عبر مراحل التاريخ الإسلامي ارتبطت وصايا السلاطين والخلفاء لولاة عهودهم بمعطيات الفترة السياسية التي قيلت فيها، بل وشخصية قائلها، فاختلفت من زمن لآخر، وحملت معاني وتوجهات شتى تعكس مسار حقبتها التاريخية.

وبحسب يوسف عبدالحميد بن ناجي في دراسته «وصايا بني أمية وبني العباس إلى ولاة عهودهم. دراسة مقارنة»، تمثلت الإرهاصات الأولى للوصية في المجتمع الإسلامي في وصية عم الرسول محمد لقريش وقت احتضاره، إذ أوصاهم بابن أخيه رغم عدم إعلانه اعتناق الإسلام، فبعد أن ناداهم يا معشر قريش، وقال لهم إنهم صفوة الله من خلقه، ثم عدد مآثرهم، ومجّد مواقفهم ومكارمهم أخذ يوصيهم بمحمد «وإني لأوصيكم بمحمد خيرًا، فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب».

ثم في وصية ضمنية للرسول لمن يخلفه في الصلاة اعتبرها المسلمون إشارة – غير واجبة – لإمكانية تولي أبي بكر الخلافة الإسلامية، أو اختيار آخر عندما قال «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

ثم تأتي وصية أبي بكر الصديق بولاية عمر بن الخطاب للخلافة، ويوصي عمر بستة من أصحابه يختارون من بينهم من يخلفه، وهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف.

الأمويون ووراثة الحكم

اختلف الأمر في الدولة الأموية. يذكر عبدالستار إسماعيل الطائي في دراسته «وصايا الخلفاء في العصر الأموي. دراسة في المنظور السياسي والعسكري»، أن الأمويين اعتلوا منصب الخلافة بعد تنافس سياسي وعسكري بذلوا فيه جهودًا مضنية، ودخلوا في صراعات سياسية وعسكرية وفكرية لتثبيت أحقيتهم وشرعية حكمهم، وفي خضم هذا التنافس حرص الأمويون على استمرار الخلافة في أعقابهم، فاستحدثوا نظام الوراثة في النظام السياسي الإسلامي.

وسعيًا منهم على استثمار إنجازاتهم واستمرارها كضمانة لحصر الخلافة في الأسرة الاموية، وفرْض سيطرتها على أقاليم الدولة، حرص الخلفاء على توريث أبنائهم ثمرة تجاربهم ورؤاهم السياسية، ونظرتهم المستقبلية للواقع السياسي والعسكري والإداري، وذلك من خلال وصية يوصي بها الخليفة القائم لمن سيعقبه في المنصب من أبنائه، يضّمنها خلاصة أفكاره وطموحاته وخطططه المستقبلية، حتى أصبحت الوصية عرفًا سياسيًا انتهجها الخلفاء.

رموز المعارضة في وصية معاوية

وبحسب «الطائي»، أرسى الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان تقليد الوصية لأعقابه كمنهج سياسي، مستلهمًا ذلك من خبرته الطويلة في الإدارة كوال على الشام ثم خليفة، وكذلك لحداثة ابنه وولي عهده يزيد، وقلة تجربته في إدارة شؤون الدولة، فضلًا عن توقعه بأن ما جابهه من مشاكل يمكن أن تُستجد في خلافة ولده، وأن المعارضة التي استكانت في عهده لا بد وأن تسفر عن موقفها بعد وفاته.

لذلك شخّص معاوية لولده رموز هذه المعارضة فحذره قائلًا «واعلم يا بني أني أخاف عليك من هذه الأمة أن تنازعك هذ الأمر الذي رفعت لك قواعده، وخصوصًا أربعة نفر من قريش، منهم عبدالله بن أبي بكر، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، والحسين بن علي».

ورغم أن الحجاز رضخت لأمر الحسن بن علي بعد تنازله عن الخلافة لمعاوية، فإن ما أثار الشخصيات البارزة في قريش عزم معاوية الوصية بولاية العهد لابنه يزيد، ما أثار معارضة شديدة، لا سيما في الحجاز حيث كبار الصحابة الذين عارضوا الانتقال من النظام السياسي القائم على الشورى إلى نظام ولاية العهد، فضلًا عن أنهم لم يجدوا في شخصية يزيد من المؤهلات ما يمكنه من تولي أمر المسلمين.

