في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 1973، تمت الإطاحة بحكومة الرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطيًا، سلفادور أليندي، بانقلاب مدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية. هذا الحدث التاريخي هو مجرد مثال واحد على تفنن الولايات المتحدة الأمريكية في ابتداع الانقلابات العسكرية خلال القرن العشرين. فمن إيران إلى جواتيمالا، مرورًا بالكونجو والحرب القذرة في الأرجنتين، يتميز التاريخ الأمريكي (والغربي) بتدبير الانقلابات في ما يسمى «دول عالم الثالث»، لوقف عملية التنمية الرأسمالية الوطنية -كما هو كان الحال في جواتيمالا في عام 1954- أو لوقف عملية قطيعة مع رأس المال العالمي الذي كانت (وما زالت) الولايات المتحدة رأس حربته.

هذا التاريخ الغربي والأمريكي الحافل بالانقلابات وتخريب التجارب الوطنية أدى إلى إصابة جزء من اليسار العربي بهوس مرضي بالتفكير التآمري السطحي ورؤية المؤامرات في كل زمان ومكان، مما أدّى إلى إضعاف وتبسيط ما يعطي لليسار قوته التحليلية، أي التحليل الطبقي والتحليل الاجتماعي والاقتصادي للأمور السياسية – المحلية والدولية.

يُقدّم الكاتب قاسم عز الدين نموذجًا لهذا النوع من اليسار الذي لا يرى إلا التدخل الإمبريالي (ونحن لا ننفي وجود هذا التدخل بالتأكيد) في كل شيء وفي كل ظاهرة سياسية، مما يؤدي إلى إضعاف وتبسيط فكره وتحليلاته. ففي مقاله «ما هي الثورات الملوّنة؟ كيف؟ ولماذا؟» (على موقعي «الميادين» و«المنار» في 11 أغسطس/آب 2021)، نجد مثالا حيًّا لهذه الظاهرة السياسية والفكرية.

إشكالية الفكر التآمري

يرى الأستاذ قاسم عز الدين النيوليبرالية بوصفها مؤامرة أمريكية، وأنّ «الثورات الملونة» هي حصان طروادة النيوليبرالي وأجندة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية:

التلوين هو رمز من رموز اتخذتها الأجهزة والاستخبارات الأميركية لاستخدام التحركات والانتفاضات الشعبية في مجرى التخطيط للسيطرة على دول الشرق ثم الجنوب، من أجل فرض إستراتيجية تخريب الدول وإلحاق تبعيتها للمصالح الغربية والنموذج النيوليبرالي الأميركي.

هذا التفكير التآمري (سواء كان يمينيًا أو يساريًا) لديه مشاكل لا بد من نقدها.

أولاً، يبدأ عز الدين مقاله بتمجيد الثورة الفرنسية والروسية (البلشفية) والإيرانية «الثورات التاريخية التي غيّرت منظومة العبودية الإقطاعية والرأسمالية ومنظومة الخضوع والتبعية لإستراتيجيات الدول الغربية».

فهنا توجد مشكلة أولى، بغض النظر عن وضعه الثورة البلشفية والفرنسية والثورة الإيرانية الإسلامية في ذات السياق (وهذه كارثة في حد ذاتها)، لم يرَها فكر الكاتب التآمري، وهي أنّ تلك الثورات التي يمجد فيها كانت أيضًا -وقتها وحتى الآن- مجالاً لنظريات مؤامرة أيضًا.

فمثلاً، كانت هناك أفكار تآمرية تخص الثورة الفرنسية (1789-1799)، حيث إن بعض خصومها رأوها مؤامرة ماسونية-إلوميناتي (إلوميناتي جماعة تنويرية سرية على غرار الماسونية) ضد الملكية وأشياء من هذا القبيل.

نفس الشيء بالنسبة للثورة البلشفية الشيوعية. فمن كان ضدها أيضًا كان يرى يد «اليهود» في الثورة، وأن من أدلة المؤامرة اليهودية على القيصر كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، وهو كتاب لفّقته وزارة الداخلية القيصرية قبل الثورة للتحريض على اليهود، واستعاد شعبيته بعد ثورة 1917، ناهيك عن أن زعيم البلاشفة، فلاديمير لينين، كان ولا يزال متهمًا بأنه عميل ألماني.

