كم نحن بحاجةٍ إلى قراءة مدونات الفقه عند مختلف المذاهب لنلتمس منها النماذج التطبيقية لمفهوم الحرية ودلالاتها الشرعية. وكم نحنُ بحاجة للتعرف على معانيها كما تجلت في وقائع الحياة اليومية لمجتمعات أمتنا الإسلامية عبر مراحلها التاريخية المتعاقبة. وثمة عديد من المسائل التي تكشف عن هذه المعاني وترشد إلى تلك النماذج، ومنها مثلًا: مسألة «بيع الغَرر».

والغررُ لغة يعني: الخدعة والخطر. وعرَّفه الشريفُ الجرجاني فقال: «الغررُ ما يكونُ مجهولَ العاقبة، لا يدري – الإنسان – أيكون أو لا؟» (التعريفات، القاهرة، طبعة الحلبي، ب ت. ص141). الغررُ بهذا المعنى حرَّمته الشريعة ونهت عنه في عقود بيوع المعاوضات، ففي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر» (رواه مسلم). وقال الإمام النووي: «النَّهيُ عن بيع الغرر أصلٌ عظيمٌ من أصول كتاب البيوع، يدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة» (صحيح مسلم، بشرح النووي، ج11 – 156). وعلينا أن ننتبه إلى قول النووي رحمه الله: «يدخلُ فيه مسائل كثيرة غير منحصرة»، ومنها مسألة الحرية التي سنتبيَّنها بعد قليل من حكمة الشرع الشريف في تحريم بيوع الغرر.

لم تُحرِّم الشريعة الغرر في عقود المعاوضات وحدها، وإنما حرَّمته أيضا في عقودِ التبرعاتِ أيضًا مثل: الهبة، والوصية، والوقف؛ إذ إنَّ تفضُّل الواهبُ أو الموصي أو الواقف بالتبرع وهو بملء إرادته الحرة لا يعني أن يُسمح له بتجهيل تبرعه، أو بمخادعة دائنيه للتهرب من الوفاء بديونهم مثلًا، أو بشيء من ذلك، ولو كان تحت ستار عمل خيري ظاهره طلب القرب من الله ونيل ثوابه.

ومن باب أولى، فقد تقرر في الشريعة الغراء تحريمُ «الغرر» في عقود الشركة، والرهن، والكفالة، والوكالة، والزواج. ليس هذا وحده، وإنما قرر فقهاء المذاهب أيضًا تحريم «الشروط» التي تنطوي على الغرر في أي عقد من تلك العقود، ولو كان الغرر في شرط واحد، فإنه يصح العقد ولكن يبطل الشرط. وعندهم أن كل شرط انطوى على غرر يكون حكمه كحكمه في التحريم والنهي والبطلان، ونقلوا الإجماع على هذا التحريم.

ما الذي يعنيه هذا الاهتمام الهائل بتحريم «الغرر»، وما صِلتُه بسؤالِ الحرية ومفهومها الذي سبق أن صورنا مبناه وفهمنا معناه؟ إن هذا الاهتمام يكتسبُ مشروعيته – في نظري – من تضافر النصوص على تحريم الغرر، أو ما سماه الشيخ الحارثي «نَهيُ الغرر» بمختلف صوره وأشكاله (سعيد بن حمد الحارثي، نتائج الأقوال من معارج الآمال ونثر مدارج الكمال، تحقيق سالم العَيْسري، سلطنة عمان – مسقط: مكتبة الجيل الواعد، مجلد2/ص53).

وحكمةُ هذا التحريم كما تستبينُ من اجتهادات أغلب فقهاء المذاهب وشروحاتهم هي: سد باب الخطر الداهم على حرية التملك، ومن ثم حرية التصرف، وصون هذه الحريات من عدوان ذوي الشوكةِ الظالمة، ومن سطوة ذوي الأيادي القويةِ، وأصحاب النفوس الضعيفة؛ أولئك الذين تغلبهم شهواتهم البهيمية وتدفعهم لاستغلال قوتهم لسلب حقوق الناس، أو لتسخير سلطتهم المعنوية أو المادية بقصد أكل مال الغير بالباطل، أو الإيقاع بالضعفاء وحسني النوايا انتهازًا لضعفهم، أو استغلالًا سيئًا لحسن طواياهم، أو لانتهاز فرصة قلةِ معرفتهم بحقوقهم، أو محدودية خبرتهم بأحوال السوق وطبائع الخلق.

قال ابن تيمية: «مفسدةُ بيع الغرر كونه مظنة العداوة والبغضاء». (مجموع الفتاوى، مجلد/29، ص25). ولأجل هذا أمر الشارعُ الحكيم بتحريم هذا النوع من البيوع، وتبحَّرَ الفقهاءُ في تأصيله وتفريعه وضربِ الأمثلة الشارحة له، والمفهمة لخطره؛ بحسب معطياتِ أزمنتهم وأحوالهم الاقتصادية.

