بعد التطورات الدراماتيكية في العلاقة بين إريتريا وإثيوبيا في الفترة الأخيرة، لعل من أول الاستحقاقات التي ينتظر الإريتريون حلها أوضاع خدمة العمل والمجندين. إذ تمثل إريتريا حالة استثنائية بين شقيقاتها على رأس قائمة الدول المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين، حيث تحل بعد سوريا وأفغانستان والعراق التي تشهد حروبًا أدت إلى تدهور الأوضاع الأمنية فيها، في حين أن إريتريا هذه الدولة الشرق أفريقية خاضت آخر جولات حروبها قبل 18 عامًا، كما أنها تعيش استقرارًا سياسيًا ملحوظًا على مستوى القرن الأفريقي.

وعلى مدى عدة سنوات أفادت مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين بأن ما معدله 3000 شخص في الشهر يفرون من إريتريا، وقد ارتفع هذا العدد ليصل إلى 5000 عبروا إلى إثيوبيا في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 وحده. وفي الفترة بين يناير/ كانون الثاني ونوفمبر/ تشرين الثاني 2014، طلب ما يقرب من 000 37 إريتري اللجوء في أوروبا، مقارنة بما يقرب من 000 13 شخص في نفس الفترة من عام 2013.

وإن تحدثنا عن دولة واحدة كألمانيا مثلاً فقد طلب 650 لاجئًا اللجوء في ألمانيا في عام 2012، وفي عام 2013 بلغ عددهم 3،616 لاجئًا، وفي عام 2014 تقدم أكثر من 13،000 إريتري بطلب لجوء، وفي عام 2015 تم إيداع ما يقرب من 10،000 طلب إضافي، فضلًا عن كثيرين ابتلعتهم مياه المتوسط. وعلى سبيل المثال ففي 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2013 شكل 125 إريتريًا جزءًا من مأساة قارب غرق فيه 368 شخصًا وهم يحاولون الوصول إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، والأرقام تحدثنا بتفصيل أكبر عن الشريحة العمرية العظمى للهاربين. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن 90٪ من الإريتريين الذين يصلون إلى أوروبا تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا.

وتؤكد المنظمات المعنية بالمهاجرين غير الشرعيين أن السبب الأساسي الكامن وراء هذه الأفواج من الشباب الهارب من البلاد يتمثل في خدمة العلم الإجبارية، وطبيعتها التي تمتد بلا سقف زمني نهائي للتسريح منها.

وكانت الحكومة الإريترية المؤقتة أصدرت عام 1995 إعلان الخدمة الوطنية (رقم 82/1995)، الذي بيّن إلزاميتها للرجال والنساء بين 18 و50 عامًا، لمدة 18 شهرًا، تنقسم إلى خدمة عسكرية تستمر ستة أشهر يليها 12 شهرًا في الخدمة العسكرية أو الحكومية. غير أن الأمور ما لبثت أن أخذت منحى آخر ولا سيما مع انتهاء جولات الحرب الإريترية الإثيوبية 2000 -1998، حيث استدعيت الدفعات السابقة للتعبئة الاحتياطية ولم يتم تسريحهم بعد أن وضعت المعارك أوزارها، وبدأ شكل جديد تمامًا يتبلور للخدمة العسكرية في البلاد.

أهم ميزات هذا الشكل الجديد أن الفترة المحددة للخدمة غير واضحة المعالم، فبعد إتمام 6 أشهر من التدريب العسكري، يفرز المجند/ة في أحد القطاعات التي تحددها الدولة دون اختيار منه، ودون أن يرتبط ذلك بالضرورة بمجاله المهني إن كان عاملًا أو الدراسي إن كان خريجًا جامعيًا، ويلزم بالعمل دون أن يُعلم بموعد تسريحه، حيث ذكرت شهادات لمؤسسات دولية أن بعض المجندين استمروا في الخدمة ما يزيد على عقدين مثلًا.

وينطوي هذا الأسلوب على مشاكل جمة تواجه الشباب، حيث يشتكي كثيرون من أن خدمة العلم الممتدة هذه تغلق أمامهم أي آفاق لتكوين حياة عملية مستقرة، أو حتى التخطيط لها، حيث يعمل المجندون في كل مجالات النشاط الاقتصادي الخاص بالدولة؛ في رصف الطرق وإنشاء الأبنية وفي المعامل والمناجم والعمل الزراعي بكل مراحله وفي المنشآت التجارية الخاصة بذراع الحزب الحاكم الاقتصادية، كما يفرز المتعلمون للعمل أساتذة في المدارس بغض النظر عن كفاءتهم المهنية لهذه الوظيفة، وبحسب إفادات نشرتها مؤسسات حقوقية لمجندين هاربين فإن العمل كان في بعض الأحيان في منازل ومؤسسات خاصة عائدة لقادة في الحزب أو في الجيش.

(من الدقيقة 18 يبدأ الحديث عن حالة المجندين)

وبجانب الظروف الصحية والغذائية السيئة فإن مما زاد معاناة المجندين لسنوات ضعف المقابل المادي الشهري. فوفقًا لمجندين هاربين فإن «البدل» العادي أثناء التدريب كان 50 نقفة إريترية في الشهر (نحو 3 دولارات أمريكية)، ويزداد ذلك بعد التدريب لمدة 18 شهرًا في الخدمة الوطنية إلى 150 نقفة في الشهر (9 دولارات)، وهو لا يكاد يفي بحاجة الجندي، فضلًا عن أنه قد يكون رب أسرة مسؤولًا عن إطعام أفرادها. ورغم أنه تمت زيادة البدل الشهري مؤخرًا فإن الشكاوى ما تزال ترتفع، وعلى سبيل المثال ففي ظل نظام تجنيد يشمل الإناث، من غير الأمهات، فإن المجندات يشتكين من تحرش رؤسائهن أو المسؤولين الجنسي الدائم بهن.