أمّا بالنسبة للثورة الإيرانية الإسلامية، محور اهتمام عز الدين وكل تيار محور المقاومة الذي ينتمي إليه، فهناك أيضًا نظريات مؤامرة حولها. فمثلاً البعض يرى أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عارضا سرًا الشاه لأن ثورته البيضاء واستقلال إيران المتزايد كانا غير مواتيين لمصالحهما في البترول الإيراني. الشاه نفسه قال إن الخميني كان عميلاً بريطانيًا، وأن «من الواضح أن هذا ما أراده دعاة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية» (والساخر في الموضوع أن الأستاذ قاسم عز الدين نفسه يرى أن «حقوق الإنسان» هي مؤامرة أمريكية كما سنرى بعد ذلك). ولن ننسى صحيفة «اطلاعات» الإيرانية التي اتهمت الخميني بأنه «عميل بريطاني» وبأنه «تحالف مع الشيوعيين لإسقاط مشروع الشاه التحديثي». ناهيك عن وجود الخميني في فرنسا محرضًا على الثورة ضد الشاه، فلماذا لا نرى في ذلك أيضًا مؤامرة فرنسية؟

وهذا دليل على أنّ الفكر التآمري مثل الكرة، يتقاذفها كل فصيل سياسي لخصمه لاتهامه بالشيء وعكسه، وأنّه ليس سوى تسطيح للأمور الاجتماعية والاقتصادية والطبقية؛ وبالتالي يستحسن الابتعاد عن الهاجس التآمري للتركيز على التحليلات المادية للواقع.

النيوليبرالية كمؤامرة

يرى عز الدين النيوليبرالية كمحض مؤامرة أمريكية، وأنّ هذا النظام «متوحش»، لدرجة أنّه استخدم هذه الصفة 11 مرة في المقال. وهو بالتأكيد كذلك، لكن أليست هذه صفة تطبق على نمط الإنتاج الرأسمالي في كل زمان ومكان؟ ألم يقل «ماركس» في كتابه «رأس المال» (أي قبل النيوليبرالية بكثير): «يأتي رأس المال إلى العالم وهو يتعرق بالدم والوحل من خلال كل مسام»؟

هذا الانهجاس بالرأسمالية الأمريكية، وخصوصًا في شكلها النيوليبرالي، يجعل عز الدين ينسى أنّ المشكلة في الرأسمالية نفسها، وليس في شكلها النيوليبرالي فقط، وفي كل مكان أيضًا، وليس في أمريكا فقط.

أيضًا، إلحاح وإصرار الكاتب بتوحش النظام النيوليبرالي في شكله الأمريكي يوحي -إذا لم يقصد ذلك في بعض الفقرات- بحنين ما إلى نظام الرأسمالية «الوطنية» وإلى أيام الكينزية. سواء كان ذلك مقصودًا أم لا، علينا أن نؤكد أن هذا الشكل المعين الذي اتخذته الرأسمالية في أواخر عشرينيات القرن الماضي حتى السبعينيات والتسعينيات لم يكن سوى طريقة لإنقاذ نفسها، لإعادة تشكيل تراكم رأس المال من ناحية، وبسبب خوفها من تحركات شعبية وعمالية من ناحية أخرى. فهي فترة تاريخية معينة، يمكن أن تكون أقل «شراسة» أو «توحشًا» من الآن (لمن بالتحديد؟)، ولكن لأسباب طبقية واقتصادية – سياسية معينة، وبالتأكيد لم تكن خالية من هذه الصفات في آخر المطاف.

يستمر الكاتب بأن:

الأسس التي بنت عليها أميركا موجة تخريب المجتمعات وإلغاء دور الدولة الناظم للسياسات الوطنية، أنشأها فريدريك هايك… ففي مون بيلران السويسري عام 1947، اجتمع رهط من الاقتصاديين الذين ينتمون إلى المدارس النيوليبرالية النمساوية والأميركية والفرنسية.

تستوقفنا هنا القوة العظيمة الخرافية التي يعطيها عز الدين إلى الأفكار والأشخاص. هناك بالتأكيد لحظات تاريخية تكون لدى الأفكار والأشخاص قوى مادية، كما يقول ماركس نفسه في «نقد فلسفة الحق عند هيجل»: «النظرية أيضًا تتحول إلى قوة مادية بمجرد أن تستولي على الجماهير».

