أعتقد أن كثيرًا منا يتشارك في الشعور بالانزعاج تجاه بعض الرياضات العنيفة كالملاكمة على سبيل المثال. سيل من اللكمات العنيفة الموجهة للرأس، تمكن أحد اللاعبين من الفوز في المباراة، لكن قد تكلفه معاناة لا يحمد عقباها في المستقبل، إذا لم يتحمل رأسه كل هذه الصدمات.

ولا يضاهي ذلك في الألعاب الجماعية سوى كرة القدم الأمريكية أو الرجبي، المحفورة بأذهان كثير منا بشكل الالتحامات الشبيهة بصراع الثيران، إلى أن أتى الممثل الشهير «ويل سميث» بفيلم «Concussion»، ليخبرنا استنادًا على أحداث حقيقية أن هذه الالتحامات قد تودي بحياة أصحابها. لكن من يهتم؟ نحن نلعب كرة قدم أخرى، ليست بهذا العنف، لكن هل أنت متأكد أنها لا تملك تأثيرًا مشابهًا، ولو أقل؟

تأثير مرعب

في البداية علينا التعرف على طبيعة الدماغ، حيث المخ يتواجد داخل جدران الجمجمة دون الاصطدام بها، بسبب وجود السائل المخي. لكن ومن سوء الحظ، عند الاصطدام العنيف والمفاجئ، يكون السائل المخي غير كافٍ لمنع صدام المخ بجدار الجمجمة، وعلى إثر ذلك، تتلف المحاور العصبية، ويحدث الارتجاج «Concussion».

يظهر الضرر في عدة أشكال مختلفة، مثل: فقدان الوعي، الصداع، الرؤية الضبابية، مشاكل في الاتزان، تغير في المزاج والسلوك، مشاكل في الذاكرة والتفكير والنوم، وبداية قلق واكتئاب. ولأن أدمغتنا جميعًا ليست متشابهة، فإن نتائج الارتجاج ليست واحدة.

إذن أين تكمن المشكلة؟ في بعض الحالات، يصعب تشخيص الارتجاج، لأن الأعراض تظهر ببطء وتدريجيًا بمرور الوقت، وهذه هي المشكلة التي يعانيها الرياضيون، على رأسهم لاعبو كرة القدم الأمريكية، الذين يتعرضون على الأغلب لضربة غير قوية كفاية للتسبب بارتجاج، تلو الضربة تلو الضربة، وبدلاً من ظهور أعراض سريعة الملاحظة، تحدث أمراض دماغية انتكاسية مع مرور الوقت، أشهرها اعتلال الدماغ المزمن «CTE».

شكل الدماغ السليم
شكل الدماغ السليم
/ Vox
شكل الدماغ بعد تعاقب الصدمات
شكل الدماغ بعد تعاقب الصدمات
/ Vox

ما يزيد الطين بلة، هو الأرقام التي تشير إلى أن نسبة الارتجاجات التي لا يتم التبليغ عنها أو معالجتها، تتراوح بين 50 إلى 80%، وأيًا كان السبب فإن ذلك أدى في النهاية إلى انتهاء حياة عدد من لاعبي كرة القدم الأمريكية بالانتحار، بعد المعاناة مع هذه التبعات. وبإمكانك معايشة هذه الأحداث المأساوية مع فيلم «Concussion» الذي ننصحك بمشاهدته.

مفاجأة غريبة

نظرًا لشعبية كرة القدم الأمريكية الجارفة، تم تعديل عدد من القواعد لتقليل الصدامات وبالتبعية الارتجاجات، والأهم من ذلك هو الاعتراف بالأضرار الصحية اللاحقة، كي يصبح اللاعبون على دراية منذ البداية، لكن حدثت مشكلة مفاجئة، أننا اكتشفنا أن هذه اللعبة الشبيهة بمناطحة الثيران، ليست أعنف الألعاب الجماعية.

