الأزمة الإنسانية تتجلى في اليمن، ليس فقط بسبب ظروف الحرب وإغلاق المنافذ والحدود اليمنية، وليس بسبب ضعف تمويل برامج المساعدات الإغاثية، ولكن بسبب الاستبعاد المالي ضد اليمن.


معطيات الأزمة الرئيسية

أصدرت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا قرارًا عام 2016، يقضي بنقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها المتمردون الحوثيون إلى عدن العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية.

منذ ذلك الحين ارتبك الوضع وظهرت أربعة مقرات بنوك مركزية مختلفة في مأرب وحضرموت بالإضافة لعدن وصنعاء، وهو ما زاد من حدة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها المواطن اليمني، خصوصًا مع تأخر رواتب حوالي مليون موظف حكومي يعيلون في المتوسط أسرة من 7 أشخاص، بالإضافة إلى مشاكل تضخم الأسعار وندرة السلع الأساسية، في بلد يعتمد على استيراد 90% من غذائه، إلى حد تحذير الأمم المتحدة من المجاعات بشكل متكرر في بلد يعاني فيه أصلًا 55% من السكان من سوء التغذية الحاد، كل هذه العوامل ساهمت في انهيار عمل النظام البنكي باليمن.

الأزمة الإنسانية تتجلى في اليمن ليس فقط بسبب ظروف الحرب وإغلاق المنافذ والحدود اليمنية، وليس فقط بسبب ضعف تمويل برامج المساعدات الإغاثية حيث يتطلب توفير حوالي 3 مليارات دولار بحسب الأمم المتحدة لتنفيذ خطة الاستجابة الإنسانية لليمن عام 2018، لتخدم حوالي 80% من عدد اليمنيين المتضررين، إلا أن هذه الجهود يقوضها عامل مؤسسي هو الاستبعاد المالي الذي تمارسه المنظمات المالية والبنوك الدولية استجابة للمعايير الإلزامية التي تحددها منظمة العمل المالي (FATF) كنظام عالمي لمكافحة تمويل الإرهاب، والتي مثلت قراراتها بشأن دول العالم الثالث ومنها اليمن عاملًا مؤثرًا في إعاقة السيولة المالية للأفراد وحتى للمنظمات الإغاثية.

إذًا سيكون من المهم توضيح هذه التعقيدات التي تطرحها هذه الإجراءات، وما يعرف باسم التخلص من الخطر (De-risking)، وحصارها غير المعلن الذي أعاق الاقتصاد اليمني قبل الحرب، وعلاقة ذلك بإعاقة الجهود الإغاثية وهو ما أدى لتفاقم الوضع الإغاثي، خصوصًا في حالات الأزمات والكوارث، حيث ساهم هذا الحصار الخفي وباعتراف تقارير عالمية في تفاقم أزمة انتشار وباء الكوليرا عام 2017، وتسبب في إعاقة جهود إنقاذ نصف مليون يمني توفي منهم حوالي ألفي شخص، حيث أعاقت برامج تمويل المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية ذات الشأن.


حصار مالي بزعم مكافحة الإرهاب

منذ هجمات سبتمبر/ أيلول 2001، أصبحت البنوك جزءًا من نظام إجراءات مشدد بهدف مواجهة الإرهاب، حيث أصبحت الإدارة الأكثر فاعلية لتمرير العقوبات ضد الأنظمة الفاسدة، أو التي يراها الغرب داعمة للإرهاب مثل: سوريا وروسيا وإيران.

كان هذا الدور يعتمد على قدرة النظام البنكي على كشف الغطاء عن التمويل غير الشرعي، مثلًا غسيل الأموال من التجارة غير الشرعية والمخدرات وتمويل الإرهاب، والآلية المعتمدة هي تجنب الخطر (De-risking)، وتعني مراقبة مدى من التحركات والإجراءات والتي تشمل:

الانسحاب أو التخلص من علاقات المراسلة البنكية (Correspondent banking relationships)، في مسعى للالتزام الفعال مع الإجراءات العقابية المتزايدة في مجال التمويل البنكي ضد الأنشطة غير الشرعية، وإرساءً لمعايير الشفافية خصوصًا فيما يتعلق بتبادل المعلومات الضريبية.