ولكن الأفكار في نفسها ليست قوة إلّا عندما تكون هناك ظروف طبقية ومادية تعطي لها هذه القوة، ولكن أن يصل الأمر بأنّ موجة النيوليبرالية تأسست -كما يقول الكاتب- على يد فريدريك هايك وبعض الاقتصاديين، هذا تبسيط غريب للأمور، وهذا لب الفكر التآمري، حيث إعطاء بعض الأفكار والأشخاص أكثر من حجمها.

يقول الكاتب أيضًا في نفس المقال:

لم يكتسب رهط مون بيلران أهمية دولية في حينها… إنما اكتسبها من دعم الشركات الكبرى والمصارف والكوادر الحكومية التي أسّست نحو 100 معهد من لوبيات الضغط التي تسمى «ثينك تانك» في النموذج الأميركي.

الرأسمالية لم تأخذ شكلها النيوليبرالي بسبب تآمر بعض الشركات الكبرى (الأمريكية بالطبع إذا اتبعنا منطق الكاتب) و«الثينك تانك» (الأمريكية أيضًا). هذا القول ليس خطأً ولكنه سطحي. فكما يقول المفكر الماركسي ديفيد هارفي في كتابه «تاريخ موجز للنيوليبرالية» (2005)، النيوليبرالية «مشروع لاستعادة السلطة الطبقية».

النيوليبرالية في قلبها وفي أساسها مشروع طبقي، فهي ليست «مشروعًا أمريكيًا» أو «صهيو – أمريكي غربي»، بل بالأساس عملية اقتصادية سياسية طبقية. فليس هناك «محور شر» ضد «محور خير».

وأيضًا، بما أنها عملية اقتصادية سياسية طبقية هدفها الأوّلي استعادة السلطة الطبقية، فلا يمكن أن يكون لها «عملاء» محليون كما يقول الكاتب؛ «لم يقتصر اعتناق أيديولوجية وأهداف الغابة على جيش العاملين والمتعاونين مع هذه المنظمات في دول الجنوب»، بل لديها طبقات رأسمالية تريد هذا الانفتاح وهذه العولمة وهذا «المشروع الأمريكي»، وهذا الأمر يقوله الكاتب بسرعة شديدة في سطر واحد في المقال كله عن دول الشرق في الاتحاد السوفييتي.

هناك بالتأكيد «عملاء» لهذه العملية، ولكنهم مجرد ترس داخل آلة ضخمة. ففي حالة تم فرض النيوليبرالية بشكل عنيف أو «سلمي» (هناك دائما عنف في هذه النوع من العمليات الرأسمالية عموما)، سنجد دائما طبقات رأسمالية محلية تريد الدخول في العولمة واحتضان المشروع «الأمريكي» النيوليبرالي.

ففي الأمثلة العنيفة، هناك تشيلي وإندونيسيا. ففي تشيلي، حدثت بالفعل إطاحة عنيفة بالعملية الاشتراكية التي بدأت عام 1970. ليس هناك شك في أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية دعمت هذه الإطاحة العنيفة بالرئيس المنتخب أليندي. ولكن ما لم يقله -أو يتناساه- التيار اليساري التآمري الذي يجسده الأستاذ قاسم عز الدين، هو أنّه كان هناك دعم محلي قوي من الطبقة الرأسمالية التشيلية لهذا العنف (انظر إلى كتاب ديفيد هارفي المذكور أعلاه، ص7)، ناهيك عن تخريب الاقتصاد من قبل الطبقة الرأسمالية نفسها.

أما بالنسبة لإندونيسيا، فقد تم اغتيال أكثر من 500.000 شيوعي من قبل سوهارتو، بدعم أمريكي بالتأكيد، ولكن أيضًا بدعم محلي (انظر إلى علاقات سوهارتو برجال أعمال مثل مجموعة سليم، وانظر أيضًا إلى نفس كتاب ديفيد هارفي، ص34).

