بعد غيابٍ عن الساحة السياسية، وبعد خطابٍ تاريخي ألقاه في الأمم المتحدة منذ 17 عامًا تحرك بعده الجيش الأمريكي للعراق، عاد الدبلوماسي الأول في عهد الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، ورئيس هيئة الأركان المشتركة ومستشار الأمن القومي سابقًا، للمشهد السياسي من جديد. عودةٌ قوية كعادته، نقلته من الهامش إلى قلب الأحداث فورًا، كولن باول الجمهوري والعسكري السابق يقرر أنه سيتخلى عن دعم دونالد ترامب وسيقف في صف منافسه الديموقراطي جو بايدن.

باول أعلن كذلك أنّه لم يصوت لترامب في الجولة الأولى عام 2016. بذلك يصبح باول أحدث المنضمين لقائمة الجمهورين الذين قرروا دعم بايدن، ويبدو أنّه لن يكون آخرهم. أبرز الموجودين في تلك القائمة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، وأخوه حاكم ولاية فلوريدا السابق. كذلك يوجد اسم سيندي ماكين، أرملة الصقر الجمهوري جون ماكين.

أعداد أكبر من الجمهوريين يُتوقع أن تنضم للقائمة بسبب المأزق الذي وضعهم فيه ترامب بسوء إدارته لأزمتين متزامنتين هما جائحة كورونا والاحتجاجات التي تلت مقتل «جورج فلويد». حتى إذا آثر بعض الجمهوريين، خاصةً من العسكريين المتقاعدين، عدم الإعلان عن مرشحهم النهائي، فإن الاستطلاعات تشير إلى أن عددهم سيكون كبيرًا.

انضمام باول للقائمة لم يُثر الحديث عن انشقاق الجمهوريين ودعمهم لبايدين الديموقراطي قدر ما أثار الحديث عن باول نفسه، ودوره البارز في حرب العراق. خاصةً وأن باول حين أعلن موقفه الحالي قال إنه لن يدعم ترامب لأن الأخير يكذب بخصوص الحقائق. جملةٌ لم يدعها ترامب تمر دون تغريدة لاذعة منه كعادته، فقال ترامب بأن باول هو القاسي الحقيقي لأنه من كذب بخصوص العراق وورطّ الولايات المتحدة في تلك الحرب.

ترامب استطرد في الضرب على ذلك الوتر مؤكدًا أن باول هو المسئول الأكبر عن دخول البلاد لحرب كارثيةٍ في الشرق الأوسط. وذكر مرةً أخرى بأن باول قال إن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل، لكن تبيّن له أن العراق لا يمتلك هذا النوع من الأسلحة، ورغم علمه بذلك أقحم البلاد في الحرب.

الكذب فوق هضبة الأمم المتحدة

في 5 فبراير/ شباط عام 2003 جلس كولن باول، وزير الخارجية آنذاك، في الأمم المتحدة ليُبرر للعالم الغزو الأمريكي للعراق. جلس باول مستمدًا ثقله من منصبه آنذاك، ومن تاريخه الطويل كأول أفريقي يفعل أشياء كثيرة في الإدارة الأمريكية، فحتى الآن يُعتبر الأمريكي ذا الأصل الأفريقي الوحيد الذي يعمل في هيئة الأركان المشتركة، أكبر هيئة عسكرية أمريكية، فضلًا أنه كان رئيسها طوال 4 سنوات.

 في تلك الجلسة شرح باول تفصيليًا لماذا ليس أمام العالم أي اختيار إلا غزو العراق. جلسةٌ اعتذر عنها باول لاحقًا، وقال إنها كانت هفوةً منه وخطأ فظيعًا سوف يظل في سجلاته للأبد، لكن الوقائع المتتابعة كشفت أن باول لم يخطئ، بل كذب. لقد اختلق أدلةً كاملةً، وتجاهل كل التحذيرات التي كان تشكك في صدق ما يقول.

