وقف الطالب في فصله في المدرسة الإسلامية، سأله معلمه عما يود أن يكون في المستقبل. عادة ما يجيب الصبيان على تلك الأسئلة بأنه يريد أن يصبح مهندسا أو طبيبا، تلك الإجابات التي لقنها أهلهم إياها. فكّر الطالب مليا ثم لمعت عيناه وقال: «أريد أن أصبح قائد الجيش الذي يحرر الأقصى». تهلل وجه المدرس وأثنى على إجابة طالبه. عدها الإجابة الأصوب والتي تدل على تجرد صاحبها وحسن تربية أبويه له وغرس الاهتمام بالأمة في قلبه، ثم حكى المدرس لطلابه قصة محمد الفاتح ومعلمه الذي كان يصحبه إلى البحر ويريه القسطنطينية ويمنيه بفتحها. استمع الطلاب مبهورين لتلك القصة وعادوا يخوضون معاركهم في أحلام اليقظة كأطفال فاتحين، ومعهم طالبنا الذي عوده أبواه على مكافئته على كل طاعة صغيرة يقوم بها، وعلى كل عمل بر يقوم به، لا لأنه عمل بر في حد ذاته، لكن لأنه عمل له غاية عظمى ووظيفة كبرى. في مراهقته سيسمع أن الأقصى لن تتحرر إلا إذا أصبح المصلون في الفجر مثل عددهم في صلاة الجمعة، إذا أدى امتحانه وحصل على علامات نهائية. لازال الحلم يتوهج مع الطالب منذ طفولته حتى مراهقته، صحيح أن الحلم بالطب أو الهندسة واضح ومسلوك من الكثيرين من قبل، وحلم قائد الجيش غائم لم يسلك منذ قرون، بل ربما مضحك كقبعة كبيرة على رأس ذلك الصبي الصغير، لكن الأحلام البراقة وحدها من تحشد التصفيق. عرف طالبنا ذلك مبكرا وكذا بدأت قصته.


يشعر الجيل ص بنوع من الاستحقاق، لكنه ليس عيبا شخصيا أصيلا، بل جزء منه خطأ الآباء الذين دللوا أطفالهم بإخبارهم الدائم كم هم متميزون وأن كل مطلوب ممكن، ومكافئة أطفالهم على أبسط الأمور والإغداق عليهم بالهدايا والجوائز لمجرد المشاركة. لقد أعاق هؤلاء الآباء نمو أطفالهم بالإزالة الدؤوبة لكل العقبات والخبرات السيئة[1]

بطموح بكر قرأ جيل كامل تاريخ الصحابة والفاتحين بعين أحلام اليقظة، القُصاص والوُعاظ سوقوا له ذلك التاريخ المخملي، أكملوا ما بدأه الآباء بإخبارهم كم هم رائعون ومتميزون، كيف سيصير ذلك الجيل الصغير جيل النصر المنشود. جعل هؤلاء الوعاظ تاريخ الصحابة متبرجا فاتنا لا شية فيه. كان من الطبيعي في تلك المرحلة أن يحظى مشاهير الصحابة بالحديث، أولئك الذين تولوا إمارة أو ثبتوا في غزوة أو تعرضوا لتعذيب شديد؛ أي أولئك الذين خاضوا المعركة وعاشوا الملحمة، أولئك الذين تداعب ذكراهم أحلام النجومية والقيادة. ثم جاء مدربو التنمية البشرية ليقنع جيلنا أن كل شيء ممكن بالتخطيط والتدريب. التخطيط لماذا والتدريب علام؟ لا تهم التفاصيل، المهم هو الحديث عن فائدة التخطيط والتدريب والإتيان بشواهد واقتباسات براقة من الشرق والغرب. كل ذلك أنتج أشخاصا يلوكون عددا من الديباجات عن النهضة والأمة، لهم طموح القادة وقدرات أقل من الجنود.

أسرف الدعاة في الحديث عن كيف سيفيض العالم بالسمن والعسل إذا فعلنا كالصحابة وحكمنا بشرع الله (دون تحديد لماهية هذا الحكم وكيفية تطبيقه الآن) كيف جاهد الصحابة في سبيل الله، انتشر الكلام في السير والمغازي حتى تجد من يحفظ وقائع متفرقة من السيرة ولا يعرف أبسط أحكام الفقه في حياته الاجتماعية.

كبر جيلنا وتضاءلت أحلامنا. انزوت تلك الأحلام الملحمية تحت ضغط الجامعة والتجنيد ودوام الوظيفة، الأقصى صار آخر ما يمكن أن نراه وقد صار في كل دولنا المنكوبة أقصى جديد. ارتضى صاحبنا بحلم الموظف المسلم بديلا عن قائد الجيش المسلم. انتهت أحلام الطفولة إلى خزانة الثياب ككل ثياب قصرت عن الأجساد الناضجة وبلت. يمكن لأي من جيلنا وسط القهر والظلم أن يستدعي من خزانة ثيابه سيرة عمر بن الخطاب ويحدثك عن العدل في الإسلام، أو يحدثك، في قلب الهزيمة والوهن، عن أبطالنا الخارقين كخالد بن الوليد، لكن حين يذهب أي منا إلى عمله كل صباح لن يجد سوى ثياب الآن، حين تعرض له معاملة مالية في تخصصه التقني أو يريد شراء أو بيع سلعة أو خدمة، سيجد عالما واثنين وثلاثة يرتج عليهم الأمر ويتوقفون، لكنهم في درس العشاء ستنطلق ألسنتهم للحديث عن التاجر المسلم الزبير بن العوام!