أما بالنسبة للنماذج «السلمية»، أبسط مثال على ذلك هي الصين. فهناك فصل بأكمله في كتاب ديفيد هارفي عن «النيوليبرالية ذات الخصائص الصينية»، يشرح فيه بالتفصيل لماذا وكيف انفتحت الصين -بطريقتها الخاصة- للنيوليبرالية. فمنذ السبعينيات (من أول زيارة نيكسون الأمريكي عام 1972، أي قبل موت ماو تسي تونج بأربع سنوات) مرورًا بالألفينات (دخول الصين الشيوعية في منظومة التجارة العالمية الأمريكية النيوليبرالية)، انفتحت الصين إلى النيوليبرالية، بدون انقلاب، بدون عنف خارجي، وبمحض إرادتها (أي إرادة واحتياج طبقتها الرأسمالية). إذن، أين المؤامرة الأمريكية هنا؟

هناك عملية تحدث داخل الرأسماليات الوطنية (التي يمجدها الأستاذ قاسم عز الدين ويندم على سقوطها بسبب «المؤامرات الأمريكية») وهي أن الطبقات الرأسمالية «الوطنية» تأتي في لحظة معينة من تراكم رأس المال وتريد التخلص من القيود الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الدولة لأسباب عديدة، مثل ما حدث في الصين كما رأينا، وأيضًا في مصر مثلاً أو في الجزائر مع الرئيس شاذلي بن جديد.

إذن، النيوليبرالية عملية رأسمالية عالمية ومحلية، ومشروع طبقي بالأساس، سواء حدث ذلك بالسلمية أو بالعنف، والرأسمالية الأمريكية جزء ضخم من هذه العملية ورأس حربتها. فالمسألة مسألة بنية اقتصادية -اجتماعية وليس فقط مؤامرة لبعض الشركات الأمريكية والاقتصاديين الذين يجتمعون في غرف مغلقة. الفكر التآمري لهذا التيار ومؤيديه يجعلهم يركزون على القشور وفقط.

المنظمات غير الحكومية كمؤامرة

مشكلة الفكر التآمري أنه كالوحش، يلتهم كل شيء وأي تحليل في نهاية الأمر. هذا الفخ سقط فيه الأستاذ «قاسم عز الدين». فكل شيء يصبح معه مؤامرة أمريكية في نهاية المطاف. هذا يشمل رؤيته مثلاً في موضوع المنظمات غير الحكومية وما شابه من التنظيمات. فيقول:

ثورات «الربيع العربي» أخذت طابعًا مختلفًا، أساسه تحوّل المنظومة والمؤسسات الدولية إلى اعتماد «المنظمات غير الحكومية» أدوات تحريضية وشبكة تنظيمية لتحقيق الأهداف والإستراتيجية التي أرساها ريغان–تاتشر… بمشاركة معظم النخب العربية النيوليبرالية والناشطين و«الخبراء والمفكرين» من كل حدب وصوب.

ولكن هذه مجرد قشور أيضًا. فنحن لا ننفي أن من الممكن أن تتوغل داخل المنظمات غير الحكومية «أجندات خارجية»، أو تصنعها من الأساس. ولكن هناك مشكلة في هذا الخطاب.

أولاً، لم يتساءل الأستاذ قاسم عز الدين وتياره بأكمله لماذا بالتحديد صعدت المنظمات غير الحكومية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ثانيًا، الموضوع مرة أخرى ليس محض «مؤامرة أمريكية/غربية» كما يقول الكاتب.

يرجع انفجار عدد المنظمات غير الحكومية لأسباب عديدة، والموضوع مرة أخرى بنيوي وليس تآمريًا. فمنظمات حقوق الإنسان صعدت في فترة الثمانينيات والتسعينيات بسبب انسحاب الدولة من أدوارها في مجالات اجتماعية معينة (الحماية الاجتماعية، الدور الاقتصادي في العموم، إلخ)، وبسبب انهيار الأحزاب الجماهيرية اليسارية (خصوصًا في الغرب)، ما أدى إلى فراغ سياسي واقتصادي واجتماعي توغلت فيه المنظمات غير الحكومية. فهي كما يرى ديفيد هارفي: «أحصنة طروادة النيوليبرالية».

ثم إنّ هذا النقد التآمري لمنظمات المجتمع المدني وغير الحكومية سطحي للغاية ويبتعد عن خطورة أخرى لا يتم نقدها تمامًا من قبل ما نسميه باليسار التآمري، بسبب هاجسه الأسوأ (المؤامرات).

