عندما تعطلت سيارة سميرة فجأة في منتصف الليل، بدأت في التفكير أنه ربما كان الأفضل لها ألا تُقدِم على هذا المشوار. كان الظلام يُخيِّم على الشارع في ظل سكون شديد، للدرجة التي جعلت مخها يسترجع تلقائياً كل أفلام الرعب التي شاهدتها طوال حياتها.

أغلقت زجاج السيارة وجلست تفكر في حل. المشكلة تكمن في أنها لا تستطيع الاتصال بأي شخص من معارفها ليساعدها في هذا الموقف، لأنها لم تُخبر أحداً من الأساس بقيامها بهذه الخطوة الجريئة.

خشيت سميرة أن يتهمها أحد بالجنون أو حتى بالسذاجة والانخداع، حتى هي اتهمت نفسها بذلك سراً، لكنها لم تستطع أن تقاوم لذة كشف الحقيقة.

بدأ الأمر عندما رأت الإعلان الخاص بهذه الخدمة على «اليوتيوب». في البداية ضحكت باستهزاء من مستوى العبث الذي يجعل شركة تدّعي أنها تُقدِّم خدمة تحضير أرواح موتى، تقوم بالترويج لخدمتها الخرافية على «اليوتيوب». لكن بعد لحظات من مشاهدة الإعلان وجدت سميرة نفسها شاردة تفكر في خجل في ما رأته للتو؛ ماذا لو كان الأمر حقيقة وليس محض نصب كما هو واضح؟ ماذا لو استطاعت كشف السر الذي أرهقها على مدار عام كامل بلا جدوى؟

تذكرت اسم تلك الشركة، ففتحت «الفيسبوك» وقامت بالبحث عنها، وبدأت في قراءة المنشورات التي تتحدث عنها. المفاجأة أن كل ردود الفعل على هذه الخدمة كانت إيجابية جداً.

ظنت سميرة للوهلة الأولى أنها شركة مجهولة، لكنها فُوجئت بعشرات أو ربما مئات المنشورات التي تمتدح عمل الشركة بشدة وترشحه للآخرين. منذ هذا اليوم لم تستطع أن تخرج الفكرة من رأسها. لكن ارتفاع ثمن الخدمة جعلها تفكر جيداً قبل الإقدام على هذه الخطوة التي ستستنزف نصف مدخراتها بالتأكيد.

اعتادت سميرة في مثل هذه المواقف التي تتملكّها الحيرة فيها أن تستشير زوجها فتحي فيما يجب عمله، لكنها للأسف لا تستطيع الحصول على هذه المساعدة الأن. لم يكن رأيه الحكيم هو الشيء الوحيد الذي تفتقده في الآونة الأخيرة، فمنذ وفاته انقلبت حياتها بأكملها رأساً على عقب.

كان فتحي هو الحياة بأكملها بالنسبة لسميرة التي لم تتخيل أنها ستستمر من دونه من الأساس، رغم أن زواجهما لم يكن نتيجة لعلاقة حب مشتعلة مثل التي تمنّتها في مراهقتها، لكنها أعطته فرصة لتتعرّف عليه أكثر، خصوصاً أنه تقدم لخطبتها في ظروف صعبة، بعد أن فقدت والدها بستة أشهر.

كان والدها مصدر الأمان بالنسبة لها، فاهتز وجدانها بوفاته التي حدثت في بداية العام الأخير لها بالجامعة. وعندما ظهر فتحي في حياتها فجأة -بترشيح من خالتها زينب– بدأت تشعر بالأمان من جديد بعد أن ظنت أنها لن تُجرِّب هذا الشعور مُجدداً. بالطبع لم يُعوِّضها فتحي عن والدها، لكن قدر التشابه بينهما كان كافياً جداً بالنسبة لها للموافقة على إتمام الزيجة.

على مدار ثلاثة وعشرين عاماً قضتها سميرة كزوجة لفتحي لم تشعر بالندم على قرارها بالموافقة أبداً. حتى عندما اكتشف فتحي عدم قدرته على الإنجاب، وصارحها بموافقته على الطلاق إذا رغبت فيه، لم تتردد سميرة لحظة في رفض هذا الاقتراح بشكل قاطع، مؤكدةً أنها لن تتركه أبداً.