في استطلاع قامت به الرابطة الوطنية لرياضة الجامعات «NCAA» في عام 2015، تبين أن معدل الارتجاجات الناتجة عن هوكي الجليد أعلى منه في كرة القدم الأمريكية. بالمناسبة، ذلك يشمل هوكي الجليد فئة السيدات أيضًا. ولا تبتعد هذه الأرقام كثيرًا عن تلك الصادرة عن «journal of athletic training» في 2007، والتي وضعت سيدات هوكي الجليد في المركز الأول بمعدل 0.91 ارتجاج لكل 1000 ساعة لعب.

قد يبدو ما يلي استنتاجًا عنصريًا، لكن وفقًا لتصريحات عدد من الخبراء لقناة «Vox»؛ إذا لعب الرجال والسيدات نفس الرياضة، تحقق النساء معدلات ارتجاجات أعلى «Higher Concussion Rate»، وبالتالي خطورة أكبر وفقًا لما سبق شرحه.

مقارنة بين معدل الارتجاجات الحادثة في عدة رياضات، بين الرجال والسيدات
مقارنة بين معدل الارتجاجات الحادثة في عدة رياضات، بين الرجال والسيدات
/ Vox

قبل أن تبدأ بالضحك ومطالبتهن بالعودة إلى واجباتهن المنزلية، إليك بعض التبريرات التي طُرحَت: أولها هو أسلوب اللعب، والذي يعد اختلافه منطقيًا نظرًا للفوارق البدنية. وثانيها هو الاختلاف في تركيب الألياف العصبية.

أما ثالثها والأهم من وجهة نظرنا، هو الاختلاف بين طبيعة الرجل والمرأة، بمعنى أن الأمر قد لا يتمحور حول عدد الارتجاجات، بل بإدراكها والتبليغ عنها، وهنا يظهر إهمال اللاعب بصحته مقارنةً باللاعبة، وكذلك رغبته في التحامل وإظهار الصلابة، تمامًا كما نرى في كرة القدم الخاصة بنا.

كرة القدم والارتجاج (1)

يجسد هذا المشهد وما شابهه -بجانب خوذة «بيتر تشيك» بالطبع- علاقة كرة القدم بالارتجاج، كحال إصابة مدافع توتنهام «يان فيرتونخين» بالدور نصف النهائي من دوري أبطال أوروبا لموسم 2018/2019، حين خرج للعلاج ثم عاد، ليخرج سريعًا مرة أخرى بلا رجعة، بعد ظهوره فاقد الاتزان.

ولتلافي الأضرار المتوقعة، وضع الفيفا عبر دبلومته الطبية بروتوكولاً للتعامل مع حالات اصطدام الرأس، مع تحديد الأعراض التي على أساسها يتم تغيير اللاعب حفاظًا على سلامته، ويصل الأمر لعدم السماح له بقيادة سيارته والعودة للبيت بمفرده، مع منحه 6 أيام على الأقل للتعافي.

لكن يظل العائق الأبرز أمام تنفيذ البروتوكول، هو أنه عبارة عن قواعد إرشادية غير ملزمة، والأجهزة الطبية لها مطلق الحرية في تقدير الموقف. ومع ضغط المباريات وضيق وقت التشخيص أثناءها، لم ينجح الأمر بالشكل المأمول، لذا بدأ التفكير في إضافة تغيير مخصص لحالات الارتجاج، لا يحتسب ضمن التغييرات الثلاثة.

قد يكون التبديل هو الطريق للمضي قدمًا، ولكننا بحاجة إلى مواصلة تقصي الحقائق. نحتاج أيضًا إلى النظر في أسباب الارتجاج، فحماية لاعبينا هي أولويتنا.
لوكاس برود، سكرتير مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم «IFAB»

لكن مع اختلاف المقترحات والشك في محاولة بعض الفرق التلاعب باستغلال التغيير الإضافي، تم تأخير اعتماده. وقد لا تبدو هذه مشكلة كبيرة، مقارنة بالدراسات التالية، التي ستخبرك بخطورة لم تكن تراها بكرة القدم.

