وإنما مثلت الذراع السياسية الفعلية للاتحاد السوفيتي داخل الأراضي البولندية.

تبع ذلك الصراع اتفاق ثلاثي بين تشرشل وستالين ورزفلت لإعلان «أوروبا المُحررة» وكان من بين ما نتج عن ذلك الاتفاق الاستقرار على دعم حكومة لوبلين المدعومة سوفييتيًا في مقابل أن يعلن الاتحاد السوفييتي الحرب على اليابان في غضون ثلاثة أشهر من تاريخ الاتفاق – كان ذلك في 1944 وقبل حادثة هيروشيما وناجازاكي ببضعة أشهر – وحصول الاتحاد السوفيتي على تعويض من ألمانيا قدره 10 مليارات دولار بسبب ما وقع أثناء حصار ليننجراد واجتياح الجمهوريات السوفيتية، لكن ذلك التعويض لم يُدفع فيما بعد بسبب رفض الحلف الأمريكي البريطاني إيقاع ألمانيا في المزيد من الأزمات وهي في خضم محاولات الإصلاح.

تفاقمت الأزمة بعد ما فرض الاتحاد السوفيتي سيطرته في بولندا عبر الحكومة المدعومة في وارسو، وهو ما أغضب الحلفاء بسبب سياسة البطش والتعنيف التي رغب الحلفاء في إيقافها في تلك النقطة الحساسة من أوروبا منعاً لنشوب المزيد من المواجهات العسكرية، وعلى الرغم من ذلك الرفض فإن الإدارة الأمريكية كانت ترى احتمالية للتفاوض مع السوفييت، حتى جاء هاري ترومان كرئيس للولايات المتحدة ليدخل في مرحلة جديدة من العداء مع روسيا بصفتها «دولة مستأسدة طامعة في الاستعمار».

حتى وصلت حدة الصراع إلى ذروتها في ألمانيا، والتي يمكن أن تصنف تاريخياً بأنها محور الحرب الباردة، حيث اشتعلت أزمة حصول القوى الأربعة العظمى على التعويضات من ألمانيا بصورة غير نقدية كالتي أرادها الاتحاد السوفيتي، وقد تمثلت في السيطرة على القطاعات الصناعية والغنية بالموارد، وقد عمل الحلف الأمريكي على جعل هذه المناطق معزولة تماماً عن يد القوة السوفيتية، مما أشعل فتيل ألمانيا المنقسمة إلى معسكرين شرقي وغربي، وتبعتها أوروبا بالضرورة.

دماء في النهر الأصفر

كان من المستحيل أن تخرج آسيا من المعادلة، فهي الحيز الدفاعي الأكبر للاتحاد السوفيتي، ذلك الحاجز الذي لم تتأخر الولايات المتحدة في خلق ذراع داخلية لتوقف التحركات السوفيتية في عمق القارة.

في الوقت الذي وضعت فيه روسيا نصب أعينها استعادة المدن المفقودة والتي كانت تحت سيطرة روسيا القيصرية، في نفس اللحظة التي قامت فيها الولايات المتحدة بواحدة من أغرب الألاعيب السياسية في التاريخ، حيث بدأت في إنشاء قنوات حوار مع اليابان المتضرر الأول والأكبر من الكارثة النووية، وقد كان الهدف من قنوات الحوار هو تحجيم قدرة اليابان وجعلها منطقة مستأنسة بالكامل، خاضعة للتبعية الأمريكية، فتدخلت في إنشاء نظم سياسية واجتماعية ودستورية في الفترة ما بين 1955 وحتى 1957 وهو العام الذي شهد وضع الدستور الياباني تحت إشراف أمريكي مقدماً في نصوصه حقوقاً للعمال والمرأة وللسلطات النيابية، وقد كانت النقطة الأهم في ذلك الدستور هو حظر الدخول في أي مواجهات حربية ومنع اليابان من تأسيس قواتها المسلحة، وقد جرت تلك التحركات بأكلمها تحت إشراف الجنرال الأمريكي دوجلاس ماكارثر، لتصبح اليابان ومنذ ذلك الحين حليفاً للعم سام، ممثلاً له في نزاعات القارة الأسيوية.