ومن هذا المنطلق شخّص معاوية لولي عهده أبرز الرموز التي ستناوئه، وحدد له سبل التعامل معهم، لكنه في نفس الوقت أوصاه بهم خيرًا لمكانتهم في الإسلام ولحسبهم ونسبهم، كما أوصاه خيرًا بأهل الحجاز فهم أهله وعشيرته، ذكر «الطائي».

وكان للعراق نصيب من الوصية، فقد أعلن معارضته للأمويين بعد أن انتقل مركز الخلافة وبيت المال من الكوفة إلى دمشق، ولم يعطوا البيعة لمعاوية عن رضى واقتناع، ولم يكن هذا الأمر ليخفى عن الخلافة في الشام، لذا حرص معاوية على أن يجّنب ولده أي ردود أفعال قد تصدر من أهل العراق، لحساسية موقفهم من الخلافة الأموية من جهة، ولتأثيرهم في مجرى السياسة الأموية من جهة أخرى، لذا كانت وصيته لابنه يزيد بشأنهم «وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملًا فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن تُشهر عليك مائة ألف سيف».

أما الشام الذي استند الحكم الأموي في قيامه على رضى قبائله ومساندته معاوية منذ أن وُليّ عليهم، وساندته في الوصول إلى الخلافة، فقد أوصى معاوية يزيد بهم «إنهم بطانتك وظهارتك، وقد بلوتهم واختبرتهم، فهم صبر عند اللقا، حماة في الوغي، فإن رابك أمر من عدو يخرج عليك، فانتصر بهم، فإذا أصبت بهم، فأرددهم إلى بلادهم يكونون بها إلى وقت الحاجة إليهم».

وبحسب «الطائي»، أراد معاوية أن يحافظ على وحدة تماسك قوى الشام، لأنهم سند الخلافة وظهيرها وقوتها الضاربة، فحرص على عدم تفرقتهم في الأمصار فتُشتت قواهم.

يزيد بن معاوية: لا شيء يقال

توفي معاوية سنة 60هـ وتسلم يزيد مهام السلطة. يذكر رياض أحمد عبيد العاني في كتابه «الوصايا والتوجهات السياسية والعسكرية لمشاهير الأمراء والخلفاء في الأندلس»، أن يزيد لم يترك وصية لابنه معاوية الذي عهد إليه الخلافة من بعده، ولا لأبناء الأسرة الأموية ولا للأمة الإسلامية، ويبدو أنه لم يكن يرى أن الموت سيداهمه وهو لم يزل بعد في سن الشباب، ومن ثم فإنه لم يلتفت إلى هذه الناحية كما التفت إليها أبوه معاوية من قبل، أو أنه لم يجد شيئًا يقوله في وصيته، فهو مجرّد من التجارب والخبرات التي يتحتم عليه أن يبرزها للأجيال اللاحقة، كما أن رصيده في الرؤى السياسية لا يستحق أي نوع من التسجل.

وبموت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، يمكن القول إن دولة الفرع السفياني قد سقطت وانتهت، فقد تولى الخلافة بعده -وبعهدٍ منه- ابنه معاوية الذي كان له من العمر آنذاك نحو عشرين سنة، ولم يعمر معاوية الحفيد في منصبه سوى مدة وجيزة قيل إنها 3 أشهر، وقيل إنها عشرون يومًا، ومات الحفيد، لتنتقل الخلافة إلى الفرع المرواني.

مروان بن الحكم ونهج معاوية

مع بيعة مروان بن الحكم سنة 64 – 65هـ، بدأ عهد الفرع المرواني في الخلافة الذي أرسى الثوابت السياسية التي أقر بها معاوية، لا سيما الوصية لولاة العهد، فمن وصايا مروان لولي عهده عبدالملك أن يرجّح كفة العفو في تعامله مع المذنبين من رعيته، طالما أن الذنب لا يتجاوز الخروج على نظام الحكم، وهذا ما اشتملت عليه أيضًا وصية مشابهة لمروان بن الحكم لابنه عبدالعزيز، روى «الطائي» في دراسته المذكورة آنفًا.

ويبدو أن هذا ما أرساه معاوية في سياسته، بحيث عدها من أخلفه ثوابت في التعامل مع الاتجاهات المختلفة، فمن قوله «إني لا أضع سيفي حتى لا يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حتى يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبدًا، فقيل له كيف ذلك؟ قال كنت إذا مدوها أرختها، وإذا أرخوها مددتها».