كرة القدم والارتجاج (2)

باستخدام تقنية تعرف بـ«Diffusion Tensor Imaging»، تمكن الأطباء من تصوير حزم المحاور العصبية داخل الدماغ، ومعرفة تأثير صدمات الرأس عليها. وفي عام 2003، قدمت التقنية أرقامًا تفيد بأن لاعبي كرة القدم الذين ضربوا الكرة بالرأس حوالي 1800 مرة في السنة، قد أضروا بالسلامة الهيكلية لحزم المحاور العصبية، وبالتبعية ساء أداؤهم في اختبارات الذاكرة على المدى القصير. وعلى الرغم من أن أحدًا لم يعانِ من ارتجاج كامل، تم اعتبار هذه النتائج كضرر قابل للقياس والزيادة بمرور الوقت.

إلى أي مدى يمكن أن يزيد الضرر؟ في دراسة نشرتها جامعة جلاسكو في 2019 بتكليف من الاتحاد الإنجليزي ورابطة اللاعبين المحترفين، تم فحص التقارير الطبية لعدد 7676 من اللاعبين المحترفين السابقين بين عامي 1900 و1976 بإسكتلندا، ومقارنتها بتقارير 23000 شخص من العوام، لتخرج بالنتائج التالية:

1- زيادة احتمالية إصابة لاعب كرة القدم بمرض الزهايمر خمسة أضعاف أكثر من الشخص العادي.
2- ارتفاع احتمالية الإصابة بمرض باركنسون (الشلل الرعاش) ضعفين.
3- زيادة احتمالية الإصابة بمرض التصلب الجانبي الضموري أربعة أضعاف.
4- بشكل عام، لاعبو كرة القدم معرضون للموت جراء تلف الخلايا العصبية، ثلاثة أضعاف ونصف، أكثر من العامة.

هل لاحظ أحدكم شيئًا يخص هذه النتائج؟ هل هي حقيقة من الأساس؟ للأسف، اتسقت هذه النتائج مع عشرات الشهادات لأسر لاعبين سابقين -العدد وفقًا لتقرير صحيفة Independent- شملت أفرادًا من جيل إنجلترا الذهبي الفائز بمونديال 1966. حكى جميعهم عن معاناة مع الخرف، وأمراض أخرى مشابهة، والأسوأ من ذلك، أنهم لم يقرروا الإفصاح عن قصصهم إلا بعد وفاة مهاجم إنجلترا السابق «جيف أستل» في 2002، جراء هذه التداعيات.

إلى هنا يمكن أن نسأل السؤال الذي يدور ببالك على طريقة «الدحيح»: «جرى إيه يا أبو حميد، الكورة دي هتموتنا؟» عزيزي القارئ، لا تقلق، لأن الدراسة أشارت أيضًا إلى فائدة كرة القدم في الحماية من أمراض شائعة أخرى تتعلق بالقلب والرئة، إلى جانب أن الوفيات بين لاعبي كرة القدم السابقين كانت أقل من المتوقع حتى سن 70، وأعلى من المتوقع فوق ذلك السن.

الآن، ما العمل؟ هل نتعامل مع كرة القدم على أنها لعبة خطرة؟ ليس بالضرورة، لكن هذه الدراسات -وإن احتاجت لمزيد من الدقة في تحديد المسببات- من شأنها أن تعجل بالمزيد لحماية اللاعبين، وقد بدأ ذلك باعتماد الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم إرشادات جديدة ستحد من تدريب من هم دون الـ18 عامًا على ضرب الكرة بالرأس. لكن، بما أنه من غير الممكن تعديل طريقة اللعب، فما المانع أن نشاهد مستقبلاً مباراة كرة قدم بين 22 لاعبًا يرتدون جميعًا خوذة «بيتر تشيك»؟