ونحن بدورنا لن نقصر مع مشايخنا ودعاتنا، سنحول أحلامنا من تحرير الأقصى لريادة الأعمال والشركات الصغيرة، من الرجل الأمة إلى الرجل الشركة، أو الرجل الكاتب والإعلامي، سنستدعي كل تاجر وثري من الصحابة وننحي القادة العسكريين والسياسيين جانبا، أو سنقدمهم باعتبارهم مديرين ناجحين ومحفزين لموظفيهم وأتباعهم، كأي مدرب بيسبول في فيلم هوليوودي، يشعر لاعبيه بالمعنى. بالاكتمال.


هذا الجيل هو أكثر عمالة متعلمة على الإطلاق، ويشكل ذلك جزءا من اعتقاد الجيل ص أن لابد لعمله من معنى. العاملون من هذا الجيل يريدون الشعور بالاكتمال أكثر من أي وقت مضى، وهم مستعدون للعمل بجد في الوظائف التي توفر لهم ذلك[2]

هكذا تنقلنا في استشهادنا بتاريخ الصحابة والتابعين وغيرهم من صورة متبرجة إلى أخرى، من مطاردة سيرة نجم إلى نجم آخر نريد منهم معنى لحياتنا. وليتنا في مطالعتنا الانتقائية لسيرتهم تلك، فهمنا حياتهم كما كانت، لا كما اشتهت أحلامنا، إذن لعرفنا لهم فضلهم، ولرأيناهم كذلك بشرا كباقي البشر. لهذا لن يفهم البعض منا مغاضبات خالد وفتنة الصحابة، لن يفهم رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش ولن يعذر بدريا شرب خمرا، لن يفهم لماذا تأخر إسلام عمر، ولماذا قاتل الزبير علي بن أبي طالب، بل حتى لن يفهم كيف قضى الزبير يفلح أرضه بيديه فيدهش تابعيا جاء ليرى نجما، صاحبا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، ظنه سيكون عابدا زاهدا ليجده بين الماء والطين! لن ينجذب البعض لمجاهيل الصحابة وخامليهم، لن يأبه بمن ماتوا في طاعون عمواس على فراشهم، أو لسير السابقين الأولين الذين بقوا في مكة في الحديد، أو أولئك الذين مروا علينا في السنة مجهولين والله ورسوله يعلمهم. لن يأبه لرجل نجا من النار ودخل الجنة، لأنه لم يصبح في الدنيا نجما!

وكل بضع سنوات نكيِّف صور هؤلاء الأعلام، الذين صيرناهم نجوما كاملين، لعلنا إذا أخرجناهم من خزانة الثياب وافقوا أحلامنا الجديدة وقياساتنا الجديدة، لعلنا نحقق شيئا، أي شيء دون خيارات مؤلمة وتضحيات صعبة، والأقسى من ذلك أن تكون نهاية تلك الطريق خمول الذكر وخفاء السيرة. كل ذلك دون أن نسأل أنفسنا للحظة، ما هي حياتنا وما هي إمكانياتنا وقدراتنا، ومالذي يصلح شئوننا ويحقق رغباتنا، رغباتنا نحن الحقيقية لا تلك التي زُرعت فينا عمدا منذ طفولتنا.

كيف يمكن أن يكون العمل الصالح هو ما ينجي من النار ويدخل الجنة أيا كان أثره على الواقع طالما هو في وسع الإنسان وقدر طاقته، كيف أن التنعم بالدنيا ليس عيبا، وعمل المرء ما يحبه وتعلم ما يحبه ليس عيبا، ولا يجب التماس العلل وتكلف النيات لجعل كل التفاتة تحقيقا لغاية كبرى.

ستظل تلك المشكلة قائمة، ومطاردة النجوم مستمرة، لأن هناك من عمّى عن نفسه حقيقة الحياة بحلوها ومرها وخيباتها، هناك من قرر ألا يصدق مع نفسه ويعرف وسعها ومقصدها الحقيقي من أي فعل تقوم به، هناك من رفض التصالح مع رغباته وملذاته الصغيرة، بل يجب أن تكون كل لفتة منه لها غاية كبرى تغير العالم مهما كان ذلك بعيدا ومتكلفا، لأنه قرر أن ينصرف من حياة الواقع إلى طلب صور من خيال، ولعله يأتي زمان يُمدح فيه الرجل فيقال: «رحمه الله كان حقيقيا».


[1] من مقال «Perception vs Reality: 10 Truths About The Generation Y Workforce» لراندل س.هانسن، ترجمة الكاتب بتصرف. يُشار إلى الجيل ص باعتباره الجيل المولود بين 1977 و1994 وتتركز كثير من الدراسات حول هذا الجيل في الولايات المتحدة وإن كانت ثمة شواهد أن لهذا الجيل نظراؤه في العالم الآن وتم الالتفات لذلك التشابه خصوصا على خلفية ثورات الربيع العربي.[2] المصدر السابق.