ويبدو أن حاجة الخلافة الأموية في عهدها الأول إلى استمالة القلوب لكسب التأييد والإذعان بالطاعة، كانت بمثابة موجبات أحكمت السياسة الأموية في هذه المدة.

عبدالملك بن مروان: لا للمعارضة

أما وصية عبدالملك بن مروان لولي عهده الوليد، فقد عكست طبيعة الظروف السياسية والاسرية التي واجهت الخلافة في عهده، إذ واجه الكثير من التحديات والقلاقل السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، مثل حركة عمرو بن سعيد الأشدق، وحركة عبدالله بن الزبير، وحركة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فضلًا عن حركة عبدالرحمن بن الأشعث، وكذلك حركات الخوارج، إضافة إلى محاولات الإمبراطورية البيزنطية لاختراق حدود الدولة الإسلامية الغربية.

وإزاء هذه التحديات، بذل الخليفة عبدالملك جهودًا مضنية لفرض سلطة الخلافة المركزية ووحدة أقاليمها وحماية حدودها، فضلًا عن قيامه بإجراءات إدارية ومالية مثّلت سابقة في تحقيق الاستقلال عن المؤثرات الخارجية.

ولهذه الاعتبارات حرص الخليفة عبدالملك على الحفاظ على إنجازاته واستمرارها في ولاة عهده، لذلك جاءت وصيته لولي عهده الأول الوليد بن عبدالملك بأن يسلك القوة ولا يسمح بالمعارضة، وأن يفرض سياسته على مختلف الاتجاهات «إذا أنا مُت فغسلني وكفّني وصلي عليّ وسلمني إلى عمر بن عبدالعزيز يدليني في حفرتي، وأخرج أنت على الناس، وألبس لهم جلد نمر، واقعد على المنبر وادع الناس إلى بيعتك، فمن مال بوجهه عنك كذا فقل له بالسيف كذا، وتنكر للصديق والقريب واسمع للبعيد»، روى «الطائي».

ولم ينسَ الخليفة عبدالملك بن مراون أن يوصي ولي عهده الوليد بالحجاج بن يوسف الثقفي، الذي تولى العراق في أحرج أوقاته، وفرض سلطة الخلافة المركزية عليه، وقمع كثيرًا من التمردات ووضع حدًا للطامحين للخلافة، وأرسى أسسها في العراق والمشرق والحجاز، «وأوصيك بالحجاج خيرًا، فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وكفاكم تقحم تلك الجرائم».

عمر عبدالعزيز يخلي مسؤوليته

ورغم أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز (99- 101هـ) لم يكن راضيًا على تولي يزيد بن عبدالملك الخلافة من بعده، فإنه لم يشأ عزله، حتى لا يخرج على وصية الخليفة سليمان بن عبدالملك الذي أوصى بذلك، ولم يجد عمر أمامه إلا أن يوصيه بأنه سيتحمل مسؤوليته أمام الله بتوليته الخلافة، وسيُحاسب على عمله، لذا أوصاه بتقوى الله، وألا يتعجل العقوبة، وأن يميل للعفو، وعدم مجاملة أحد في قراراته، لأنه الوحيد الذي سيتحمل عواقب سياسته.

أبو جعفر المنصور: نقلة نوعية في الوصية

وفي العصر العباسي، اختلفت الوصية شكلًا ومضمونًا. يذكر «بن ناجي» في دراسته المذكورة آنفًا، أن الدولة العباسية بلغت درجة عالية من التقدم والاتساع، ودخلت عناصر جديدة من أمم شتى، وكثرت التعاملات، وزادت خبرات قادة المسلمين، وانعكس ذلك على وصايا الخلفاء لأولياء عهودهم.

وكان من أبرز هذه الوصايا وصية الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور (95 – 158هـ) قبل وفاته لولده المهدي، في آخر لقاء جمعهما عند وداع المنصور لابنه في رحلته للحج، التي كان فيها التطور، واتساع أمر السلطة والحكم واحتياج الناس والزمن إلى تفاصيل أخرى تراكمت عبر السنوات والعقود الفائتة.