كانت سميرة ترغب في الإنجاب بشدة، لكنها شعرت بأنه اختبار إلهي لن تسامح نفسها إذا فشلت فيه، فاعتبرت سعادتها مع فتحي بمثابة تعويض عن شعور الأمومة الذي استغنت عنه بإرادتها.

كان كل منْ حولها يضربون بفتحي المثل على الأمانة والنزاهة في عمله مديراً لإحدى شركات تصنيع الأدوية. كان هذا الأمر يُشعِرها بفخر لا متناهٍ، لكنه أيضاً كان يتسبّب في جعلها تشعر بالقلق عليه من العداوات التي كان يدخل فيها كل فترة مع منْ يُزعِجهم هذا القدر من النزاهة في العمل. اعتادت ألّا تتجاوز تلك الصراعات حد معين، فتظل في إطار الكراهية والمقاطعة فقط، لكن شعورها بالقلق وصل أعلى مستوياته عندما قام مجهولون بتكسير سيارة فتحي قبل وفاته بثلاثة أسابيع.

لم يجد فتحي طريقة لإيقاف صراخها وقلقها حينها، سوى مصارحتها بعداوته مع «سليمان النجار» أكبر مُوردي المواد الكيميائية إلى مصر. أخبرها فتحي بأن هذا الصراع بدأ عندما منع فتحي التعامل مع شركة سليمان فجأة منذ شهرين، بعدما اكتشف عدم مطابقة المواد التي يقوم باستيرادها للمواصفات المطلوبة. استشاط سليمان غضباً وأخبره أنها المرة الأولى التي يجرؤ فيها أحد على القيام بمثل هذه الأمر، لكن هذا الحديث تسبّب في زيادة شجاعته، فرفض أي محاولة من سليمان لجعله يتراجع عن قراره.

أخبرها أيضاً بأنه تلقّى تهديداً صريحاً من سليمان منذ عدة أيام لكنه لم يكترث له. أصرّت سميرة في هذه الليلة على ذهاب فتحي للقسم الشرطة لتحرير محضر ضد سليمان، فانصاع فتحي لرغبتها رغم تأكيده لها بأن هذا المحضر لن يُجدي نفعاً لعدم وجود أدلة.

بعد أسبوع من هذه الليلة لم تستطع سميرة أن تنتظر عودة فتحي من العمل، خصوصاً بعدما أخبرها بأنه سيتأخر قليلاً في العمل –كعادته- هذه الليلة، فدلفت مبكراً إلي السرير، لكنها استيقظت في منتصف الليل علي مكالمة تُخبرها بالعثور علي زوجها قتيلاً في سيارته.

في بداية الأمر لم تستوعب الأمر، فشعرت كأنها في كابوس مرعب لا تستطيع الخروج منه، لكن عقلها بدأ يتأكد من حقيقة الأمر بعدما ذهبت إلى المستشفى ورأت جثته بنفسها.

قضت الشهر التالي لهذه الليلة في بكاء لا ينقطع. فكّرت في الانتحار عدة مرات، لكن منعها مكوث صديقتها المُقرّبة سماح معها، التي جعلتها تفكر جدياً قبل أن تتهم سليمان النجار بقتل زوجها بشكل علني. أخبرتها أنها لا تملك أي دليل ضده، وأن اتهامها له لن يجلب لها سوى مزيد من المشاكل.

تم إغلاق التحقيق في القضية على اعتبار أن الجاني مجهول، لكن سميرة كانت واثقة أنه سليمان لا محالة. شعرت بالعجز لعد قدرتها على الانتقام من قاتل زوجها. لم يُخفِّف ثقل مرور هذا العام عليها سوى زيارات متفرقة من أخيها وزيارات يومية من سماح التي هوّنت عليها كثيراً.

مع مرور الوقت تقبلّت ما حدث، لكن حزنها لم يقل بمقدار ذرة. رفضت الاستغناء عن الملابس السوداء رغم إصرار أخيها وصديقتها. ظلّت طوال تلك الفترة تحلم باليوم الذي ستمتلك فيه اليقين التام بهوية قاتل زوجها حتى تجعله يشعر بالراحة الكاملة في مثواه الأخير.

بعد ثلاثة أيام من جولة بحثها عن شركة تحضير الأرواح على «الفيسبوك»، اتصلت بالشركة في تردد، ثم فُوجئت عندما عرفت أنه لا يمكنها حجز ميعاد جلسة إلا بعد أسبوعين، بسبب الإقبال الشديد على الشركة في تلك الفترة.