فمثلًا، يلتزم المواطنون الأمريكيون في الداخل والخارج بتقديم تقارير عن حساباتهم المالية خارج الولايات المتحدة، وتلتزم المؤسسات المالية الأجنبية بتقديم تقارير عن عملائهم الأمريكيين إلى مصلحة الإيرادات الداخلية.


عقاب جماعي وعواقب وخيمة

الفشل في التزام الأنظمة البنكية للدول مع التوصيات السابقة، وإدراجها في التشريعات الوطنية، قد يقود إلى نتائج كارثية، فإذا ثبت تعامل القطاع المالي لدولة ما مع بنك في دولة مصنفة تصنيف ضعيف فيما يخص مراقبة النظام البنكي لديها، قد يقود إلى استبعاد النظام البنكي بشكل كامل من النظام المالي العالمي، فكانت النتيجة بحسب الخبراء ظهور اتجاه متشدد يتخذ قرار استبعاد التعامل مع العملاء؛ أفرادًا كانوا أو مؤسسات بالجملة، وقطع العلاقات المالية مع مناطق بأكملها مثل اليمن.

المبرر هو أن العائد من التعامل في هذه الأسواق الصغيرة لا يوازي متطلبات وتكاليف دراسة كل حالة بشكل منفرد، فتكون المحصلة تأثيرًا سلبيًا على الأبرياء و المذنبين على حد سواء، لكن بينما يمكن للمذنبين التأقلم والتحايل، لا يستطيع الأبرياء التعامل مع تأخير التعاملات التنفيذية من سحب وإيداع وتمويل، وعلى المتضررين المحليين إثبات صحة موقفهم أمام الجهات الدولية ولا تتحمل البنوك الدولية أي تكاليف في هذا الشأن، مما يضيف أعباء بيروقراطية إضافية ويثقل كاهل الاقتصادات الوطنية المنكوبة أصلًا.


أثر كارثي على جهود الإغاثة باليمن

لم تحظَ خطوة نقل البنك المركزي بتأييد رسمي من السعودية، ربما للعلم بالصعوبات اللوجيستية التي قد تقوض وظيفة المؤسسة وتسيس عملها، فالحوثيون لم يوافقوا على نقل ملفات البنك إلى عدن، وكان هناك نقص في الكوادر البشرية التي تلقى معظمها تدريب خارج البلاد في عهد المحافظ السابق محمد بن همام، كل ذلك الارتباك اضطر البنوك اليمنية المحلية إلى تكوين تحالفات وإنشاء سياسات مالية خاصة بهم لاستمرار الحد الأدنى من التواصل مع الخارج ومنح خطابات الضمان من أجل حركة التجارة والاستيراد.

المنظمات الإنسانية تقوم مضطرة في أحيان كثيرة بإيقاف برامج المساعدات بسبب نقص التمويل اللازم لعدم القدرة على استلام التحويلات البنكية والتبرعات باليمن.

هذا الوضع يزداد تعقيدًا مع سياسات الاستبعاد المالي التي عانت منها اليمن وهو ما يجبر البنوك المحلية على فتح حسابات في بنوك وسيطة مثلًا بالصين كحل مؤقت قبل عام 2011، لكن مع تفاقم الأزمة الإنسانية وتزايد الاتجاه نحو قصر التحويلات المالية على الشخصيات العامة والوزراء ورجال الأعمال، مع استبعاد الأفراد والمنظمات الإنسانية التي تقوم مضطرة في أحيان كثيرة بإيقاف برامج المساعدات بسبب نقص التمويل اللازم لعدم القدرة على استلام التحويلات البنكية والتبرعات باليمن، وهو ما يؤثر على قدرتها على التعاون مع مقدمي الخدمات والموردين داخل اليمن، وتقديم الخدمات للنازحين واللاجئين الذين وصل عددهم إلى 170000 لاجئ خارج البلاد في دول فقيرة أيضًا مثل الصومال وجيبوتي والسودان وإثيوبيا.