فقد قال في الجلسة «زملائي، كل بيان أدلي به اليوم مدعوم بمصادر، ومصادر راسخة، هذه ليست مجرد دوافع، ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات تستند إلى عمليات استخباراتية قوية» لكن لاحقًا بعد عدة سنوات من عدم عثور الولايات المتحدة على شيء بدأ باول يتراجع مستخدمًا عباراتٍ مثل «كان الأمر شكًا يصل إلى درجة اليقين».

الحقائق التي قدمها باول كان بعضها ملفقًا بصورةٍ فجة، منها ترجمته الإنجليزية لمحادثةٍ اعترضتها الاستخبارات الأمريكية بين ضباط عراقيين يتحدثون عن تفتيش وكالة الطاقة الذرية للمنشآت العراقية. المحادثة كانت دليلًا واضحًا على أن النظام العراقي يستجيب لتوصيات الأمم المتحدة بالتخلص من أسلحته المُحرّمة وذات القدرات التدميرية العالية، فيأمر أحد الضباط ضابطًا آخر بالتأكد من التخلص من كل الأسلحة التي لا تريدها الأمم المتحدة.

وفي جانبٍ آخر من المحادثة يأمر الضابط رفاقه بالتخلص من كل الخردوات والأسلحة المعطوبة المتراكمة في الأماكن المهجورة حتى لا تعطي انطباعًا سيئًا عن صورة العراق. لكن باول ترجم الأمر برمته أنهم يحاولون إخفاء أسلحة أشد فتكًا عن أعين العالم، واستطاع باول أن يجذب الأنظار نحو تفسيره هو للحديث لا نحو الحديث ذاته.

تعاون العراقيين ينقلب ضدّهم

قبل تلك المحادثة التي جرى اعتراضها نقل باول حادثةً أخرى، اجتمع القادة العسكريون العراقيون مع ضباط وقادة الحرس الجمهوري العراقي، اتفقوا جميعًا على التوقيع على كل الوثائق التي تطلبها الأمم المتحدة لتتأكد من عدم امتلاكهم لأسلحة الدمار الشامل. كما أخبرهم أحد القادة أن الحكومة العراقية سوف تُحمل المسئولية كاملة لأي ضابط تجد الأمم المتحدة شيئًا يثير الشك في وحدته، أو يُلقي بظلال من الريبة على التعاون بين العراق والأمم المتحدة. لكن للمرة الثانيّة صاغ باول الأمر بأن العراقيين اجتمعوا ليتأكدوا من أنهم أخفوا الأسلحة المحظورة بصورة جيدة.

حتى انشقاق حسين كامل، صهر صدام حُسين، حوّله باول لدليل ضد العراق. كامل كان رئيس برنامج أسلحة الدمار الشامل في العراق حتى عام 1995، لكنّه انشق عن النظام العراقي وأدلى بشهادته على شاشة «سي إن إن». في شهادته قال كامل إن العراق كان قد امتلك أسلحة كيماوية بالفعل أثناء حرب الخليج، لكنّ صدام تخلص منها كاملة بعد الحرب، لكن ظل يدعي امتلاكها. وحين عاد كامل للعراق عام 1996 اغتاله النظام العراقي.

حادثةُ يمكن قراءتها بأن كامل فضح ضعف النظام العراقي وأنه لم يعد يمتلك أي أسلحة رادعة بالفعل، لكن باول مرّ سريعًا على تلك الحادثة، واكتفى فقط بالشق الأول من حديث كامل، ولم يلتفت إلى صيغة الماضي في الحديث.

لم يتم تسليط الضوء إعلاميًا على كذب باول فيما يخص العراق، لكن التشكيك في روايته عن الأمر لا يقتصر على بلدان الشرق الأوسط أو مناهضي الولايات المتحدة، بل وزارة الخارجية الأمريكية نفسها. هيئة المخابرات في وزارة الخارجية أعدت عدة مذكرات في 29 يناير/ كانون الثاني عام 2003 تُقيّم فيها البيانات التي سيلقيها باول أمام مجلس الأمن القومي التابع للأمم المتحدة.