قل شعورها بالخجل تدريجياً بعد سماعها لهذه المعلومة. فكرت إذا إنها ربما ليست ساذجة، وحتى إن كانت كذلك، فعلى الأقل هي ليست الساذجة الوحيدة وسط القطيع.

أخرجها من شرودها في تلك اللحظة صوت رنين الهاتف، فوجدته اتصالاً من الشركة بسبب تأخرها عن الميعاد. اعتذرت لهم وأمسكت الهاتف تُطلب «أوبر» بعد أن صرفت عن ذهنها كل أفكار الندم، فقالت لنفسها إنه طالما وصلت إلى هذه النقطة فلا سبيل للتراجع.

دخلت سميرة الشركة في قلق فوجدت موظفة تستقبلها وتُوصلها إلى حجرة ضيقة، جلس فيها رجل حليق الرأس والذقن تماماً، ذو عينين تُثيران القلق بلا سبب واضح. جلس على جانبيه امرأة ورجل في خمسينيات العمر، وفي المنتصف استقرت طاولة دائرية صغيرة.

سألها الرجل عن اسم الشخص الذي ترغب في تحضير روحه وعن الهدف من هذه الجلسة، فأخبرته بأنها تريد معرفة من قتل زوجها. أخبرها الرجل بأن الروح التي سيقوم بتحضيرها ستتواصل معه هو مباشرة من دون أي تدخل منها، مؤكداً عليها ألّا تتدخل فجأة حتى لا تفشل الجلسة، فوافقت.

طلب منها الرجل أن تكتب موقفاً حدث بينها وبين المتوفى فقط في ورقة، ثم تطويها وتعطيها له، ليقوم بتحضير الروح بالاستعانة بالطاقة المختزنة في هذا الموقف.

تردّدت سميرة قليلاً في اختيار الموقف الذي ستكتبه، لكن لسبب لا تعلمه خطر في بالها موقف حدث منذ عامين، عندما رأت بالصدفة خاتماً مُخبّأ في درج مكتب فتحي، فظنت أنه هدية عيد ميلادها الذي لم يكن متبقٍ عليه سوى أيام، ولمحت لفتحي بمعرفتها بهديته، ففوجئت به في يوم عيد ميلادها يُهديها خاتماً بالفعل، لكنه لم يكن نفس الخاتم الذي رأته، بل كان أكثر فخامة وجمال، وفسّر فتحي الموقف حينها بأنه أراد أن يظل عنصر المفاجأة حاضراً فاستبدل بالخاتم خاتماً آخر أفضل منه.

كتبت سميرة الموقف ثم أعطت الورقة للرجل الأصلع الذي طواها عدة مرات ووضعها أمامه ثم أشعل النار فيها وأخذ يتمتم بكلمات غريبة. في نفس الوقت أمسك كل شخص من الجلوس بيد الشخص الذي يجاوره في حلقة مغلقة كما طلب منهم الأصلع.

فجأة سمعت سميرة صوت فتحي يُجلجل في المكان، فحافظت على ثبات أعصابها بصعوبة بالغة دون أن تحاول التواصل معه. سأله الأصلع عن هوية قاتله، فانتظرت سميرة في تحفز أن تسمع اسم سليمان لتتيّقن من ظنها وتُنفِّذ خطتها التي لم تخبر بها أحداً، التي تتضمن هدفاً واضحاً في نهايتها، وهو قتل سليمان -حتى وإن كان الثمن حياتها-  طالما فشل القانون في الاقتصاص منه.

لكن رد فتحي دمر كل توقعاتها بشكل لم تتخيله أبداً. لاحظ الثلاثة من حولها تغير تعبيرات وجهها فجأة، فتحوّل من القلق إلى الصدمة، ثم إلى الغضب، ثم أخيراً إلى الضحك بسخرية.

عندما خرجت من الجلسة كانت تسترجع كل التفاصيل التي لم تلاحظها أو تجاهلتها، فتتفاجأ من مدى سذاجتها رغم شدة وضوح الأمر. شعرت بأنها أهدرت عمرها لكنها أبت أن تستكمل حياتها قبل أن تُنفِّذ خطتها التي كان التغيير الوحيد فيها هو هوية الشخص الذي ستقتله.

ظل رد فتحي يتكرر في ذهنها بلا توقف:

اللي قتلتني هي مراتي التانية… سماح.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.