تحريم بيع الغرر وعقوده وشروطه يعني، أيضًا، سدَّ الذرائع المؤدية إلى إثارة الفتن بين الناس، والإخلال بالاستقرار والأمان الجماعي (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، مجلد4/كتاب البيوع، ص16)؛ لأن نشوب «الفتنة» يهيئ البيئة الملائمة لانتهاك «الحرية»؛ إذ في حال الفتنة لا يكادُ الفرد يميز الصواب من الخطأ، ولا يكاد يعرفُ النافع من الضار، كما لا يكاد المجتمعُ يتبين المصالح من المفاسد، وتغدو الحريةُ بمعنى القدرة على التصرف والاختيار أول ضحايا الفتنة. ولهذا كانت الفتنة «أشد من القتل»، وكانت «أكبر من القتل»، ولهذا أيضًا كان كل ما أدى إليها أخذَ حكمها.

ومن تطبيقات مفهوم الحرية في التصرف، ما يقرؤه دارسو «الفقه» وطلابُه في مسائل العقود – بأبواب المعاملات – مما سماه الفقهاء: «الخيارات الشرعية». فهم يُعرِّفونها أنها: «حقُّ العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغ شرعي أو بمقتضى اتفاق عقدي»، وتتمثل الخيارات العقدية في عدد من التصرفات البدائل التي يختار العاقد من بينها ما يناسبه وهي ما تُعرف في كتبهم باسم: خيار الشرط، وخيار النقد، وخيار التعيين. والحكمةُ، أو العلةُ – على ما بين الحكمة والعلة من فروق – من تشريع هذه الخيارات هي: التروي دفعًا للغرر، أو تجنبًا للمغارم وطلبًا للمغانم. (السرخسي، المبسوط، تحقيق: خليل محيي الدين الميس، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ – 2000م، ج13، ص10).

تتجلى لكل ذي عينين حريةُ التصرف الخالصة من سلطة الغير في معظم أبواب الفقه ومسائله الخاصة بالإقرارات، والعقود، والالتزامات، وصيغ الزواج والوصايا والهبات والأوقاف. ومعلوم فقهًا أن هذه التصرفات قائمة على «الأقوالِ الحرة». ولولا اعتبار «حرية الأقوال» لما أنتجت هذه التصرفات آثارَها، ولأضحت باطلة شرعًا، ولهذا قرر الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – أنه متى تأكدنا أن أيًّا من تلك التصرفات وقع في حالة إكراه، أو سلبٍ للإرادة، أو نقص في الأهلية؛ فإنها تكون باطلة ولا تنتج آثارها؛ لماذا؟ لأنها – بكلمة واحدة مختصرة – لم تؤسسْ على شرطها اللازم والضروري وهو: «الحرية» التي تعني الاختيار والقدرة على التصرف مع الخلوص من تسلط الغير.

اعتنى الفقهاء بحرية «الأقوال»، وما تنبني عليه من حرية الإرادة، والخلوص من الإكراه أو الإجبار، وما ينتج عنها من حرية التفكير ومن ثم حرية التعبير؛ باعتبار أن حرية التعبير من المواليد الشرعية لحرية الإرادة التي تتجلى بوضوح في مختلف أنواع العقود، كما تتجلى في كل ما للإنسان فيه اختيار.

واعتنوا كذلك بـ «حرية الأعمال»، وهي تشمل كلَّ مباحٍ. ومعلوم أن «المباح» في لغة الأصوليين والفقهاء هو: ما يقتضي التخيير بين الفعل والترك دون حرج من الوقوع في الإثم أو ارتكاب معصية. وهذا «التخيير» تطبيق مباشر وصريح لجانب من جوانب مفهوم الحرية؛ باعتبار أن الحرية تعني القدرة على التصرف والخلوص من سيطرة الغير. والمباح في اصطلاح الفقهاء يغطي أوسع دائرة من الأعمال والاختيارات الحرة مقارنة ببقية الأحكام التكليفية الخمسة، وقد يكون اتساعُ دائرته سببَ توسطِه تلك الأحكام الخمسة؛ إذ يسبقه الواجب، والمندوب، ويليه والمكروه والمحرم. وسنُرجِئ الاستطراد في الكشف عن معاني الحرية في هذه الأحكام إلى حين البحث عن الحرية في أصول الفقه إن شاء الله تعالى.

إن «المباحَ» هو أوسع ميدان لانطلاق حرية العمل، ولا يخفى أن المباح هنا: المأذون فيه شرعًا ولو بالعموم، فيدخلُ فيه المكروه، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وغيره من أكابر العلماء.

ومن ذلك مثلًا: الاشتغال بأنواع الحرف والصنائع، وارتياد الأماكن المأذون في نزولها، وتناول ما أبيحَ للناس من الماء والطعام والكساء، والتصرف في المكاسب في وجوه المنافع الخاصة أو العامة، واختيار المطاعم والملابس والمساكن والشهوات المأذون فيها، وهذه الأعمال كلها اجتهد فيها الفقهاء وبيَّنوا أحكامها انطلاقًا من قاعدة «الحرية»، ومن حرية الاختيار والقدرة على التصرف تحديدًا.