أما عن قصة تشكل الحليف الأكبر للسوفييت في آسيا، فلم يخلُ الأمر من نزاع مسلح يحدث للمرة الأولى تحت ظل الحرب الباردة، حيث كانت الحرب الأهلية الصينية والتي تشكلت بعدها خريطة الصين ومنهاجها تقريباً حتى هذه اللحظة، فقد كانت الصين هي المرشح الأول للتحالف مع الولايات المتحدة قبل أن تحل محلها اليابان لمساحتها الضخمة وجيرتها لروسيا، لكن كل المحاولات الأمريكية المتجلية في مساعدات مالية وعسكرية منذ العام 1944 لم تفلح في استمالة الجانب الصيني، وقررت الولايات المتحدة أن تبحث عن حليف آخر.

بعد هذه التحولات بفترة قصيرة، بدأ صراع داخل الصين بين جبهة القوميين المدعومين من الولايات المتحدة- فقط لأنهم على عداء مع الشيوعيين- في مواجهة الحركة الشيوعية بقيادة ماو تسي تونج الحليف الأكبر للسوفييت، وبدأ ذلك على وجه التحديد في خريف 1945 أي بعد سقوط اليابان عسكرياً، حيث رأى الحزب الشيوعي أنه لا سبيل لتحقيق السلام مع القوميين وأن النزاع الأهلي المسلح قادم لا محالة، وبدأ عمليات القتال بالفعل حيث استمرت لما يقارب 4 سنوات، تجلت نهايتها بإعلان الجانب الشيوعي انتصاره الكامل في أكتوبر عام 1949 وفرار قيادات القوميين إلى تايوان، ليسافر بعدها ممثل الصين إلى موسكو في ديسمبر من العام نفسه لعقد اتفاقية صداقة وتحالف، تقضي بأن يتحرك أي من البلدين في حال تعرض الأخر لخطر الحرب، لتبدأ خريطة آسيا في التشكل من جديد تبعاً لحركة التحالفات السياسية.

أما إن كنت تتساءل عن تاريخ الوضع بين الجارتين الكوريتين فحتى عام 1950 لم تيأس قيادة الاتحاد السوفيتي من آمال فرض السيطرة والتمدد، ليستيقظ العالم صبيحة الخامس والعشرين من يونيو عام 1950 على واحدة من أكبر الاجتياحات العسكرية في تاريخ آسيا، قادمة من كوريا الشمالية باتجاه جارتها الجنوبية، في قوة قوامها 100 ألف جندي كوري شمالي و1400 آلية مدفعية و126 دبابة ليكون ذلك هو الصراع المسلح الثاني على التوالي تحت مظلة الحرب الباردة، فلقد أدركت القيادة الأمريكية في هذه اللحظة أن أحلام التوسعية الشيوعية لم تتوقف بعد، ودفعت بأسطولها السابع وبقواتها للوقوف في وجه الاجتياح السوفيتي.

نهايات مؤقتة وقصة مستمرة

فرغت القوى الكبرى من ترتيب أوراق الدول المحيطة بها، ودفعت الدول النامية والشرق الأوسط إلى أهمية التحرر من الاستعمار – ولو بصورة شكلية – حتى تكون جزءًا من النظام العالمي الجديد الناشئ، وليكون التوسع الاقتصادي ذا قدرة على التحرك بصورة أكبر في أسواق مستهلكة وليست منتجة، يرتبط الاقتصاد لديها بالسياسة وتدور المعادلات فيها حسب خرائط التبعية السياسية.

ليظهر السؤال على السطح، وفي ظل كل تلك الصراعات التي تملأ الأفق بإمكاننا التساؤل عن حقيقة نهاية الحرب الباردة، وعما يمكن أن تصل إليه عمليات الحروب بالوكالة التي عصفت بالكثير من الدول العربية بعد موجات الربيع العربي، وهل يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي تتوقف فيه حروب السيطرة والتبعية عن بعد، أم أن القدر يخفي شيئاً آخر!