وابتدأ المنصور وصيته لابنه بأنه لم يترك شيئًا إلا جهزه وجمعه له، وأنه جمع وجهز له مجموعة من الدفاتر اشتملت على علم أبيه وعلم آبائه لما حدث من قبل وما سيحدث إلى يوم القيامة.

ويرجح «ابن ناجي»، أن الدفاتر حوت أحاديث وإشارات الكتب السماوية ومرويات تاريخية عن الأنبياء والرسل تحدثوا فيها عن الأمم التالية والأمور المستقبلية، كما ذكرها الرسول محمد، إضافة إلى حديث الكتب السماوية وأقوال الرسل والأنبياء عن يوم القيامة وأحداثها وكيفيتها، والثواب والعقاب والجنة والنار، وأقوال الحكماء والعلماء في حركة التاريخ، والمسلمات الكونية التي نظمها الله للكون.

غير أن ثمة قضية تحتاج إلى دراسة ومقارنة وتحليل، إذ يُلاحظ في العصر الأموي ما نلاحظه في العصر العباسي من حرص الولاة على الوصية بالأهل، وهي سمة مشتركة، وإنما يظهر الخلاف بين العصرين في الوصية لغير الأهل حيث حرص الأمويون على الوصية بأهل الشام والجنس العربي، بينما في العصر العباسي يلاحظ العناية والوصية بالفرس، لا سيما أهل خراسان لأنهم شيعة العباسيين الذين بذلوا الأموال والدماء، وهذا واضح في قول المنصور «وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، وألا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم».

وثمة اختلاف آخر بين العصرين وهو تمسك الأمويين بعاصمتهم دمشق، بينما وصية المنصور ألا يترك ولده مدينته بغداد، محذرًا من تركها «فانظر إلى هذه المدينة، وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال».

والملاحظ أيضًا في تطور الوصايا واختلافها عند العباسيين عن الأمويين في اشتمالها عند المنصور على أبواب كثيرة تخص الأهل وكيفية التعامل معهم، وأخذ الحيطة والحذر من حراسهم ومساعديه وإعداده الجيش وتجهيزه الدائم، وإعداد ومتابعة الثغور وشحنها بالرجال والعتاد، كما أوصاه بفن إدارة الوقت وعدم تأجيل الأمور، ومباشرتها بنفسه حرصًا على الأمان، كما أوصاه باتخاذ عنصر المخابرات ويقظتها وضرورة متابعة الأحوال ليلًا ونهارًا، كما ذكر «ابن ناجي».

المأمون يحذر المعتصم من الوزراء

أما وصية الخليفة عبدالله المأمون (170- 218هـ) لأخيه أبي إسحاق المعتصم فجاءت دون تفصيلات كثيرة ولا نصائح متعددة، ولكنها تركزت في ما هو مقدم عليه من تركه لمتاع الدنيا ورهبة الآخرة بما فيها من ثواب وعقاب ونهاية المطاف، فظهرت في وصيته أمور العقيدة، واعترافه بذنبه مع طمعه في الغفران.

وأورد الحافظ ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» وصية المأمون للمعتصم بتقوى الله والرفق بالرعية، وعليه أن يعتقد بما اعتقد هو في القرآن بأنه مخلوق، وأن يدعو الناس إلى ذلك، ثم أوصاه بقائده العسكري عبدالله بن طاهر وآخرين، وحذره من يحيى بن أكثم قاضي القضاة وعدم مصاحبته، لأنه خانه ونفّر الناس عنه، ثم أوصاه خيرًا بالعلويين بالإحسان إليهم والتجاوز عن مسيئهم وأن يواصلهم بالعطاء كل سنة «هؤلاء بنو عمك من ذرية أمير المؤمنين علي أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأعطهم الصلات».

أما رواية شمس الدين الذهبي عن الوصية فأوردها في كتابه «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام»، فزاد عليها باشتمالها على أمر المأمون بألا يتخذ المعتصم وزيرًا قط طوال حياته، نظرًا للتجربة المريرة التي عاشها ومر بها مع وزيره يحيى بن أكثم في معاملة الناس، فيما أمره بعدم مفارقة الفقيه المعتزلي عبدالله بن دؤاد «وأبو عبدالله بن أبي دؤاد لا يفارقك وأشركه في المشورة في كل أمرك، ولا تتخذن بعدي وزيرًا، فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس، وخبث سريرته حتى أبعدته»، ويبدو أن المعتصم عمل بالوصية فعزله عن القضاء.