انتظمت الاجتهادات الفقهيةُ كذلك كلَّ أعمال المرءِ التي تتعلقُ بعمل غيره، تأسيسًا على الإذن فيها إذا لم تضر غيره، وهنا ضمان لحرية طرفي العمل: حرية العامل، وحرية من يتصل عمله بعمله؛ فإذا وقع عمل ينتهك هذه القاعدة، فإن الفقهاء يوجبون عليه الضمان (التعويض) لتدارك الضرر، فإن تعذر تداركه فهناك عقوبة الزجر أو التعزير، وما هذه الاحتياطات إلا لضمان سريان أثر «الحرية» في شبكة العلاقات الاجتماعية بيسر وسهولة، وصونها من الانتهاك والتعدي.

وكمثال آخر على التطبيقات الفقهية لمفهوم الحرية لدينا مسألة «الحجر على السفيه»، وهي مشتهرة في أبواب كتب الفقه عند مختلف المذاهب. وهي مسألة تتجلى فيها «الحريةُ» واضحة تمام الوضوح في الإدراك الفقهي. والحجر لغة هو: «المنع»، واصطلاحًا هو: «المنع من التصرفات المالية»، أما السَّفَه – في اصطلاحهم – فهو: تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع أو العقل، أو على خلافهما معًا. وللفقهاء اجتهادات كثيرة في المسألة تجدها مبسوطة في كتبهم، وقد اخترت منها ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة.

يرى الإمام الأعظم أنه «لا يُبتدأ الحجرُ على بالغٍ عاقلٍ بسبب السَّفه» (حاشية ابن عابدين، ج 5/ ص92). ونقل الكاساني في بدائع الصنائع عن الإمام الأعظم أيضًا قوله: «لا يُحجر على الحرِّ العاقل البالغ بسبب السَّفه أو الديْنِ والفسقِ أو الغفلةِ؛ لأنَّ في سلب ولايتِه على ماله إهدارًا لآدميته وإلحاقه بالبهائم، وهو أشد ضررًا من التبذير» (الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، المجلد/7، ص165، والزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، المجلد/5، ص199).

وعلةُ ذلك عند الإمام هي: أنَّ الحجرَ يبطل حرية التصرف؛ أي إهدار لأصل الحرية، وفي هذا إهدار لآدمية السفيه المحجور عليه! وهذا الحَجْرُ «إلحاقٌ له بالبهائم»، والضرر الإنساني المترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله. واعتبر أبو حنيفة أن ضرر تضييع المال أقل من ضرر تفويت الحرية، ولا يجوز دفع الضرر الأقل وهو تضييع المال، بضرر أكبر منه وهو تضييع الحرية. (محمد أبو زهرة: أبو حنيفة: حياته وعصره وآراؤه الفقهية. القاهرة: دار الفكر العربي، 2008م، ص350-355).

وذهب أبو حنيفة أيضًا إلى أن الصَّبيَّ اليتيم إذا بلغ وهو رشيدٌ يُدفع إليه ماله، ولو كان مُفسدًا، أو مُبذرًا، لقوله تعالى: «وآتوا اليتامي أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب» (النساء: 2)، والمراد باليتيم هنا «منْ بلغَ»، وسُمي في الآيةِ يتيمًا لقربه من البلوغ، ولأنَّه في أول أحوال البلوغ قد لا يفارقُه السَّفه باعتبارِ الصِّبا، ولأن ضررَ إلحاقه بالبهائم وفقدان حريته بالحَجْر أكبر من ضرر ضياع ماله كما سلف القول.

إلا أنه إذا لم يثْبت رشدُه بعد بلوغه فإنه لا يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة – في رأي الإمام الأعظم – فإذا تصرَّف في ماله بعد البلوغ قبل أن يبلغ ذلك السن فإن تصرفه ينفذ، لأنه ليس محجورًا عليه، وإنما هو ممنوع عن ماله تأديبًا وزجرًا. والمسألة فيها مطارحات واسعة بين قدماء الفقهاء ومجتهديهم، وتدور تلك المطارحات حول صميم الإرادة، واستقلال الإرادة هو النواة الصلبة لمفهوم «الحرية»، وهو صمام الأمان الذي يصونها من الانتهاك ويسد الذرائع التي قد تؤدي إلى تضييعها.

تلك الاجتهادات وما يماثلها – مما يشيعُ في أبوابِ الفقه عند المذاهب المختلفة – تؤسس للشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة للحرية على أوسع نطاق، كما تؤسس «للوعي» بمفهومها الشرعي المستمد من المرجعية الإسلامية؛ ليس باعتبار الحرية حقًّا فطريًّا أصيلًا فحَسْبُ، وإنما باعتبارها مقصدًا أعلى من المقاصد التي «تتشوَّفُ» إليها الشريعةُ الإسلامية، على حد القول الشائع :«الشارعُ متشوف للحرية». وحديثنا عنها في الفقه وأصوله حديث مستطرد إن شاء الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.