ضمن عواقب وخطورة النيوليبرالية وصعود النمط الاستهلاكي الرأسمالي (سواء في الغرب أو في دول العالم الثالث)، تفتيت المجتمعات وتحويلهم إلى أفراد منعزلة مستهلكة فقط. فكما قالت أحد رؤوس حربة النيوليبرالية، مارجريت تاتشر: «لا يوجد شيء اسمه المجتمع». فتفتيت المجتمعات إلى أفراد منعزلة هو قلب المشروع والعملية النيوليبرالية. وعلى هذا الأساس تُخلق خطورة أخرى، وهي إضفاء الطابع الفردي على النضال ضد رأس المال. فمن نضال جماعي طبقي ضد استغلال رأس المال، نجد أفرادًا منعزلين يتصارعون من أجل حقوقهم في ساحة المحاكم وفقط. ومن هنا يدخل النضال الاجتماعي والطبقي في المحاكم ويبقى بداخلها.

أيضًا، الإيمان بحقوق الإنسان أو اعتباره المعيار السياسي لكل شيء من قبل اليسار الليبرالي والديمقراطي الاجتماعي، وانفجار عدد المنظمات الحقوقية يثبت انتصار الليبرالية في المجال الفكري، وذلك لأن حقوق الإنسان في شكل إعلانها من قبل ثوار فرنسا في عام 1789، أو في إعلاناتها المتتالية (مثل الإعلان العالمي الشهير عام 1948)، هي في آخر المطاف حقوق ليبرالية برجوازية، من حيث تقديسها لحق الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وأنّ الحقوق في نظريتها شكلية بحتة، وأيضًا رؤيتها الفردية للمجتمع، إلخ. في كتابه حول المسألة اليهودية، يقول كارل ماركس:

نثبت قبل كل شيء أن ما يسمى بحقوق الإنسان، وهي خلاف حقوق المواطن، ليست سوى حقوق أعضاء المجتمع البرجوازي، هذا يعني الإنسان الأناني، الإنسان المنفصل عن الناس وعن الجماعة.

تقديس حقوق الإنسان وانتشار هذا الفكر، مع انفجار المنظمات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية في الحقبة النيوليبرالية لأسباب موضوعية وليست تآمرية كما رأينا، يثبت انتصار الفكر الليبرالي في المجال العام، مما يؤدي إلى تمييع الصراع الطبقي عمومًا. فإذا كان هناك «أجندات أمريكية» داخل هذه المنظمات، فهذا أيضًا ترس داخل عملية اقتصادية سياسية فكرية كبيرة.

فبالنسبة لنا، نقد الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني من هذه الزاوية النظرية أكثر دقة من الدخول في مأزق الفكر التآمري.

بين التناقضات الفكرية والخطاب الفاشي

لمواجهة هذه المؤامرات، الحل بسيط بالنسبة لعز الدين، حيث «لا تنجح مواجهة ثورات التخريب والانهيار ومنبع الفساد بغير رؤية بديلة وإستراتيجية مواجهة، وبغير تخطيط وتنظيم آليات عمل في المجتمع المدني من الفئات الشعبية والشباب والعمال والمزارعين والجمعيات المهنية والروحية والثقافية… والبلديات والمنشآت الصغيرة في منتديات اجتماعية للمقاومة الشعبية من أجل تغيير منظومة الخراب والانهيار»، وهو يرى الحل لمواجهة «ثورات التخريب» الحشد الجماهيري وحشد المجتمع المدني.

وهذا بالنسبة لنا هو قلب تناقض الفكر التآمري اليساري. ففي الفكر اليميني (سواء كان تآمريًا أم لا)، ليس هناك أي ثقة في الطبقات الشعبية أو في «الشعب». اليمين بالأساس (باختلاف تياراته) يريد الحفاظ على الوضع الاجتماعي كما هو. فهو يكره الحشد الجماهيري أو «المقاومة الشعبية»، إلخ. وبالتالي يمكنه أن يعطي «حلولاً» أخرى ضد «المؤامرات الخارجية أو الداخلية» متماسكة أكثر مع خطابه عمومًا.

على عكس اليمين، اليسار التآمري يدخل -بسبب خطابه- في مأزق فكري لا يستطيع الخروج منه. فمن ناحية هو قلق من «ثورات التخريب»، ومن ناحية أخرى يريد من «الجماهير» أن تحارب وتقاوم «ثورات التخريب» تلك. ولكن على أي أساس يحدد الأستاذ قاسم وتياره السياسي أنّ هذا الحراك الجماهيري هو شرعي و«مقاوم» أم محض «مؤامرة داخلية/خارجية» و«ثورة تخريب»؟ ألم تُقمع تحركات العمال والشباب والفئات الشعبية في إيران (فئات وطبقات يرى الأستاذ قاسم أنها حامية الوطن ضد «التآمر» و«التخريب») مثلاً في 2019 وذلك باسم المؤامرة كما يقول علي خامنئي؟ فمتى يكون حراك الطبقات الشعبية شرعيًا ومتى لا يكون كذلك؟ من يحدد ذلك؟