وبحسب منظمة العفو الدولية فإن هناك طريقين أساسيين للتجنيد في البلاد: الأول من خلال نظام التعليم حيث يلتحق طلاب الثاني الثانوي بمعسكر ساوة للتدريب الوطني، ويقضون فيه عامًا دراسيًا كاملًا، وبنتيجة الامتحانات يخرج الطلاب أصحاب المعدلات العليا إلى المعاهد الدراسية في البلاد، في حين يفرز بقية الطلاب فورًا إلى الخدمة. والطريق الرئيسي الآخر للتجنيد الإلزامي هو من خلال القبض على الأشخاص الذين تركوا المدرسة بالفعل، أو الذين يتهربون أو يشتبه في أنهم يتهربون من التجنيد الإلزامي، مع منح الصلاحيات للجنود لإطلاق النار على من يحاول الهرب من الخدمة، أما من يلقى عليه القبض فيودع السجن في ظروف سيئة مع وجود شهادات على ممارسة التعذيب داخلها.

وبحسب هيومان رايتس ووتش فإن التجنيد في إريتريا يعد نوعًا من العمل القسري، وأنه «نتيجة للفترات غير المحددة يشكل انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان». وقد أدت الضغوط الدولية على البلاد إلى إعلان مستشار رئيس البلاد «يماني جبرآب» إلى التصريح في أواخر 2014 لعدد من محاوريه بأن فترة الخدمة ستعود إلى 18 شهرًا. غير أن المنظمات الإنسانية، ومنها منظمة العفو الدولية، أكدت عدم التزام النظام بهذا التصريح من خلال تقارير أصدرتها اعتمادًا على شهادات هاربين من البلاد في الشتات.

ولعل التأثير المدمر للخدمة الوطنية في إريتريا يتجاوز الفرد إلى الأسرة، ويتخذ ذلك مظاهر عدة؛ فبجانب الوضع المادي السيئ الذي تعانيه العائلة بغياب معيلها، فإن رب الأسرة لا يسمح له بالإجازة إلا كل ستة أشهر بمدة لا تتجاوز الأسبوعين، مما يعني انقطاعًا شبه كامل للتواصل بين الأزواج والزوجات، وبين الآباء والأبناء. كما أن الحالة تزداد تعقيدًا مع وجود عدد من أفراد الأسرة في الخدمة، وتروي شهادات هاربين من البلاد أن أحد حوافزهم للهرب كان وجود عدد من أفراد الأسرة في إطار الخدمة الوطنية، مما ينعكس بشكل أكثر سوءًا على السيدات الكبار في السن من اللاتي لا يستطعن العمل، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة النساء المتسولات بشكل ملحوظ، وهن من هؤلاء العجائز أو من زوجات الرجال في الخدمة.

وإن أخذنا الأمر بصورة أكثر اتساعًا فإن تأثير الخدمة المدمر يتجاوز الأسرة إلى الوطن على أكثر من مستوى؛ كالتآكل المستمر الذي يعتري فكرة الانتماء إلى الوطن، والذي يتجسد عمليًا في الهروب المستمر من البلاد، وكالنزيف المستمر لشريحة الشباب القادرة على العمل والنهوض بأحد أفقر بلدان العالم.

تتفاوت التفسيرات وراء استمرار النظام الإريتري في اعتماد هذا النوع من الخدمة الوطنية بين من يتبنى سردية النظام باحتمال المواجهة مع عدو إريتريا التاريخي إثيوبيا، والذي انتهت آخر جولات الحروب معه قبل 18 عامًا! وبين من يرى أنه أداة للسيطرة على الشباب في ظل ظروف سياسية شاذة تعيشها البلاد حيث لا دستور ولا انتخابات ولا برلمان ولا أحزاب ولا إعلام مستقل ولا نقابات، وثمة رأي ثالث يذهب إلى أن نظام الخدمة العسكرية هذا أوجد شبكتي مصالح تعتمد إحداهما على العمالة شبه المجانية التي يوفرها التجنيد، وتعتمد الأخرى على ما يدفعه القادرون من المجندين لشبكات التهريب لإخراجهم من البلاد. وفي النهاية فكلتا الشبكتين ترتبطان بقادة متنفذين في الجيش والأجهزة الأمنية، ومهما كان التفسير فإنه لن يخفف من معاناة هؤلاء الشباب غير القادرين على الهرب من جهة، ولعله يثبت من جهة أخرى أن النظام الإريتري حوَّل البلاد من دولة مصدرة للمهاجرين غير الشرعيين إلى دولة منتجة لهم.

وكذلك فمع عملية التطبيع الجارية بين البلدين فإن تفكيك شبكات المصالح القائمة على الاستفادة من حالة التجنيد الإجباري الشاذة في البلاد، والضامنة لولاء المتنفذين في الجيش للرئيس، يستلزم تعويضهم باستثمارات أخرى، ربما تكون جزءًا من المشاريع الاقتصادية المرتقب انطلاقها في البلاد، بما يعني استمرار السوق السياسية في استنزاف موارد البلاد في تثبيت أوضاع سياسية لن تعود على المواطن بفوائد تذكر.