باول قال إن قُصي، نجل صدام حسين، أمر بإزالة جميع الأسلحة المحظورة من القصور الرئاسية قبل تفتيشها. مذكرة وزارة الخارجية وصفت ذلك الادعاء بالـضعيف. كما قال باول إن صدام تعمد وضع الملفات العسكرية التي تحوي معلومات عن أسلحة الدمار الشامل في عربات مصفحة تدور في الشوارع لتجنب وقوع الملفات في أيدي مفتشي الوكالة الدولية، مذكرة الوزارة قالت للمرة الثانية بأن الادعاء ضعيف، وأن تلك هي وسيلة العراق في نقل أي ملفات رسمية، دون أن يرتبط بذلك بكونها ملفات عسكرية أو غير ذلك.

الرجل الذي خدع العالم

باول قال أيضًا إن وكلاءه رصدوا لواءً للصواريخ خارج بغداد يمتلك صواريخ ورؤوسًا حربية تحتوي على مواد بيولوجية، لكن المذكرة قالت أيضًا إنه لا توجد أدلة كافية على ذلك الادعاء. وفي صورة القمر الصناعي التي جزم بها باول أن الموقع المُصور هو موقع تخزين ذخائر كيماوية مستنتجًا ذلك من وجود شاحنات قال إنها شاحنات تطهير حال حدوث أي خطأ. المذكرة ذاتها قالت بأن تلك الشاحنات التي استشهد بها باول أكثر من مرة ليست إلا شاحنات مياه عادية.

باول أيضًا قال في جلسته المفصلية إن المسئولين العراقيين استبدلوا خبراء الأسلحة النووية بأفراد عاديين من أجهزة المخابرات لخداع طاقم التفتيش الدولي. مذكرة وزارة الخارجية أطلقت رصاصة جديدةً على مصداقية باول بقولها إنها ادعاءات غير ذات مصداقية ويمكن نقدها بسهولة خاصةً من أفراد وكالة الطاقة الدولية. وأكمل باول قصته بأن خبراء الأسلحة الكيمائية قد وُضعوا قيد الإقامة الجبرية في أحد قصور صدّام الرئاسية، ومرة أخرى يرد عليه رجال وزارته بأنها قصة مشكوك فيها إلى حدٍ كبير، على حد تعبيرهم.

على الرغم من أن باول تراجع في مقابلة إخبارية عام 2005 عن ثقته المفرطة في رواياته، وقال إنه هناك بعض الأفراد في المخابرات يعلمون أن مصادره لم تكن جيدة ولا يجب الاعتماد عليها، لكنه أضاف أنهم لم يخبروه آنذاك، وأنّه دُمّر حين أدرك ذلك. لكن تلك البراءة تناقض ما قاله مدير مكتب الانتشار العسكري والقضايا الإستراتيجية في مقابلة مع برنامج «60 دقيقة» الأمريكي المشهور، حيث أكد أن باول كان على وعي تام بكل الهفوات والفجوات الموجودة في شهادته، لكنّ ولاءه لبوش كان أكبر.

لكي يثبت باول أنه لا بديل سوى الحل العسكري، وأنه لا اختيار أمام رئيسه سوى الغزو، خدع العالم كله وكذب في أروقة الأمم المتحدة، وأرسل قوات التحالف والجنود الأمريكيين ليقتلوا في جنود وأبناء العراق، فكان القاتل والقتيل ضحايا كذبة كبيرة شيّدها كولن باول. واعتذاره بأن جلسته أمام الأمم المتحدة كانت وصمةً لطخت سجله لا يغفر له أمام الشعب الأمركي ولا العراقي كم الدماء التي سالت، والعراق الذي دُمّر، فالآثار التي ترتبت على كذبة باول السوداء جرائم لا تسقط بالتقادم.