ما يريده الأستاذ قاسم هو تحرك شعبي «حر» -نظريًا- يحارب «المؤمرات»، لكنّه مؤطر في الواقع، وذلك بسبب رؤيته التآمرية، ورؤية تياره لما يسمونه «المؤمرات الخارجية». ألا يرى الأستاذ قاسم أنه، بالتحديد تحت اسم محاربة المؤمرات الغربية، قُتل متظاهرو 2019 في إيران مثلاً؟ وهو لا يخفي هذه الإرادة السياسية في مقاله، ولا يخفي هذا التناقض الصارخ، حيث يقول:

لكنّ تنظيم هذه الاحتجاجات والاهتمامات يقع على عاتق هيئات التنسيق من القوى الفاعلة المسلّحة برؤية التغيير في إطار المقاومة الاجتماعية الشاملة.

فهو يريد أن يطلق العنان لقوة الجماهير ولكن يحجمها في نفس الوقت، كما لو كانت الطبقات الشعبية لعبة في أيديهم. فالطبقات الشعبية والعاملة مثل الأطفال بالنسبة لهذا التيار، لا تعرف مصلحتها الطبقية، وعليها دائمًا أن تكون تحت السيطرة. فبالنسبة لهم -حتى لو بطريقة غير واعية- تلك الطبقات وسيلة وفقط لا غير. والسؤال الذي نطرحه للأستاذ قاسم هو: ماذا يحدث لتلك الطبقات الشعبية والعاملة عندما تخرج عن السيطرة، أو عن المشروع الذي يريده «محور المقاومة» و«هيئات التنسيق»؟

ويمكننا التعمق في تحليل هذا الخطاب (خصوصًا آخر فقرات المقال)، حتى لو كان ذلك التحليل صادمًا إلى حد ما لبعض القراء.

فمثلاً يمكننا أن نقرأ في مقال الأستاذ قاسم:

فلكل فئة احتياجات واهتمامات خاصة تسعى لتحقيقها في الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية العامة، وهو يشمل المنتجين والشغيلة، ويشمل أيضًا الصناعيين والمزارعين والطامحين إلى التغيير من كادرات المحامين والقضاء والأطباء… لكن تنظيم هذه الاحتجاجات والاهتمامات يقع على عاتق هيئات التنسيق من القوى الفاعلة المسلّحة برؤية التغيير في إطار المقاومة الاجتماعية الشاملة.

هذا يمكن أن يذكرنا بسهولة بأي خطاب فاشي أوروبي (وهذا ليس وصمًا أخلاقيًا، ولكن تحليل لخطاب معين يدعي أنه «يساري» وينادي بـ«أحرار العالم») من عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. الفاشية ليست شكلًا واحدًا، ولكن هناك خطابات ورؤى فاشية. وهنا أمامنا خطاب ذو نزعات فاشية. ولكن لماذا يمكننا أن نقول ذلك؟

أولًا، لأنّ تلك الأيديولوجية تدعي أن الجسد الاجتماعي ليس متناقضًا لأن هناك «أمة» موحدة للمجموع السياسي، مثلاً في هذا الخطاب لموسوليني:

لقد عبّرنا -نحن الفاشيين- دائمًا عن لا مبالاتنا الكاملة تجاه كل النظريات. لقد تجرأنا -نحن الفاشيين- على نبذ كل النظريات السياسية التقليدية، ونحن أرستقراطيون وديمقراطيون، وثوريون ورجعيون، وبروليتاريون ومناهضون للبروليتاريا، ومسالمون، ومناهضون للسلام. يكفي أن يكون لدينا نقطة ثابتة واحدة: الأمة.

