منذ أزمان بعيدة، مثلت منطقة الأكراد وما حولها ساحة التصادم العسكري بين الفرس والروم، وتاليًا الفرس والأتراك، كما في عهد الحروب بين العثمانيين والصفويين التي قسمت المنطقة بين المملكتين المتحاربتين، ولا تزال المنطقة حتى اليوم ساحة للتنافس بين إيران وتركيا، وتمثل سنجار إحدى نقاط التماس الملتهبة التي يتمظهر فيها التنافس الإقليمي المحموم بين طهران وأنقرة.

تقع مدينة سنجار غرب محافظة نينوى بشمال العراق، ويسميها الكرد «شنكال» ويطالبون بضمها إلى إقليم كردستان الذي يتمتع بالحكم الذاتي، وهي منطقة جبلية أكثر سكانها من الطائفة الإيزيدية.

تعرض قضاء سنجار لهجوم تنظيم داعش عام 2014 ففر سكانه إلى الجبال ونجح البعض في الوصول إلى مخيمات اللاجئين في إقليم كردستان ووقع الكثير منهم في قبضة التنظيم الإرهابي، إلى أن تم طرده في 2015 وأعلن مسعود بارزاني، رئيس كردستان، ضم القضاء إلى إقليمه على اعتبار أن الإيزيديين هم «أعرق الكرد».

وفي عام 2017، خاض بارزاني مغامرة خطرة بتنظيم استفتاء شعبي على استقلال الإقليم، فهاجمه الجيش العراقي وأجبر قوات البيشمركة الكردية على الانسحاب من البلدات والأقضية المتنازع عليها مثل سنجار، لكنه لم يستطع سد فراغ البيشمركة فاستولت ومليشيات إيزيدية تابعة له على القضاء وشكلوا إدارة محلية فيما بينهم، ولم يسمحوا لقائم مقام القضاء الذي عينته حكومة كردستان بالمشاركة في هذه الإدارة، فخشي نحو 200 ألف نازح يقيمون في مخيمات كردستان من العودة إلى قراهم بسبب سيطرة الميليشيات.

وتتبع هذه الميليشيات حزب العمال الكردستاني PKK، وهو تنظيم مسلح يقاتل أنقرة ويريد الانفصال بجنوب شرق تركيا، استطاع مد نفوذه إلى المنطقة خلال تحريرها من داعش، أسس قوات «وحدة الدفاع عن سنجار» المعروفة أيضًا باسم «اليبشة» وقوات «آسايش إيزيدخان» وكلاهما يتكون أساسًا من المكون الإيزيدي، وتتبع هذه القوات لمجلس الإدارة الذاتية في سنجار الذي شكله حزب العمال الكردستاني، ويدير شؤون جزء من قضاء سنجار منذ عام 2015 بعد إنهاء سيطرة تنظيم داعش.

وقد عقدت حكومة العراق مع الحكومة الكردية برعاية الأمم المتحدة «معاهدة سنجار» في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بموجبها تتسلم القوات الاتحادية ملف الأمن بالتنسيق مع كردستان، وتم الاتفاق على إنهاء سيطرة الميليشيات تمهيدًا لعودة المهجرين، لكن المعاهدة لم يتم العمل بها، وفي أغسطس/آب الماضي زار رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، سنجار، والتقى بالأهالي وتعهد بتنفيذ الاتفاق لكنه لم يستطع إدخاله حيز النفاذ حتى اليوم، فعقب هذا الاتفاق، أي في نهاية عام 2020، أقدمت هيئة الحشد الشعبي الموالية لطهران، على ضم «وحدة الدفاع عن سنجار» وتغير اسمها إلى «الفوج 80» في قوات الحشد.

وبانضمام الفوج 80 إلى هيئة الحشد المعترف بها رسميًا فإن وجود حزب العمال الكردستاني أصبح مدعومًا من هيئة حكومية عراقية، مما أقلق تركيا نظرًا لموقع سنجار القريب من حدود سوريا حيث تسيطر جماعة «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية PYD) الموالية لحزب العمال الكردستاني على محافظة الحسكة السورية، ويخوض الجيش التركي ضدها حربًا مفتوحة منذ سنوات، كما أن موقع سنجار ليس بعيدًا عن الحدود التركية مع العراق.

وتم إعلان انسحاب حزب العمال الكردستاني PKK، سابقًا من سنجار، تجنبًا للاستهداف التركي، لكن ما حدث هو التخفي تحت أسماء أسايش إيزيدخان، واليبشة، لذلك شنت أنقرة عمليات عسكرية على المنطقة بحجة استمرار تواجد عناصر الحزب الانفصالي.

وفي شهر مايو/أيار الماضي، حاول الجيش العراقي تنفيذ اتفاق سنجار واشتبك مع الميليشيات الإيزيدية التابعة لحزب العمال مما أدى لنزوح أكثر من عشرة آلاف شخص من السكان المحليين.

العملية العسكرية التركية

تتهم أنقرة الحزب بتهريب الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود، ولذلك أطلق الجيش التركي عمليات عسكرية في شمال العراق خلال السنوات الماضية مثل «مخلب النمر» و«مخلب النسر» لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني وتصفية معاقله التي ينطلق منها لشن هجمات إرهابية في الداخل التركي، وقد قُتل عدد من قادة هذه القوات مثل قائد الفوج 80، سعيد حسن سعيد، في هجوم بطائرة تركية مسيرة في شهر أغسطس/ آب 2021.