ظهور اقتصاد الحرب في اليمن

باب للفساد، هكذا يصف البعض الإجراءات المشددة التي تتبع ضد النظام المالي والتعاملات البنكية باليمن، فأزمة السيولة المالية والتضخم وانهيار السياسات الموحدة التي يفرضها البنك المركزي، كل ذلك، أدى إلى اللجوء للسوق السوداء لتوفير السيولة المالية، والاعتماد على وسطاء غير شرعيين وتعاظم دورهم الذي يمتد إلى أنشطة التهريب وتجارة المواد الغذائية والوقود في السوق السوداء، حتى أن هؤلاء باتوا بديلًا عمليًا للمؤسسات المالية اليمنية.

كثيرًا ما يعتمد على هذه الشبكات غير الشرعية في إجراء التحويلات بالداخل والخارج، وهذه الشبكة يستخدمها بالمناسبة الإرهابيون أيضًا، كما تستخدمها المنظمات الإغاثية التي تجد نفسها مجبرة في بعض الأحيان على إجراء تعاملاتها بالسوق السوداء، لتوفير احتياجات المتضررين والنازحين داخل اليمن وهم حوالي 3 ملايين نازح.

نقطة أخرى تترتب على ضعف النظام البنكي والقيود على التحويلات، حيث تمنع سياسات البنوك المحلية اليمنية سحب مبلغ أكبر من 5 آلاف دولار أمريكي من أي حساب، حتى ولو كان يتبع منظمة إغاثية، فمشكلة السيولة وضعف التعامل بالعملة المحلية وحتى عدم توفرها، تجبر على اللجوء لهذا الإجراء، وهو ما يعني صعوبة توفير المال لشراء المساعدات من التجار والموردين.


توصيات وحلول

مثلت إجراءات تقليل المخاطر المشددة على اليمن، والتي ازدادت بشدة بعد الأزمة المالية عام 2008، عقبة كبيرة أمام برامج المساعدات التي تعاني من توفر السيولة داخل اليمن، كما تم تجميد بعض الحسابات اليمنية بالخارج والتي تقدر بـ260 مليون دولار، بالإضافة إلى تحدي انهيار الأمن بالداخل وهو ما يحتم التعامل مع شركاء محليين لتقديم المساعدات، أي أنه في ظل هذه الظروف يتحتم التعامل داخل السوق السوداء، لذا لعلاج هذا الوضع يمكن استخلاص النقاط الرئيسية الآتية:

1. على دول الجوار العمل على تفعيل دور البنك المركزي اليمني، كضامن للبنوك المحلية ومسيرًا لكافة أنشطة التمويل التجارية من خلال تحكمه في خطابات الضمان من أجل الاستيراد في بلد يعتمد على استيراد كل غذائه، وإبقاء قنوات اتصال مفتوحة مع النظام المالي العالمي، كما أن نجاح الأطراف المتحاربة في الحفاظ على حياد البنك المركزي، مما يضمن استقرار معدلات الفائدة، وبالتالي التحكم في التضخم وهو ما يساعد كثيرًا في تحجيم توسيع السوق السوداء التي يشجع نموها تزايد دور عمليات الوساطة المالية غير الشرعية.

2. نقطة أخرى تتعلق بالالتزام الأخلاقي لصندوق النقد والبنك الدولي، في إمكانية إجراء حوار مع البنوك المحلية اليمنية لتحديد احتياجات الاقتصاد الضرورية، ومن ثم التوجيه بمراجعة مستمرة لتحديد سياسات تجنب المخاطر (De-risking) الملائمة والتي لا تعيق عمل المنظمات الإنسانية والأفراد العاديين، كما يمكن أن تكون هذه المؤسسات الدولية ضامنًا للبنوك والأنشطة التجارية المحلية، للتأكيد على استمرارية عمل برامج المساعدات في أوقات الأزمات وللنهوض بالاقتصاد بعد انتهاء الحرب.

3. لتوفير بيانات ومعلومات أكثر عن حجم التحويلات والنشاطات المالية وحل مشكلة السيولة بالاقتصاد اليمني، من الممكن التوسع في تبني برامج المحافظ البنكية الإلتكرونية (E-Wallet)، لتسهيل علميات البيع والشراء والتحويلات المالية بالداخل اليمني، وعلى الأطراف الإقليمية مساعدة اليمن في توفير البنية التحتية والكوادر البشرية اللازمة لتأمين التعاملات بهذه التكنولوجيا، وتوفير الدولار لتغطية حجم التعاملات بهذه التقنية، وهو ما يسهم أيضًا في القضاء على السوق السوداء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.