فبالنسبة للفاشية، ليس هناك طبقات مجتمعية منقسمة ذات مصالح متناقضة بسبب المجتمع الطبقي والرأسمالية. فالجسد المجتمعي واحد غير قابل للتجزئة. وفقًا لما جاء في الفقرة الأخيرة من مقاله، إذ يضع على نفس المستوى المنتجين والشغيلة والصناعيين والزراعيين والكوادر المتوسطة والعليا من الأطباء والقضاء والمحامين. بالطبع تلك الفئات لن تنظم نفسها ذاتيًا (لأن بالنسبة لهذه التيارات السلطوية، التنظيم الذاتي والإدارة الذاتية محض يوتوبيا وخرافات تافهة لبعض الشباب الحالم)، ولكن سوف يشرف عليها وينظمها دولة (مثل إيران) أو حزب (كحزب الله) أو «هيئات التنسيق من القوى الفاعلة المسلّحة» لتوجيه وتنظيم طاقة المجتمع غير القابل للتجزئة. ألم تعتمد الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية على «الجماهير» وعلى الطبقة الوسطى المرعوبة بشكل واسع ومشوش؟ وكانت تلك الطبقات منظمة من قبل الحزب الفاشي والنازي؟

ثانيًا، مقال وخطاب عز الدين وتياره ذو نزعات فاشية بسبب هاجسه «بالمؤمرات» و«العدو الخارجي والداخلي». فطاقة المجتمع موجهة (كما يتمناه عز الدين) للعدو الخارجي-الداخلي لمحاربة «المؤامرات» الخارجية/الداخلية كما رأيناه في المقال. كما كان ذلك أيضًا في ألمانيا النازية مع «اليهود والبلاشفة». بالنسبة للفيلسوف الإيطالي والروائي أومبرتو إيكو في «Ur fascism»، هناك 14 سمة للفاشية، من ضمنهم «هاجس المؤامرة» حيث يقول:

وهكذا، في جذور علم النفس الفاشستي، يوجد هوس بالمؤامرة، ربما مؤامرة دولية. فيجب أن يشعر المؤيدون للفاشية بأنهم محاصرون.

خصومة واحدة وليس مشروعًا واحدًا

هذا الهاجس لدى بعض اليساريين بالتآمر الخارجي والداخلي يؤدي كما رأينا إلى عدة مشاكل فكرية وسياسية. ونحن نؤكد أننا لا ننفي وجود «مؤمرات»، ولكن لا بد من أخذها داخل آلة أكبر بكثيرـ، وهي النظام الرأسمالي العالمي. فإنّ حالات المؤامرات الموجودة بالفعل ليست سوى ظاهرة ثانوية للاستغلال الرأسمالي والإمبريالية.

فمن ناحية، هاجس بعض اليسار بنظريات المؤامرة يضعف التحليل الطبقي والاقتصادي والاجتماعي (الذي يعطي القوة الفكرية لليسار بالأساس) لحركة رأس المال على المستوى العالمي والمحلي ويرى اتجاهات عالمية ومحلية ذات قاعدة بنيوية كأنها محض مؤامرة، مما يؤدي إلى تسطيح مخيف للأمور.

من ناحية أخرى، يصبح الفكر التآمري اليساري مثل الكلب الذي يقضم ذيله كما يقول الفرنسيون، حيث إنه يدخل في تناقضات فكرية غير قابلة للحل. فمن ناحية هناك تمجيد دائم لطاقة الجماهير ودعوى مباشرة لحشدها ضد «المؤمرات»، ولكن هناك في الممارسة السياسية اليومية رعب -غير واعٍ أحيانًا- من طاقة الجماهير ورغبة في تحجيم قوتها وطاقتها. فنظريات المؤامرة يمكن أن تنقلب ضد تلك الجماهير عندما تخرج عن السيطرة أو عندما تكون خارج الأجندة الفكرية لذلك اليسار أو ذلك الخطاب.

أخيرًا، نرى أن ذلك الهاجس التآمري اليساري يؤدي في الغالب إلى نزعات فاشية، بسبب رغبة في «لم الشمل»، وبسبب الرغبة في تنظيم «الجماهير» واستخدام خطاب ديماجوجي وتحشيدي ضد العدو الخارجي مما يجعل المجتمع في حالة برانويا مستمرة، وإحساس بالحصار المستمر كما قال أومبرتو إيكو. فتاريخيًا، الفكر التآمري هو نتاج فكري يميني، أما أن ينادي عز الدين في مقاله على أحرار العالم، أو أن تمجد قناة «الميادين» قاسم سليماني عبر تشبيهه بتشي جيفارا، فهذ لا يغير من طبيعة فكر صاحبه في شيء.

في السياسة، العداوات المشتركة لا تعني ضروريًا أن هناك نفس المشروع السياسي، فدماء المعدمين من يسار إيران 1988 لم تجف بعد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.