وفي 17 أبريل/نيسان الماضي، انطلقت عملية «قفل المخلب»، لذات الغرض وما تزال مستمرة حتى اليوم، وهي تهدف إلى قفل حدود تركيا الجنوبية الشرقية المحاذية للعراق أمام تسلل محاربي حزب العمال الذي يخوض تمرّدًا ضد أنقرة منذ عام 1984.

وتعرضت القاعدة التركية في زليكان بمحافظة نينوى، إلى هجمات صاروخية متكررة خلال الأشهر الأخيرة، وعادة ما يأتي القصف ردًا على هجمات على مواقع حزب العمال الكردستاني.

وترفض الحكومة الاتحادية في بغداد، العملية العسكرية التركية وتعتبرها انتهاكًا صارخًا لسيادة البلاد، بينما يتهم الإيزيديون المتحالفون مع الحشد الشعبي، رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، وحكومة إقليم كردستان، بالتنسيق مع أنقرة سرًا، ولم يتخذ الطرفان إجراءات عملية ضد الأتراك ولا حزب العمال.

كما صدرت ردود أفعال سياسية وشعبية عراقية رافضة للقصف التركي بعد اتهامه باستهداف مدنيين، وطالب رئيس الكتلة الإيزيدية في البرلمان الاتحادي خلف سيدو شمّو، بتدخل المجتمع الدولي لوضع حد للأزمة، وحذر النائب الإيزيدي السابق، حسين نرمو، عن وجود تخوف من اجتياح تركي لسنجار وعدم اقتصار العملية على بعض الغارات الجوية المتقطعة.

 وأدان عدد من زعماء ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران، القصف التركي، لكن عرفات كرم، أحد كبار مسئولي الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في الإقليم، استنكر هذه الإدانات وقال: «لو أدنتم قصف إيران كما تُدينون قصف تركيا لقلنا لكم إنكم صادقون في انتمائكم، فالوطني الصادق هو الذي يُدين ذَيْنَكَ القصفين على حد سواء»، في إشارة للقصف الإيراني على شرق الإقليم ضد الجماعات الكردية التي تقاتل طهران وتتخذ من كردستان مقرًا لها.

جدير بالذكر أن العملية العسكرية بدأت بعد أيام من زيارة رئيس حكومة كردستان، مسرور بارزاني، إلى تركيا لمناقشة تعزيز التعاون الأمني، مما أظهر أن العملية جاءت بالتنسيق بين الطرفين، لكن وزارة البيشمركة بيانًا أنكرت فيه تعاون قواتها في تلك العملية.

وتأتي هذه العملية ضمن سلسلة عمليات تشنها القوات التركية في سياق حملة مستمرة في العراق وسوريا ضد مقاتلي حزب العمال والجماعات المرتبطة به مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تتلقى دعمًا إيرانيًا كبيرًا لمنع تمدد تركيا والفصائل المعارضة لنظام الأسد في شمال سوريا.

ولا تقتصر أهداف «قفل المخلب» على الجانب الأمني فقط، بل تأتي في ظل جهود أنقرة لمد خط أنابيب غاز طبيعي من كردستان العراق وهو ما يساهم في تنويع مصادر استيراد الغاز، وجعل تركيا ممرًا لتصدير الغاز إلى أوروبا، خاصةً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أشعل أزمة في أسواق النفط والغاز.

ويساهم هذا الخط المزمع تدشينه في الحد من اعتماد أنقرة على الغاز الإيراني، لا سيما بعد أن قطعت طهران عنها الغاز عدة أيام عمدًا خلال عاصفة ثلجية الشتاء الماضي، في خطوة اعتُبرت بمثابة قرصة أذن إيرانية للأتراك، وهو ما جعلهم يولون اهتمامًا أكبر للمشروع لسلب إيران هذه الورقة، وبالتالي فإن طهران ترى في هذا الخط ضربة لمصالحها وتعمل بجد على إفشاله عبر استخدام نفوذها على بغداد لمنع الأكراد من تصدير غازهم بشكل مستقل، وأيضًا بتوتير الوضع الميداني ودعم حزب العمال الكردستاني لإخافة أنقرة، فالحزب له سوابق في مهاجمة خط أنابيب النفط من كركوك العراقية إلى ميناء جيهان التركي، لذلك تصر أنقرة على تطهير المنطقة من وجود عناصر الحزب وقطع الاتصال الجغرافي بين فروعه في العراق وسوريا.

ويمتلك إقليم كردستان العراق سابع أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم، باحتياطي يقدر بـ5.7 تريليون قدم مكعب، وهي كمية هائلة يمكن أن تساهم في الدفع نحو إحداث توازن في سوق الغاز الدولي، وإغناء العراق عن استيراد الغاز من إيران والتأذي بانقطاعاته المتكررة.

ولا تريد طهران خسارة أهم مستوردي غازها في وقت تئن فيه من العقوبات الأمريكية، ولا تريد حليفتها موسكو، التي تتواصل باستمرار مع حزب العمال الكردستاني في سوريا، تمكين الغرب من الحصول على مصدر بديل للغاز الروسي الذي تسعى أوروبا جاهدة للتخلص من الاعتماد عليه، في ظل عجز البدائل المتاحة عن تعويض فقدانه.